لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

1.كتاب : الوابل الصيب من الكلم الطيب المؤلف : أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي

المؤلف : أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي
تحقيق : محمد عبد الرحمن عوض/عدد الأجزاء / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : الوابل الصيب من الكلم الطيب لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي
دار النشر : دار الكتاب العربي - بيروت - 1405 - 1985
الطبعة : الأولى/تحقيق : محمد عبد الرحمن عوض
عدد الأجزاء / 1[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
(1/10)"""""" صفحة رقم 11 """"""
( المقدمة )
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم الله سبحانه وتعالى المسؤول المرجو الاجابه ان يتولاكم في الدنيا والاخرة وان يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وان يجعلكم ممن اذا انعم عليه شكر واذا ابتلى صبر واذا اذنب استغفر فان هذه الامور الثلاثة عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه واخراه ولاينفك عبد عنها ابد فان العبد دائم التقلب بين هذه الاطباق الثلاث
الاول نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدها الشكر وهو مبني على ثلاثة اركان الاعتراف بها باطنا والتحدث بها ظاهرا وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها
الثاني محن من الله تعالى يبتليه بها ففرضه فيها الصبر والتسلي والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه فمدار الصبر على هذه الاركان الثلاثة فاذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة واستحالت البلية عطية وصار المكروه محبوبا فان الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه وانما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته فان لله تعالى على العبد عبودية الضراء
(1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
الضراء وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية فيما يحب واكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ففيه تفاوت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه اليها من غير خوف من الناس عبودية ونفقته في الضراء عبودية ولكن فرق عظيم بين العبوديتين فمن كان عبدا لله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى ) أليس الله بكاف عبده ( وفي القراءة الاخرى عباده وهما سواء لان المفرد مضاف فينعم عموم الجمع فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان قال تعالى ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( ولما علم عدو الله ابليس ان الله تعالى لا يسلم عباده اليه ولا يسلطه عليهم قال ) فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( وقال تعالى ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ( فلم يجعل لعدوه سلطانا على عباده المؤمنين فانهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه وان اغتال عدوه احدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل فهذا لا بد منه لان العبد قد بلي بالغفلة
(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
والشهوه والغضب ودخوله على العبد من هذه الابواب الثلاثة ولو احترز العبد ما احترز العبد ما احترز فلا بد له من غفلة ولا بد له من شهوة ولا بد له من غضب
وقد كان ادم أبو البشر ( صلى الله عليه وسلم ) من احلم الخلق وارجحهم عقلا واثبتهم ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى اوقعه فيما اوقعه فيه فما الظن بفراشه الحلم و من عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن الا غيلة على غرة وغفلة فيوقعه ويظن انه لا يستقبل ربه عز وجل بعدها و ان تلك الوقعة قد اجتاحته واهلكته وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله
فإذا اراد الله بعبده خيرا فتح له من ابواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجا اليه ودوام التضرع والدعاء و التقرب اليه بما امكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمته حتى يقول عدو الله يا ليتنى تركته ولم اوقعه
وهذا معنى قول بعض السلف ان العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الراس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب انفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الامور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فاذا اراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده وان اراد به غير ذلك خلاه
(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه
فإن العارفين كلهم مجمعون على ان التوفيق ان لايكلك الله تعالى إلى نفسك والخذلان ان يكلك الله تعالى إلى نفسك فمن اراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجا إلى الله تعالى والافتقار اليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه واحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لايمكنه ان يسير الا بهما فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه
قال شيخ الإسلام العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه
سيد الاستغفار ان يقول العبد اللهم انت ربي لا اله الا انت خلقتني وانا عبدك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت ابوء بنعمتك علي وابوء بذنبي فاغفر لي انه لايغفر الذنوب الا انت فجمع في قوله ( صلى الله عليه وسلم )
أبوء لك بنعمتك علي وابوء بذنبي مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان
(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبه في كل وقت وان لايرى نفسه الا مفلسا واقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الافلاس فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما ولا سببا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والافلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره اليه وان في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وانه ان تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر الا ان يعود إلى الله تعالى عليه ويتداركه برحمته
ولا طريق إلى الله اقرب من العبودية ولا حجاب اغلظ من الدعوى والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلهاحب كامل وذل تام ومنشا هذين الاصلين عن ذينك الاصلي المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام واذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الاصلين لم يظفر عدوه به الا على غرة وغيلة وما اسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته
فصل استقامة القلب وانما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجواره فاستقامة
القلب بشيئين أحدهما ان تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب
(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
فاذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه فرتب على ذلك مقتضاه
ما اسهل هذا بالدعوى و ما اصعبه بالفعل فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان و ما اكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره واميره وشيخه واهله على ما يحبه الله تعالى فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها وسنة الله تعالى فيمن هذا شانه ان ينكد عليه محابه وينغصها عليه ولا ينال شيئا منها الا بنكد وتنغيص جزاء له على ايثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى
وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع ان من احب شيئا سواه عذب به ولا بد وان من خاف غيره سلط عليه وان من اشتغل بشئ غيره كان شؤما عليه ومن اثر غيره عليه لم يبارك فيه ومن ارضى غيره بسخطه اسخطه عليه ولا بد الامر الثاني الذي يستقيم به القلب تعظيم الامر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الامر الناهي فان الله تعالى ذم من لا يعظم امره ونهيه قال سبحانه وتعالى ) ما لكم لا ترجون لله وقارا ( قالوا في تفسيرها مالكم لا تخافون لله تعالى عظمة ما احسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الامر والنهي هو ان لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال ولايحملا على علة توهن الانقياد
(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
ومعنى كلامه ان اول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم امره ونهيه وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي ارسل بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لامره ونهيه وانما يكون ذلك بتعظيم امر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه و اجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لامر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الامر والنهي ويكون بحسب هذا التعظيم من الابرار المشهود لهم بالايمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الاكبر
(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
فإن الرجل قد يتعاطى فعل الامر لنظرالخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم ويتقي المناهي خشية سقوطه من اعينهم وخشية العقوبات الدنيوبة من الحدود التي رتبها الشارع ( صلى الله عليه وسلم ) على المناهي فهذا ليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الامر والنهي ولا تعظيم الامر الناهي فعلامة التعظيم للاوامر رعاية اوقاتها وحدودها والتفتيش على اركانها وواجباتها وكمالها والحرص على تحينها في اوقاتها والمسارعة اليها عند وجوبها والحزن والكابة والاسف عند فوت حق من حقوقها كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم انه تقبلت منه صلاته منفردا فانه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا ولو ان رجلا يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارا لاكل يديه ندما واسفا فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من الف والف الف وما شاء الله تعالى
فادا فوت العبد عليه هذا الربح قطعا وكثير من العلماء لا صلاة له وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها فهذا عدم تعظيم امر الله تعالى في قلبه وكذلك اذا فاته اول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى أو فاته الصف الاول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته كلما كثر الجمع كان احب إلى الله عز وجل وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة واخرى ترفع درجة وكذلك
(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لاروح فيه افلا يستحي العبد ان يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا أو جارية ميته فما ظن هذا العبد ان تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو امير اوغيره فهكذا سواء الصلاة الخيالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الامة الميت الذي يريد اهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وان اسقطت الفرض في احكام الدنيا ولا يثبه عليها فانه ليس للعبد من صلاته الا ما عقل منها كما في السنن ومسند الامام أحمد وغيره عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
ان العبد ليصلي الصلاة وما كتب له الا نصفها الا ثلثها الا ربعها الا خمسها حتى بلغ عشرها
وينبغي ان يعلم ان سائر الاعمال تجري هذا المجرى فتفاضل الاعمال عند الله تعالى يتفاضل ما في القلوب من الايمان والاخلاص والمحبة وتوابعها وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا والناقص بحسبه وبهاتين القاعدتين تزول اشكالات كثيرة وهما
(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
تفاضل الاعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الايمان وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه وبهذا يزول الاشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه
ان صوم يوم عرفة يكفر سنتين ويوم عاشوراء يكفر سنة قالوا فاذا كان دأبه دائما انه يصوم يوم عرفه فصامه وصام يوم عاشوراء فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة واجاب بعضهم عن هذا بان ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات
ويالله العجب فليت العبد اذا اتى بهذه المكفرات كلها ان تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض والتكفير بهذه مشروط بشروط موقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه فان علم العبد انه جاء بالشروط كلها وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير واما عمل شملته الغفلة أو لاكثره وفقد الاخلاص الذي هو روحه ولم يوف حقه ولم يقدره حق قدره فاي شئ يكفر هذا فان وثق العبد من عمله بانه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى انه قد بخسه حقه وانه قد استهان بحرمته فهذا أي شئ يكفر ومحبطات الاعمال ومفسداتها اكثر من ان تحصر وليس الشان في العمل انما الشان في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه
(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
فالرياء وان دق محبط للعمل وهو ابواب كثيرة لاتحصر وكون العمل غير مقيد باتباع السنة ايضا موجب لكونه باطلا والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والاحسان والصلة مفسد لها كما قال سبحانه وتعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ( واكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات وقد قال تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( فحذر المؤمنين من حبوط اعمالهم بالجهر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما يجهر بعضهم لبعض وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها فما الظن بمن قم على قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهدية وطريقة قول غيره وهدية وطريقة
اليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر ومن هذا قوله ( صلى الله عليه وسلم )
من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن ابيها لزيد بن ارقم رضي الله عنه لما باع بالعينة انه قد ابطل جهاده مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الا ان يتوب وليس التبايع بالعينة ردة و انما غايته انه معصية فمعرفة ما يفسد الاعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من اهم ما ينبغي ان يفتش عليه العبد ويحرص على عمله ويحذره وقد جاء في اثر معروف ان العبد ليعمل العمل سرا لا يطلع عليه احدا الا الله تعالى
(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
فيتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية فان تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى ابطله كما لو فعله لذلك
فان قيل فإذا تاب هذا هل يعود اليه ثواب العمل قيل ان كان قد عمله لغير الله تعالى واوقعه بهذه النية فانه لا ينقلب صالحا بالتوبة بل حسب التوبة ان تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه واما ان عمله لله تعالى خالصا ثم عرض له عجب ورياء أو تحدث به ثم تاب من ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط وقد يقال انه لا يعود اليه بل يستانف العمل والمسالة مبنية على اصل وهو ان الردة هل تحبط العمل بمجردها أو لا يحبطه الا الموت عليها فيه للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن الامام أحمد رضي الله عنه فان قلنا تحبط العمل بنفسها فمتى استلم استانف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الإسلام وان قلنا لا يحبط العمل الا اذا مات مرتدا فمتى عاد إلى الإسلام عاد اليه ثواب عمله وهكذا العبد اذا فعل حسنة ثم فعل سيئة تحبطها ثم تاب من تلك السيئة هل يعود اليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة يخرج على هذا الاصل
ولم يزل في نفسي من هذه المسالة ولم ازل حريصا على الصواب فيها وما رايت احدا شفي فيها والذي يظهر والله تعالى اعلم وبه المستعان ولا قوة الا به ان الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل ويكون الحكم فيها للغالب وهو يقهر المغلوبون ويكون الحكم له حتى كان المغلوب لم يكن فاذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته ومتى تاب من السيئة ترتب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة فإذا عزمت التوبة وصحت ونشات من صميم القلب احرقت ما مرت عليه من السيئات
(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
حتى كانها لم تكن فان التائب من الذنب لا ذنب له
وقد سال حكيم بن حزام رضي الله عنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن عتاقة وصلة وبر فعله في الشرك هل يثاب عليه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
اسلمت على ما اسلفت من خير فهذا يقتضي ان الإسلام اعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك فلما تاب من الشرك عاد اليه ثواب حسناته المتقدمة فهكذا اذا تاب العبد توبة نصوحا صادقة خالصة احرقت ما كان قبلها من السيئات واعادت عليه ثواب حسناته يوضح هذا ان السيئات والذنوب هي امراض قلبية كما ان الحمى والاوجاع وامراض بدنية والمريض اذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت اليه قوته وافضل منها حتى كانه لم يضعف قط فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات والمرض بمنزلة الذنوب والصحة والعافية بمنزلة التوبة وكما ان المريض من لاتعود اليه صحته ابدا لضعف عافيته ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الاسباب وتدافعها ويعود البدن إلى كماله الاول ومنهم من يعود اصح مما كان واقوى وانشط لقوة اسباب العافية وقهرها وغلبتها لاسباب الضعف والمرض حتى ربما كان مرض هذا سببا لعافيته كما قال الشاعر
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الاجسام بالعلل
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث والله الموفق لا اله غيره ولا رب سواه
(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
فصل دلائل تعظيم الامر والنهي
واما علامات تعظيم المناهي فالحرص على التباعد من مظانها واسبابها وما يدعو اليها ومجانبة كل وسيلة تقرب منها كمن يهرب من الاماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها وان يدع ما لا باس به حذرا مما به باس وان يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروه و مجانبة من يجاهد بارتكابها ويحسنها ويدعو اليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها فان مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه ولا يخالطه الا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته ومن علامات تعظيم النهي ان يغضب لله عز وجل اذا انتهكت محارمه وان يجد في قلبه حزنا وكسرة اذا عصى الله تعالى في ارضه ولم يضلع باقامة حدوده وأوامره ولم يستطع هو ان يغير ذلك
ومن علامات تعظيم الامر والنهي ان لايسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط مثال ذلك ان السنة وردت بالابراد بالظهر في شدة الحر فالترخيص الجافي ان يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصا جافيا وحكمه هذه الرخصة ان الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر فمن حكمة الشارع ( صلى الله عليه وسلم ) ان امرهم بتاخيرها حتى ينكسر الحر فيصلى العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والاقبال على الله تعالى
(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
ومن هذا نهيه ( صلى الله عليه وسلم ) ان يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة ولايحصل المراد منها فمن فقه الرجل في عبادته ان يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له واقبل بكليته عليه فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه
والمقصود ان لا يترخص ترخصا جافيا ومن ذلك انه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه فاذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة وقتها من غير مشقة فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد اكثر المسافرين ان سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد بل الجمع رخصة والقصر سنة راتبة فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن واما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون ومن هذا ان الشبع في الاكل رخصة غير محرمة فلا ينبغي ان يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكون همه بطنه قبل الاكل وبعده بل ينبغي للعبد ان يجوع ويشبع و يدع الطعام وهو يشتهيه وميزان ذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم )
ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ولا يجعل الثلاثة الاثلاث كلها للطعام وحده
واما تعريض الامر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء
(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
متغاليا فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيره الاحرام إلى ان تفوته مع الامام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا ياكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع ان ياكل شيئا من بلاد الإسلام وكان يتقوت بما يحمل اليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فاوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في اساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان
فحقيقة التعظيم للامر والنهي ان لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال فان المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه وما امر الله عز وجل بأمر الا وللشيطان فيه نزغتان اما تقصير وتفريط واما افراط وغلو فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فانه ياتي إلى قلب العبد فيستامه فان وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا اخذه من هذه الخطة فثبطه واقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التاويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المامور جملة
وان وجد عنده حذرا وجدا وتشميرا ونهضه وايس ان ياخده من هذا الباب امره بالاجتهاد الزائد وسول له ان هذا لايكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك ان تزيد على العاملين وان لا ترقد اذا رقدوا و لا تفطر اذا افطروا وان لا تفتر اذا فتروا واذا غسل احدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل انت سبعا واذا توضا للصلاة فاغتسل انت لها ونحو ذلك من الافراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزه وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الاول على التقصير دونه وان لايقربه ومقصوده من الرجلين اخراجهما
(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
عن الصراط المستقيم هذا بان لا يقربه ولا يدلو منه وهذا بان يجاوزه ويتعداه وقد فتن بهذا اكثر الخلق ولا ينجي من ذلك الا علم راسخ وايمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط والله المستعان
ومن علامات تعظيم الامر والنهي ان لا يحمل الامر على علة تضعف الانقياد والتسليم لامر الله عز وجل بل يسلم لامر الله تعالى وحكمته ممتثلا ما امر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر فان ظهرت له حكمة الشرع في امره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيرا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف فان الله عز وجل شرع الصلوات الخمس اقامة لذكره واستعمالا للقلب والجوارح واللسان في العبودية واعطاء كل منها قسطة من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد فوضعت الصلاة على اكمل مراتب العبودية
فان الله سبحانه وتعالى خلق هذا الادمي واختاره من بين سائر البرية وجعل قلبه محل كنوزه من الايمان والتوحيد والاخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة وجعل ثوابه اذا قدم عليه اكمل الثواب وافضله وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة وبالغضب والغفلة وابتلاه بعدوه ابليس لا يفتر عنه فهو يدخل عليه من الابواب التي هي من نفسه وطبعه فتميل نفسه معه لانه يدخل عليها بما تحب فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد ثلاثة مسلطون امرون فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم والجوارح الة منقادة فلا يمكنها الا الانبعاث
(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
فهذا شأن هذه الثلاثة وشان الجوارح فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف امروا واين يمموا
هذا مقتضى حال العبد فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به ان اعانه بجند اخر وامده بمدد اخر يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه فارسل اليه رسوله وانزل عليه كتابه وايده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان فاذا امره الشيطان بأمر امره الملك بأمر ربه وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك فهذا يلم به مرة وهذا مرة والمنصور من نصره الله عز وجل والمحفوظ من حفظه الله تعالى وجعل له مقابل نفسه الامارة نفسا مطمئنة اذا امرته النفس الامارة بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة وإذا نهته الامارة عن الخير امرته به النفس المطمئنة فهو يطيع هذه مرة وهذه مرة وهو الغالب منهما وربما انقهرت احداهما بالكلية قهرا لاتقوم معه ابدا وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الامارة نورا وبصيرة وعقلا يرده عن الذهاب مع الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الامارة نورا وبصيرة وعقلا يرده عن الذهاب مع الهوى فكلما اراد ان يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور الحذر الحذر فان المهالك والمتالف بين يديك وانت صيد الحرامية وقطاع الطريق ان سرت خلف هذا الدليل فهو يطيع الناصح مرة فيبين له رشده ونصحه ويمشي خلف دليل الهوى مرة فيقطع عليه الطريق ويؤخذ ماله
(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
ويسلب ثيابه فيقول ترى من اين اتيت
والعجب انه يعلم من اين اتى ويعرف الطريق التي قطعت عليه واخذ فيها ويابى الا سلوكها لان دليلها قد تمكن منه وتحكم فيه وقوي عليه ولو اضعفه بالمخالفة له وزجره اذا دعاه ومحاربته اذا اراد اخذه لم يتمكن منه ولكن هو مكنه من نفسه وهو اعطاه يده فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه فيباشر ثم يسومه سوء العذاب فهو يستغيث فلا يغاث فهكذا يستاسر للشيطان والهوى ولنفسه الامارة ثم يطلب الخلاص فيعجز عنه فلما ان بلي العبد بما بلي به اعين بالعساكر والعدد والحصون وقيل قاتل عدوك وجاهده فهذه الجنود خذ منها ما شئت وهذه الحصون تحصن باي حصن شئت منها ورابطه إلى الموت فالامر قريب ومدة المرابطة يسيرة جدا فكانك بالملك الاعظم وقد ارسل اليك رسله فنقلوك إلى داره واسترحت من هذا الجهاد وفرق بينك وبين عدوك واطلقت في داره الكرامة تتقلب فيها كيف شئت وسجن عدوك في اصعب الحبوس وانت تراه فالسجن الذي كان يريد ان يودعك فيه قد ادخله واغلقت عليه ابوابه وايس من الروح والفرج وانت فيما اشتهت نفسك وقرت عينك جزاء على صبرك في تلك المدة اليسيرة ولزومك الثغر للرباط وما كنت الا ساعة ثم انقضت وكان الشدة لم تكن
فان ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه فليتدبر قوله عز وجل ) كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة ( وقوله عز وجل ) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( وقوله عز وجل قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسال العادين قال ان لبثتم الا قليلا لو انكم كنتم تعملون وقوله عز وجل يوم يفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم ان لبثتم الا عشرا نحن اعلم بما يقولون اذ يقول امثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما
(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وخطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اصحابه يوما فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال وذلك عند الغروب قال
انه لم يبق من الدنيا فيما مضى الا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه فليتامل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث وليعلم أي شئ حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدنيا باسرها ليعلم انه في غرور واضغاث احلام وانه قد باع سعادة الابد والنعيم المقيم بحظ خسيس لايساوي شيئا ولو طلب الله تعالى والدار الاخرة لاعطاه ذلك الحظ موفورا واكمل منه كما في بعض الاثار ابن ادم بع الدنيا بالاخرة تربحهما جميعا ولاتبع الاخرة بالدنيا تخسرهما جميعا وقال بعض السلف ابن ادم انت محتاج إلى نصيبك من احوج فان بدات بنصيبك من الدنيا اضعت نصيبك من الاخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر وان بدات بنصيبك من الاخرة فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظاما وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته ايها الناس انكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وان لكم معادا يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شئ وجنته التي
(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
عرضها السموات والأرض وانما يكون الامان غدا لمن خاف الله تعالى واتقى وباع قليلا بكثير وفانيا بباق وشقاوة بسعادة الا ترون انكم في اصلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون الا ترون انكم في كل يوم تشيعون غاديا رائحا إلى الله قد قضى نحبه وانقطع امله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الاسباب وفارق الاحباب وواجه الحساب
والمقصود ان الله عز وجل قد امد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود والعدد والامداد وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه وبماذا يفتك نفسه إذا اسر وقد روى الامام أحمد رضي الله عنه والترمذي من حديث الحارث الاشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
ان الله سبحانه وتعالى امر يحيى بن زكريا ( صلى الله عليه وسلم ) بخمس كلمات ان يعمل بها ويامر بني اسرئيل ان يعملوا بها وانه كاد ان يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام ان الله تعالى امرك بخمس كلمات لتعمل بها وتامر بني اسرائيل ان يعملوا بها فاما ان تامرهم واما ان امرهم فقال يحيى اخشى ان سبقتني بها ان يخسف بي واعذب فجمع يحيى الناس في بيت المقدس فامتلا المسجد وقعد على الشرف فقال ان الله تبارك وتعالى امرني بخمس كلمات ان اعملهن وامركم ان تعملوا بهن اولهن ان تعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا وان من اشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل واد الي فكان يعمل و يؤدي إلى غير سيده فايكم يرضي ان يكون عبده كذلك وان الله امركم بالصلاة فاذا صليتم فلا تلتفتوا فان الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يكن يلتفت وامركم بالصيام فان مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك كلهم يعجب أو يعجبه ريحه وان ريح الصائم اطيب عند الله تعالى من ريح المسك وامركم بالصدقة فان مثل ذلك مثل رجل اسره العدو فاوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال انا افتدي منكم
(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم وامركم ان تذكروا الله تعالى فان مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في اثره سراعا حتى اذا اتى على حصن حصين فاحرز نفسه منهم كذلك العبد لايحرز نفسه من الشيطان الا بذكر الله تعالى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وانا امركم بخمس الله امرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فانه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه الا ان يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فانه من جثى جهنم فقال رجل يارسول الله وان صلى وصام
قال وان صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فقد ذكر ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الحديث العظيم الشان الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله ما ينجي من الشيطان وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه واخراه فذكر مثل الموحد والمشرك فالموحد كمن عمل لسيده في داره وادى لسيده مااستعمله فيه والمشرك كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سيده فهكذا المشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى ويتقرب إلى عدو الله بنعم الله تعالى ومعلوم ان العبد من بني ادم لو كان مملوكه كذلك لكان امقت المماليك عنده وكان اشد شيئا غضبا عليه وطردا له وابعادا وهو مخلوق مثله كلاهما في نعمة غيرهما فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمة فمنه وحده لاشريك له ولا ياتي بالحسنات الا هو ولا يصرف السيئات الا هو وهو وحده المنفرد بخلق عبده ورحمته وتدبيره ورزقه ومعافاته وقضاء حوائجه فكيف يليق به مع هذا ان يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلف والنذر والمعاملة فيحب غيره كما يحبه أو اكثر ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه
(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
او اكثر وشواهد احوالهم بل واقوالهم واعمالهم ناطقة بانهم يحبون انداده من الاحياء والاموات ويخافونهم ويرجونهم ويطلبون رضاءهم ويهربون من سخطهم اعظم مما يحبون الله تعالى ويخافون ويرجون ويهربون من سخطه وهذا هو الشرك الذي لايغفره الله عز وجل قال الله سبحانه وتعالى ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (
والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثه ديوان لايغفر الله منه شيئا وهو الشرك به فان الله لا يغفر ان يشرك به وديوان لايترك الله تعالى منه شيئا وهو ظلم العباد بعضهم بعضا فان الله تعالى يستوفيه كله وديوان لايعبا الله به وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فان هذا الديوان اخف الدواوين واسرعها محوا فانه يمحي بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك بخلاف ديوان الشرك فانه لا يمحي الا بالتوحيد وديوان المظالم لايمحى الا بالخروج منها إلى اربابها واستحلالهم منها ولما كان الشرك اعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز و جل حرم الجنة على اهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة وانما يدخلها اهل التوحيد فان التوحيد هو مفتاح بابها فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها وكذلك ان اتى بمفتاح لا اسنان له لم يمكن الفتح به
والنهي عن المكر وصدق الحديث واداء الامانة وصلة الرحم وبر الوالدين فاي عبد اتخذ في هذه الدار مفتاحا صالحا من التوحيد وركب فيه اسنانا من الاوامر جاء يوم القيامة إلى باب الجنة ومعه مفتاحها الذي لا يفتح الا به فلم يعقه عن الفتح عائق اللهم الا ان تكون له ذنوب وخطايا واوزار لم
(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
يذهب عنه اثرها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار فانه يحبس عن الجنة حتى يتطهر منها وان لم يطهره الموقف واهواله وشدائده فلا بد من دخول النار ليخرج خبثه فيها ويتطهر من درنه ووسخه ثم يخرج منها فيدخل الجنة فانها دار الطيبين لايدخلها الا طيب قال سبحانه وتعالى ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ( وقال تعالى ) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ( فعقب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بانه سبب للدخول أي بسبب طيبكم قيل لكم ادخلوها
واما النار فانها دار الخبث في الاقوال والاعمال والماكل والمشارب ودار الخبيثين فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشئ لتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع اهله فليس فيها الا الخبيث ولما كان الناس على ثلاث طبقات طيب لايشينه خبث وخبيث لا طيب فيه واخرون فيهم خبث وطيب دورهم ثلاثة دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فانه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فانهم اذا عذبوا بقدر جزائهم اخرجوا من النار فادخلوا الجنة ولا يبقى الا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض
وقوله في الحديث
وأمركم بالصلاة فاذا صليتم فلا تلتفتوا فان الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان
(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
احدهما التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى الثاني التفات البصر وكلاهما منهى عنه ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته فادا التفت بقلبه أو بصره اعرض الله تعالى عنه وقد سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن التفات الرجل في صلاته فقال
اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد وفي اثر يقول الله تعالى
إلى خير مني إلى خير مني ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فاوقفه بين يديه واقبل يناديه و يخاطبه وهو فى خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا و شمالا وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به لان قلبه ليس حاضرا معه فما ظن هذا الرجل ان يفعل به السلطان افليس اقل المراتب فى حقه ان ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا قد سقط من عينيه
فهذا المصلى لا يستوى والحاضر القلب المقبل على الله تعالى فى صلاته الذى قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلا قلبه من هيبته وذلت عنقه له واستحى من ربه تعالى ان يقبل على غيره أو يلتفت عنه وبين
(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
صلاتيهما كما قال حسان بن عطية ان الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وان مابينهما في الفضل كما بين السماء والأرض وذلك ان أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساه غافل
فادا اقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن اقبالا ولا تقريبا فما الظن بالخالق عز وجل واذا اقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملاى منها فكيف يكون ذلك اقبالا وقد الهته الوساوس والافكار وذهبت به كل مذهب والعبد اذا قام في الصلاة غار الشيطان منه فانه قدم قام في اعظم مقام واقربه واغيظه للشيطان واشده عليه فهو يحرص ويجتهد ان لا قيمة فيه بل لايزال به يعده ويمنيه وينسيه و يجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شان الصلاة فيتهاون بها فيتركها
فان عجز عن ذلك منه و عصاه العبد وقام في ذلك المقام اقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه فيذكره في الصلاة مالم يذكر قبل دخوله فيها حتى ربما كان قد نسي شئ والحاجة وايس منها فيذكره اياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل قيقوم فيها بلا قلب فلا ينال من اقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه واثقاله لم تخف عنه بالصلاة فان الصلاة انما تكفر سيئات من ادى حقها واكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله فهذا اذا انصرف منها وجد خفة من نفسه واحسن باثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطا وراحة وروحا حتى يتمنى انه لم يكن خرج منها لانها قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا فلا يزال كانه في سجن وضيق حتى
(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
يدخل فيها فيستريح بها لا منها فالمحبون يقولون نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال امامهم وقدوتهم ونبيهم ( صلى الله عليه وسلم )
يا بلال ارحنا بالصلاة ولم يقل ارحنا منها وقال ( صلى الله عليه وسلم )
جعلت قرة عيني في الصلاة فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه ( صلى الله عليه وسلم ) بدونها وكيف يطيق الصبر عنها فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان حتى يستقل بها الرحمن عز وجل فتقول حفظك الله تعالى كما حفظتني واما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها فانها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه انه قال ما من مؤمن يتم الوضوء إلى امكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئا الا رفعت له إلى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضئ بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها واخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لاتجاوز شعر راسه تقول ضيعك الله كما ضيعتني ضيعك كما ضيعتني
(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول ان يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة
والمقبول من العمل قسمان
احدهما ان يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر لله عز وجل على الدوام فاعمال هذا العبد تعرض على الله عز وجل حتى تقف قبالته فينظر الله عز وجل اليها فاذا نظر اليها راها خالصه لوجهه مرضية قد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله عز جل ومتقرب اليه احبها و رضها وقبلها
والقسم الثاني ان يعمل العبد الاعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله فاركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر اعماله فاذا رفعت اعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه ولا يقع نظره عليها ولكن توضع حيث توضع دواوين الاعمال حتى تعرض عليه يوم القيامة فتميز فيثيبه على ما كان له منها ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها فهذا قبوله لهذا العمل اثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته من القصور والاكل والشرب والحور العين واثابة الاول رضا العمل لنفسه ورضاه عن معاملة عاملة وتقريبه منه واعلاء درجته و منزلته فهذا يعطيه بغير حساب فهذا لون والاول لون
والناس في الصلاة على مراتب خمسة
(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
احدهما مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها واركانها
الثاني من يحافظ على مواقيتها وحدودها واركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والافكار
الثالث من حافظ على حدودها واركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والافكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد
الرابع من اذا قام إلى الصلاة اكمل حقوقها وركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئا منها بل همه كله مصروف إلى اقامتها كما ينبغي واكمالها واتمامها قد استغرق قلب شان الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها
الخامس من اذا قام إلى الصلاة قام اليها كذلك ولكن مع هذا قد اخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل ناظرا بقلبه اليه مراقبا له ممتلئا من محبته وعظمته كانه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات وارتفعت حجبها بينه وبين ربه فهذا بينه وبين غيره في الصلاة افضل واعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين به
فالقسم الاول معاقب والثاني محاسب والثالث مكفر عنه والرابع مثاب والخامس مقرب من ربه لان له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الاخرة وقرت عينه ايضا به في الدنيا ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات وقد روي ان العبد اذا قام يصلي قال الله عز وجل
ارفعوا الحجب فاذا التفت قال ارخوها
وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره فاذا التفت إلى غيره ارخى الحجاب بينه وبين العبد فدخل الشيطان وعرض عليه امور الدنيا واراه اياها في صورة المراة واذا اقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر
(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
الشيطان على ان يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب وانما يدخل الشيطان اذا وقع الحجاب فان فر إلى الله تعالى واحضر قلبه فر الشيطان فان التفت حضر الشيطان فهو هكذا شانه وشان عدوه في الصلاة
فصل انواع القلوب وانما يقوي العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها
بربه عز وجل اذا قهر شهوته وهواه والا فقلب قد قهرته الشهوه واسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدا تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس والافكار
والقلوب ثلاثة قلب خال من الايمان وجميع الخير فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من القاء الوساوس اليه لانه قد اتخذه بيتا ووطنا وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن
القلب الثاني قلب قد استنار بنور الايمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الاهوية فللشيطان هناك اقبال وادبار ومجالات ومطامع فالحرب دول وسجال وتختلف احوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من اوقات غلبته لعدوه اكثر ومنهم من اوقات غلبة عدوه له اكثر ومنهم من هو تارة وتارة
القلب الثالث قلب محشو بالايمان قد استنار بنور الايمان وانقشعت عنه حجب الشهوات واقلعت عنه تلك الظلمات فلنوره في صدره اشراق ولذلك الاشراق ايقاد لو دنا منه الوسواس احترق به فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق وليست السماء باعظم حرمه من المؤمن وحراسة الله تعالى له اتم من حراسة السماء والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها انوار الطاعات وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة
(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
والمحبة والمعرفة والايمان وفيه انوارها فهو حقيق ان يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئا الا خطفه
وقد مثل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وليس جواهر الملك وذخائره وبيت خال صفر لاشئ فيه فجاء اللص يسرق من أحد البيوت فمن ايها يسرق فإن قلت من البيت الخالي كان محالا لان البيت الخالي ليس فيه شئ يسرق ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما ان اليهود تزعم انها لا توسوس في صلاتها فقال وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب وان قلت يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع فان عليه من الحرس واليزك ومالا يستطيع اللص الدنو منه كيف وحارسه الملك بنفسه وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله فلم يبق للص الا البيت الثالث فهو الذي يشن عليه الغارات
فليتامل اللبيب هذا المثال حق التامل ولينزله على القلوب فانها على منواله
فقلب خلا من الخير كله وهو قلب الكافر والمنافق فذلك بيت الشيطان قد احرزه لنفسه واستوطنه واتخذه سكنا ومستقرا فاي شئ يسرق منه وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه
وقلب قد امتلا من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه فاي شيطان يجترئ على هذا القلب وان اراد سرقة شئ منه فماذا يسرق منه وغايته ان يظفر في الاحايين منه بخطفه ونهب يحصل له على غره من العبد وغفلة لا بد له اذ هو بشر واحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع
(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
وقد ذكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى انه قال و في بعض الكتب الالهية لست اسكن البيوت ولا تسعني واي شئ يسعني والسموات حشو كرسي ولكن انا في قلب الوداع التارك لكل شئ سواي وهذا معنى الاثر الاخر
ما وسعتني سمواتي ولا ارضي ووسعني قلب عبدي المؤمن وقلب فيه توحيد الله تعالى ومعرفته و محبته والايمان به والتصديق بوعده ووعيده وفيه شهوات النفس واخلاقها ودواعي الهوى والطبع وقلب بين هذين الداعيين فمرة يميل بقلبه داعي الايمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وارادته وحده ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع فهذا القلب للشيطان فيه مطمع وله منه منازلات ووقائع ويعطي الله النصر من يشاء ) وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ( وهذا لايتمكن الشيطان منه الا بما عنده من سلاحه فيدخل اليه الشيطان فيجد سلاحه عنده فياخده ويقاتله فان اسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والاماني الكاذبة وهي في القلب فيدخل الشيطان فيجدها عتيده فياخدها ويصول بها على القلب فان كان عند العبد عدة عتيده من الايمان تقاوم تلك العدة و تزيد عليها انتصف من الشيطان والا فالدولة لعدوه عليه ولا حول ولا قوة الا بالله فاذا اذن العبد لعدوه و فتح له باب بيته وادخله عليه ومكنه من السلاح يقاتله به فهو الملوم
فنفسك لم ولا تلم المطايا ومت كمدا فليس لك اعتذار
(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
خلوف فم الصائم
عدنا إلى شرح حديث الحارث الذي فيه ذكر ما يحرز العبد من عدوه قوله ( صلى الله عليه وسلم )
وأمركم بالصيام فان مثل ذلك مثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه وان ريح الصيام اطيب عند الله من ريح المسك انما مثل ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك لانها مستورة عن العيون مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق لا تدركه حواسهم
والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الاثام ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور وبطنه عن الطعام والشراب وفرجه عن الرفث فان تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وان فعل لم يفعل ما يفسد صومه فيخرج كلامه كله نافعا صالحا وكذلك اعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وامن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الامساك عن الطعام والشراب ففي الحديث الصحيح
من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة ان يدع طعامه وشرابه وفي الحديث
رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش
فالصوم هو صوم الجوارح عن الاثام وصوم البطن عن الشراب والطعام فكما ان الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الاثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فتصيره بمنزلة من لم يصم
وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم هل هي في الدنيا أو في الاخرة على قولين ووقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد عز الدين بن عبد السلام وابي عمرو ابن الصلاح في ذلك تنازع فمال أبو محمد إلى ان
(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
تلك في الاخرة خاصة وصنف فيه مصنفا رد فيه على أبي محمد و سلك أبو عمرو في ذلك مسلك أبي حاتم بن حبان فانه في صحيحه بوب عليه كذلك فقال ذكر البيان بان خلوف فم الصائم اطيب عند الله تعالى من ريح المسك ثم ساق حديث الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
كل عمل ابن ادم له الا الصيام والصيام لي وانا اجزي به ولخلوف فم الصائم اطيب عند الله من ريح ثم قال ذكر البيان بان خلوف فم الصائم يكون اطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة ثم ساق حديثا من حديث ابن جريج عن عطاء عن أبي صالح الزيات انه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال الله تبارك وتعالى كل عمل ابن ادم له الا الصيام فانه لي وانا اجزي به والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم اطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك للصائم فرحتان اذا افطر فرح بفطره واذا لقي الله تعالى فرح بصومه
قال أبو حاتم شعار المؤمنين يوم القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقا بينهم وبين سائر الامم وشعارهم في القيامة بصومهم طيب خلوف افواههم اطيب من ريح المسك ليعرفوا من بين ذلك الجمع بذلك العمل جعلنا الله تعالى منهم ثم قال ذكر البيان بان خلوف فم الصائم قد يكون ايضا من ريح المسك في الدنيا ثم ساق من حديث شعبه عن سليمان ذكوان عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كل حسنة يعملها ابن ادم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل الا الصوم فهو لي وانا اجزي به يدع الطعام من اجلي والشراب من اجلي وانا اجزي به وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه عز وجل ولخلوف فم الصائم حين يخلف
(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
من الطعام اطيب عند الله من ريح المسك واحتج الشيخ أبو محمد بالحديث الذي فيه تقييد الطيب بيوم القيامة قلت ويشهد لقوله الحديث المتفق عليه
والذي نفسي بيده ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله اعلم بمن يكلم في سبيله الا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك فاخبر ( صلى الله عليه وسلم ) عن رائحة كلم المكلوم في سبيل الله عز وجل بانها كريح المسك يوم القيامة وهو نظير اخباره عن خلوف فم الصائم فان الحس يدل على ان هذا دم في الدنيا وهذا خلوف له ولكن يجعل الله تعالى رائحة هذا وهذا مسكا يوم القيامة
واحتج الشيخ أبو عمر بما ذكره أبو حاتم في صحيحه من تقييد ذلك بوقت اخلافه وذلك يدل على انه في الدنيا فلما قيد المبتدا وهو خلوف فم الصائم بالظروف وهو قوله حين يخلف كان الخبر عنه وهو قوله اطيب عند الله خبرا عنه في حال تقييده فان المبتدا اذا تقيد بوصف أو حال أو ظرف كان الخبر عنه حال كونه مقيدا فدل على ان طيبه عند الله تعالى ثابت حال اخلافه
قال ما وروي الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
اعطيت امتي في شهر رمضان خمسا فذكر الحديث وقال فيه
واما الثانية فانهم يمسون وريح افواههم اطيب عند الله من ريح المسك ثم ذكر كلام الشراح في معنى طيبه وتاويلهم اياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله على عادة كثير منهم بالتاويل من غير ضرورة حتى كانه قد بورك فيه فهو موكل به واي ضرورة تدعو إلى تاويل كونه اطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله
(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
والرضا بفعله واخراج اللفظ عن حقيقته وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي ارادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له ومعلوم ان هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بان مراده من كلامه كيت وكيت فان لم يكن ذلك معلوما بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع ( صلى الله عليه وسلم ) وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به والا كانت شهادة باطلة
ومن المعلوم ان اطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا واعظم ونسبة استطابة ذلك اليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وافعاله اليه فانها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين كما ان رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك كما ان ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه وصفاته لا تشبه صفاتهم وافعالهم وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد اليه والعمل الصالح فيرفعه وليست هذه الاستطابه كاستطابتنا
ثم ان تاويله لايرفع الاشكال اذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابه يلزم مثله الرضا فان قال رضا ليس كرضا المخلوقين فقولوا استطابه ليست كاستطابة المخلوقين وعلى هذا جميع ما يجئ من هذا الباب ثم قال واما ذكر يوم القيامة في الحديث فلانه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضاء الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات فخص يوم القيامة بالذكر وفي بعض الروايات كما خص في قوله تعالى ) إن ربهم بهم يومئذ لخبير ( واطلق في باقيها نظرا إلى ان اصل افضليته ثابت في الدارين
قلت من العجب رده على أبي محمد بما لا ينكره أبو محمد وغيره فان
(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
الذي فسر به الاستطابة المذكورة في الدنيا بثناء الله تعالى على الصائمين ورضائه بفعلهم امر لا ينكره مسلم فان الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وفيما بلغه عنه رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي بفعله فان كانت هذه هي الاستطابة فيرى الشيخ أبو محمد لا ينكرها والذي ذكره الشيخ أبو محمد ان هذه الرائحة انما يظهر طيبها على طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشهيد ويكون كرائحة المسك ولا ريب ان ذلك يوم القيامة فان الصائم في ذلك اليوم يجئ ورائحة فمه اطيب من رائحة المسك كما يجئ المكلوم في سبيل الله عز وجل ورائحة دمه كذلك لاسيما والجهاد افضل من الصيام فان كان طيب رائحته انما يظهر يوم القيامة فكذلك الصائم واما حديث جابر فانهم يمسون وخلوف افواههم اطيب من ريح المسك فهذه جملة حالية لا خبرية فان خبر امسائه لا يقترن بالواو لانه خبر مبتدا فلا يجوز اقترانه بالواو واذا كانت الجملة حالية فلأبي محمد ان يقول هي حال مقدرة والحال المقدرة يجوز تاخيرها عن زمن الفعل العامل فيها ولهذا لو صرح بيوم القيامة في مثل هذا فقال يمسون وخلوف افواههم اطيب من ريح المسك يوم القيامة لم يكن التركيب فاسدا كانه قال يمسون وهذا لهم يوم القيامة واما قوله لخلوف فم الصائم حين يخلف فهذا الظرف تحقيق للمبتدا أو تاكيد له وبيان ارادة الحقيقة المفهومة منه لا مجازة ولا استعارته وهذا كما تقول جهاد المؤمن حين يجاهد وصلاته حين يصلي يجزيه الله تعالى بها يوم القيامة ويرفع بها درجته يوم القيامة وهذا قريب من قوله ( صلى الله عليه وسلم )
لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولايشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وليس المراد تقييد نفي الايمان المطلق عنه حالة مباشرة تلك الافعال فقط بحيث اذا كملت مباشرته وانقطع فعله عاد اليه الايمان بل هذا النفي مستمر إلى حين التوبة والا فما دام مصرا وان لم يباشر الفعل فالنفي لاحق به و لا يزول عنه اسم الذم والاحكام المترتبة على المباشرة الا بالتوبة النصوح والله سبحانه وتعالى اعلم
(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
وفصل النزاع في المسألة ان يقال حيث اخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بان ذلك الطيب يكون يوم القيامة فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الاعمال و موجباتها من الخير والشر فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم وحيث اخبر بان ذلك حين يخلف وحين يمسون فلانه وقت ظهور اثر العبادة ويكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته وان كانت تلك الرائحة كريهة للعباد فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس فان الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته امره ورضاه ومحبته فيكون عنده اطيب من ريح المسك عندنا فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية وهكذا سائر اثار الاعمال من الخير والشر
وانما يكمل ظهورها ويصير علانية في الاخرة وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض اثره على العبد في الدنيا في الخير والشر كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة
قال ابن عباس ان للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وان للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق
(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وقال عثمان بن عفان ما عمل رجل عملا الا البسه الله رداءه ان خيرا فخير وإن شرا فشر وهذا امر معلوم يشترك فيه وفي العلم به اصحاب البصائر وغيرهم حتى ان الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة وان لم يمس طيبا فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه والفاجر بالعكس والمزكوم الذي اصابه الهوى لا يشم لا هذا ولا هذا بل زكامه يحمله على الانكار فهذا فصل الخطاب في هذه المسالة والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب
فصل الصدقة واثارها وامركم بالصدقة فان مثل ذلك مثل رجل اسره العدو
فاوثقوايده منهم هذا ايضا من الكلام الذي برهانه وجوده ودليله وقوعه فان للصدقة تاثيرا عجيبا في دفع انواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر فان الله تعالى يدفع بها عنه انواعا من البلاء وهذا امر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم واهل الأرض كلهم مقرون به لانهم جربوه
(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث انس بن مالك ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
ان الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء وكما انها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما تطفئ الماء النار وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر فاصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقال ألا ادلك على ابواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين ثم تلا ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ( وفي بعض الاثار باكروا بالصدقة فان البلاء لا يتخطى الصدقة وفي تمثيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بمن قدم ليضرب عنقه فافتدى نفسه منهم بماله كفاية فان الصدقة تفدي العبد من عذاب الله تعالى فان ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجئ الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد
يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فاني رايتكن اكثر اهل النار وكانه حثهن ورغبهن على ما يفدين به انفسهن من النار وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشام منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة وفي حديث أبي ذر انه قال سالت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ماذا ينجي العبد من النار
قال الايمان بالله قلت يا نبي الله مع الايمان عمل قال ان ترضخ مما خولك الله أو ترضخ مما رزق الله قلت يا نبي الله فان كان فقيرا لا يجد ما يرضخ قال يامر بالمعروف وينهى عن المنكر قلت ان كان لا
(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
يستطيع ان يامر بالمعروف وينهى عن المنكر قال فليعن الاخرق قلت يارسول الله ارايت ان كان لا يحسن ان يصنع قال فليعن الا مظلوما قلت يارسول الله ارايت ان كان ضعيفا لا يستطيع ان يعين مظلوما قال ما تريد ان تترك في صاحبك من خير ليمسك اذاه عن الناس قلت يا رسول الله ارايت ان فعل هذا يدخل الجنة قال ما من مؤمن يصيب خصلة من هده الخصال الا اخذت بيده حتى ادخلته الجنة ذكره البيهقي في كتاب شعب الايمان قال عمر بن الخطاب ذكر لي ان الاعمال تتباهى فتقول الصدقة انا افضلكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد أو جنتان من حديد قد اضطرت ايديهما إلى ثدييهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى انامله وتعفو اثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت واخذت كل حلقة مكانها قال أبو هريرة فانا رايت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول باصبعه هكذا في جبته فرايته يوسعها ولا تتسع ولما كان البخيل محبوسا عن الاحسان ممنوعا عن البر والخير كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح كثير الهم والغم والحزن لا يكاد تقضى له حاجة ولا يعان على مطلوب فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من اخراجها ولا حركتها وكلما اراد اخراجها أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقه من حلقها موضعها وهكذا البخيل كلما اراد ان يتصدق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو
والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره ولو لم يكن في الصدقة الا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة اليها وقد قال تعالى ) ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (
(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
كان عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص يطوف بالبيت وليس له دأب الا هذه الدعوة رب قني شح نفسي رب قني شح نفسي فقيل له اما تدعو بغير هذه الدعوة فقال اذا وقيت شح نفسي فقد افلحت
والفرق بين الشح والبخل ان الشح هو شدة الحرص على الشئ والإحفاء في طلبه والاستقساء في تحصيله وجشع النفس عليه والبخل منع انفاقه بعد حصوله وحبه وامساكه فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله فالبخل ثمرة الشح والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس فمن بخل فقد اطاع شحه ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقى شره وذلك هو المفلح ) ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (
والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن اهله وقريب من الجنة وبعيد من النار والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى اضداده وبخله يبغضه إلى اولاده
ويظهر عيب المرء في الناس بخله ويستره عنهم جميعا سخاؤه
تغط باثواب السخاء فانني
ارى كل عيب فالسخاء غطاؤه
وقارن اذا قارنت حرا فانما
يزن ويزري بالفتى قرناؤه
واقلل اذا ما اسطعت قولا فانه اذا قل قول المرء قل خطاؤه
اذا قل مال المرء قل صديقه
وضاقت عليه ارضه وسماؤه
(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
واصبح لا يدري وان كان حازما اقدامه خير له أم وراؤه
اذا المرء لم يختر صديقا لنفسه
فناد به في الناس هذا جزاؤه
وحد السخاء بذل ما يحتاج اليه عند الحاجة وان يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة وليس كما قال البعض من نقص عمله حد الجود بذل الموجود ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السرف والتبذير وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما
واذا كان السخاء محمودا فمن وقف على حده سمي كريما وكان للحمد مستوجبا ومن قصر عنه كان بخيلا وكان للذم مستوجبا وقد روي في اثر ان الله عز وجل اقسم بعزته الا يجاوزه بخيلوالسخاء نوعان فاشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك والثاني سخاؤك ببذل ما في يدك فقد يكون الرجل من اسخى الناس وهو لايعطيهم شيئا لإنه سخا عما في ايديهم وهذا معنى قول بعضهم السخاء ان تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول اوحي الله إلى إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم )
اتدري لم اتخدتك خليلا قال لا قال لاني رايت العطاء احب اليك من الاخذ وهذه صفة من صفات الرب جل جلاله فانه يعطي ولا ياخذ ويطعم ولا يطعم وهو اجود الاجودين واكرم الاكرمين واحب الخلق اليه من اتصف بمقتضيات صفاته فانه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال
وروى الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر اخبرنا خالد بن الياس عن صالح بن أبي حسان قال سمعت سعيد بن المسيب يقول ان الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا اخبيتكم ولا تشبهوا باليهود قال فذكرت للمهاجرين مسمار فقال حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الا انه قال
فنظفوا افنيتكم هذا حديث غريب خالد بن الياس يضعف
وفي الترمذي ايضا في كتاب البر قال حدثنا الحسن بن عرفه حدثنا سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخي احب إلى الله تعالى من عابد بخيل وفي الصحيح
ان الله تعالى وتر يحب الوتر
وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وانما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير يحب من يستر على عباده وعفو يحب من يعفوا عنهم من عباده وغفور يحب من يغفر لهم من عباده ولطيف يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم وبر يحب البر واهله وعدل يحب العدل وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودا وعدما فمن عفا عفا عنه ومن غفر غفر له ومن سامح سامحه ومن حاقق حاققه ومن رفق بعباده رفق به ومن رحم خلقه رحمه ومن احسن اليهم احسن اليه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ومن سترهم ستره ومن صفح عنهم صفح عنه ومن تتبع عورتهم تتبع عورته ومن هتكهم هتكه وفضحه ومن منعهم خيره منعه خيره ومن شاق شاق الله تعالى به ومن مكر مكر به ومن خادع خادعه ومن عامل خلقه بصفة عاملة الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والاخرة فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه ولهذا جاء في الحديث
من ستر مسلما ستره الله تعالى في الدنيا والاخرة ومن نفس عن
(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله تعالى عنه كربه من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله تعالى حسابه ومن اقال نادما اقال الله تعالى عثرته ومن انظر معسرا أو وضع عنه اظله الله تعالى في ظل عرشه لانه لما جعله في ظل الانظار والصبر ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الاداء مع عسرته وعجز نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال في خطبته يوما
يا معشر من امن بلسانه ولم يدخل الايمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورة اخيه يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون انت ولعباده
ولما اظهر المنافقون الإسلام واسروا الكفر واظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورا على الصراط واظهر لهم انهم يجوزون الصراط واسر لهم ان يطفئ نورهم وان يحال بينهم وبين الصراط من جنس اعمالهم وكذلك من يظهر للخلق خلاف ما يعمله الله فيه فان الله تعالى يظهر له في الدنيا والاخرة اسباب الفلاح والنجاح والفوز ويبطن له خلافها وفي الحديث
من راءى راءى الله به
(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ومن سمع سمع الله به والمقصود ان الكريم المتصدق يعطيه الله مالا يعطي جزاء له من جنس عمله
ذكر الله وفوائده وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) وامركم ان تذكروا الله تعالى فان مثل ذلك
رجل خرج العدو في اثره سراعا حتى اذا اتى إلى حصن حصين فاحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان الا بذكر الله فلو لم يكن في الذكر الا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد ان لايفتر لسانه من ذكر الله تعالى وان لا يزال لهجا بذكره فانه لا يحرز نفسه من عدوه الا بالذكر ولا يدخل عليه العدو الا من باب الغفلة فهو يرصده فاذا غفل وثب عليه وافترسه
واذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور فاذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض قال ابن عباس الشيطان جاثم على قلب ابن ادم فاذا سها وغفل وسوس فاذا ذكر الله تعالى خنس وفي مسنذ الامام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمه الماجشون عن زياد ابن أبي زياد مولي عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة انه بلغه عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ما عمل ادمي عملا قط انجي له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل
(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وقال معاذ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
الا اخبركم بخير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والفضة ومن ان تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم ويضربوا اعناقكم قالوا بلى يارسول الله قال ذكر الله عز وجل وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال
سيروا هذا جمدان سبق المفردون قيل وما المفردون يارسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ما من يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه الا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة وفي رواية الترمذي ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم الا كان عليهم ترة فان شاء عذبهم وان شاء غفر لهم
وفي صحيح مسلم عن الاغر أبي مسلم قال اشهد على أبي هريرة و أبي سعيد انهما شهدا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
لا يقعد قوم يذكرون الله فيه الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده وفي الترمذي عن عبد الله بن بشر ان رجلا قال يارسول الله ان ابواب الخير كثيرة ولا استطيع القيام بكلها فأخبرني بما شئت اتشبت به ولا تكثر علي فانسى وفي رواية ان شرائع الإسلام قد كثرت علي وانا كبرت فاخبرني بشئ اتشبت به قال
لايزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى وفي الترمذي ايضا عن أبي سعيد ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل أي العباد افضل وارفع درجة عند الله يوم القيامة قال
الذاكرون الله كثيرا قيل يا
(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
قيل يارسول الله ومن الغازي في سبيل الله قال
لو ضرب بسيفه في الكفار والشركين حتى يتكسر ويختصب دما كان الذاكر لله تعالى افضل منه درجة
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يقول الله تبارك وتعالى انا عند ظن عبدي بي وانا معه اذا ذكرني فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وان تقرب الي شبرا تقربت اليه ذرعا وان تقرب الي ذرعا تقربت منه باعا واذا اتاني يمشي اتيته هرولة وفي الترمذي عن انس ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال
اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يارسول الله وما رياض الجنة قال
حلق الذكر
وفي الترمذي ايضا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله عز وجل انه يقول
ان عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وهذا الحديث هو فصل الخطاب والتفصيل بين الذاكر والمجاهد فان الذاكر المجاهد افضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل والذاكر بلا جهاد افضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى فافضل الذاكرين المجاهدون وافضل المجاهدين الذاكرون
قال الله تعالى يا ايها الذين امنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكرا الله كثيرا لعلكم تفلحون
(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
فامرهم بالذكر الكثير والجهاد معا ليكونوا على رجاء من الفلاح وقد قال تعالى ياايها الذين امنوا اذكروا الله كثيرا وقال تعالى ) والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ( أي كثيرا وقال تعالى ) فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ( ففيه الامر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد اليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له وكان خسرانه فيها اعظم مما ربح في غفلته عن الله وقال بعض العارفين لو اقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنة ثم اعرض عنه لحظة لكان ما فاته اعظم مما حصله
وذكر البيهقي عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
ما من ساعة تمر بابن ادم لا يذكر فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه ايضا ليس تحسر اهل الجنة الا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها
وعن أم حبيبه زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
كلام ابن ادم كله عليه لا له الا امرا بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكرا لله عز وجل
(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
وعن معاذ بن جبل قال سالت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الاعمال احب إلى الله عز وجل قال ان تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لكل شئ جلاء وان جلاء القلوب ذكر الله عز وجل وذكر البيهقي مرفوعا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه كان يقول
لكل شئ صقالة وان صقالة القلوب ذكر الله عز وجل وما من شئ انجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله عز وجل قالوا ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل قال
ولو ان يضرب بسيفه حتى ينقطع
ولا ريب ان القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاؤه بالذكر فانه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء فادا ترك صدئ فاذا جلاه وصدا القلب بامرين بالغفلة والذنب وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر
فمن كانت الغفلة اغلب اوقاته كان الصدا متراكبا على قلبه وصداه بحسب غفلته واذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل لانه لما تراكم عليه الصدا اظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه فاذا تراكم عليه الصدا واسود وركبه الران فسد تصوره وادراكه فلا يقبل حقا و لا ينكر باطلا وهذا اعظم عقوبات القلب
واصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره قال تعالى ) ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (
فاذا اراد العبد ان يقتدي برجل فلينظر هل هو من اهل الذكر أو من الغافلين و هل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فان كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من اهل الغفلة كان امره فرطا ومعنى الفرط قد فسر
(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
بالتضييع أي امره الذي يجب ان يلزمه ويقوم به وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه وفسر بالإسراف أي قد أفرط وفسر بالاهلاك وفسر بالخلاف للحق وكلها اقوال متقاربة والمقصود ان الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات فينبغي للرجل ان ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فان وجده كذلك فليبعد منه وان وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى عز وجل واتباع السنة وامره غير مفروط عليه بل هو حازم في امره فليستمسك بغرزه ولا فرق بين الحي والميت الا بالذكر فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعا
اكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون
وفي الذكر اكثر من مائة فائدة
احداها انه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره
الثانية انه يرضي الرحمن عز وجل
الثالثة انه يزيل الهم والغم عن القلب
الرابعة انه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط
الخامسة انه يقوي القلب والبدن
السادسة انه ينور الوجه والقلب
السابعة انه يجلب الرزق
الثامنة انه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة
التاسعة انه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين
(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
ومدار السعادة والنجاة وقد جعل الله لكل شئ سببا وجعل سبب المحبة دوام الذكر فمن اراد ان ينال محبة الله عز وجل فليلهج بذكره فانه الدرس والمذاكرة كما انه باب العلم فالذكر باب المحبة وشارعها الاعظم وصراطها الاقوم
العاشرة انه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الاحسان فيعبد الله كانه يراه ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الاحسان كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت
الحادية عشرة انه يورثه الانابة وهي الرجوع إلى الله عز وجل فمتى اكثر الرجوع اليه بذكره اورثه ذلك رجوعه بقلبه اليه في كل احواله فيبقى الله عز وجل مفزعه وملجأه وملاذه ومعاذه وقبلة قلبه ومهربه عند النوازل والبلايا
الثانية عشرة انه يورثه القرب منه فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه وعلى قدر غفلته يكون بعده منه
الثالثة عشرة انه يفتح له بابا عظيما من ابواب المعرفة وكلما اكثر من الذكر ازداد من المعرفة
الرابعة عشرة انه يورث الهيبة لربه عز وجل واجلاله لشدة استيلائه على قلبه وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل فان حجاب الهيبة رقيق في قلبه
الخامسة عشرة انه يورثه ذكر الله تعالى له كما قال تعالى ) فاذكروني أذكركم ( ولو لم يكن في الذكر الا هذه وحدها لكفى بها فضلا وشرفا وقال ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى
من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي
(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم
السادسة عشرة انه يورث حياة القلب وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك اذا فارق الماء
السابعة عشرة انه قوت القلب والروح فاذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم اذا حيل بينه وبين قوته و حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكرالله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت الي وقال هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا وقال لي مرة لا اترك الذكر الا بنية اجمام نفسي واراحتها لاستعد بتلك الراحة لذكر اخر أو كلاما هذا معناه
الثامنة عشرة انه يورث جلاء القلب من صداه كما تقدم في الحديث وكل صدا وصدا القلب الغفلة والهوى وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار وقد تقدم هذا المعنى
التاسعة عشرة انه يحط الخطايا ويذهبها فانه من اعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات
العشرون انه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى فان الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشه لا تزول الا بالذكر
الحادية والعشرون ان ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة فقد روي الامام أحمد في المسند
(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال
ان ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوى النحل يذكرن بصاحبهن افلا يحب احدكم ان يكون له ما يذكره به هذا الحديث أو معناه
الثانية والعشرون ان العبد اذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة وقد جاء اثر معناه ان العبد المطيع الذاكر لله تعالى اذا اصابته شدة أو سأل الله تعالى حاجة قالت الملائكة يارب صوت معروف من عبد معروف والغافل المعرض عن الله عز وجل اذا دعاه وساله قالت الملائكة يارب صوت منكر من عبد منكر
الثالثة والعشرون انه ينجي من عذاب الله تعالى كما قال معاذ رضي الله عنه ويروى مرفوعا
ما عمل ادمي عملا انجي من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى
الرابعة والعشرون انه سبب تنزيل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر كما اخبر به النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الخامسة والعشرون انه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل فان العبد لا بد له من ان يتكلم فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر اوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها ولا سبيل إلى السلامة منها البتة الا بذكر الله تعالى والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة الا بالله
(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
السادسة والعشرون ان مجالس الذكر مجالس الملائكة ومجالس اللغو والغفلة ومجالس الشياطين فليتخير العبد اعجبهما اليه وأولاهما به فهو مع اهله في الدنيا والاخرة
السابعة والعشرون انه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه وهذا هو المبارك اين ما كان والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته ويشقى به مجالسه
الثامنة والعشرون انه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة فان كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وترة يوم القيامة
التاسعة والعشرون انه مع البكاء في الخلوة سبب لاظلال الله تعالى العبد يوم الحر الاكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن عز وجل
الثلاثون ان الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر افضل ما يعطي السائلين ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال سبحانه وتعالى من شغله ذكري عن مسالتي اعطيته افضل ما اعطي السائلين
الحادية والثلاثون انه ايسر العبادات وهو من اجلها وافضلها فان حركة اللسان اخف حركات الجوارح وايسرها ولو تحرك عضو من الانسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لا يمكنه ذلك
الثانية والثلاثون انه غراس الجنة فقد روي الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقيت ليلة اسري بي
(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
ابراهيم الخليل عليه السلام فقال يا محمد اقرئ امتك السلام واخبرهم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر قال الترمذي حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود
وفي الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخله في الجنة قال الترمذي حديث حسن صحيح
الثالثة والثلاثون ان العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الاعمال ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال
من قال لا اله الا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يات أحد بافضل مما جاء به الا رجل عمل اكثر منه ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لان اقول سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر احب الي مما طلعت عليه الشمس
وفي الترمذي من حديث انس ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال
من قال حين يصبح أو يمسي اللهم اني اصبحت اشهدك واشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك انك انت الله لا اله الا انت وان محمدا عبدك ورسولك اعتق الله ربعه من النار ومن قالها مرتين اعتق الله نصفه من النار ومن قالها ثلاثا اعتق الله ثلاثة ارباعه من النار ومن قالها اربعا اعتقه الله تعالى من النار وفيه عن
(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
ثوبان ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال
من قال حين يمسي واذا اصبح رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولا كان حقا على الله ان يرضيه وفي الترمذي من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير كتب الله له الف الف حسنة ومحا عنه الف الف سيئة ورفع له الف الف درجة
الرابعة والثلاثون ان دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الامان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده فان نسان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها قال تعالى ) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ( واذا نسي العبد نفسه اعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت ولا بد كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك ومما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره وضيع مصالحه فانه يفسد ولابد هذا مع امكان قيام غيره مقامه فيه فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها اذا اهملها ونسيها واشتغل عن مصالحها وعطل مراعاتها وترك القيام عليها بما يصلحها فما شئت من فساد وهلاك وخيبة وحرمان وهذا هو الذي صار امره كله فرطا فانفرط عليه امره وضاعت مصالحه واحاطت به اسباب القطوع والخيبة والهلاك
ولاسبيل إلى الامان من ذلك الا بدوام ذكر الله تعالى واللهج به وان لا يزال اللسان رطبا به وان يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها و منزلة غذائه الذي اذا فقده فسد جسمه وهلك وبمنزلة الماء عند شدة العطش وبمنزلة اللباس في الحر والبرد وبمنزلة الكن في شدة الشتاء والسموم
فحقيق بالعبد ان ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة واعظم فاين هلاك الروح
(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده هذا هلاك لا بد منه وقد يعقبه صلاح لا بد واما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم في فوائد الذكر وادامته الا هذه الفائدة وحدها لكفي بها فمن نسي الله تعالى انساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة قال تعالى ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( أي تنسى في العذاب كما نسيت اياتي فلم تذكرها ولم تعمل بها واعراضه عن ذكره يتناول اعراضه عن الذكر الذي انزله وهو ان يذكر الذي انزله في كتابه وهو المراد بتناول اعراضه عن ان يذكر ربه بكتابه واسمائه وصفاته واوامره والائه ونعمه فان هذه كلها توابع اعراضه عن كتاب ربه تعالى فان الذكر في الاية اما مصدر مضاف إلى الفاعل أو مضاف اضافة الاسماء المحضة اعرض عن كتابي ولم يتله ولم يتدبره ولم يعمل به ولا فهمه فان حياته ومعيشته لا تكون الا مضيقة عليه منكده معذبا فيها
والضنك الضيق والشدة والبلاء ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ والصحيح انها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ فانه يكون في ضنك في الدارين وهو شدة وجهد وضيق وفي الاخرة تنسى في العذاب وهذا عكس اهل السعادة والفلاح فان حياتهم في الدنيا اطيب الحياة ولهم في البرزخ وفي الاخرة افضل الثواب
قال تعالى ) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ( فهذا في الدنيا ثم قال ولنجزيهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون فهذا في البرزخ والاخرة وقال تعالى ) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (
(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
وقال تعالى ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ( فهذا في الاخرة وقال تعالى قل يا عبادي الذين امنوا اتقوا ربكم للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة و ارض الله واسعة انما يوفي الصابرون اجرهم بغير حساب فهذه اربعة مواضيع ذكر تعالى فيها انه يجزي المحسن باحسانه جزاءين جزاء في الدنيا وجزاء في الاخرة
فالاحسان له جزاء معجل ولا بد والإساءة لها جزاء معجل ولابد ولو لم يكن الا ما يجازي به المحسن من انشراح صدوره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته
وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى اعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه وما يجازي به المسئ من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه وهذا امر لايكاد من له ادنى حس وحياة يرتاب فيه بل الغموم والهموم والاحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة والاقبال على الله تعالى والانابة اليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك اليه البته
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الاخرة وقال لي مرة ما يصنع اعدائي بي انا جنتي وبستاني في صدري ان رحت فهي معي لا تفارقني ان حبسي خلوة وقتلي شهادة واخراجي من بلدي سياحة وكان يقول في محبسه في القلعة لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هده النعمة او
(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله وقال لي مرة المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والماسور من اسره هواه ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر اليه وقال ) فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( وعلم الله ما رايت احدا اطيب عيشا منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والارهاق وهو مع ذلك من اطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا واقواهم قلبا واسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا اذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض اتيناه فما هو الا ان نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحها وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من اشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم ابوابها في دار العمل فاتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة اليها
وكان بعض العارفين يقول لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف وقال اخر مساكين اهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا اطيب ما فيها قيل و ما اطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا وقال اخر انه لتمر بالقلب اوقات يرقص فيها طربا وقال اخر انه لتمر بي اوقات اقول ان كان اهل الجنة في مثل هذا انهم لفي عيش طيب
فبمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون اليه والطمانينة اليه وافراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد و عزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين وانما تقر عيون الناس به على حسب قرة اعينهم بالله عز وجل فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه
(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات
وانما يصدق هذا من قلبه حياة واما ميت القلب فيوحشك ما له ثم فاستأنس بغيبته ما امكنك فانك لا يوحشك الا حضوره عندك فإذا ابتليت به فاعطه ظاهرك وترحل عنه بقلبك وفارقه بسرك ولا تشغل به عما هو اولى بك واعلم ان الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به الا فوت نصيبك وحظك من الله عز وجل وانقطاعك عنه وضياع وقتك وضعف عزيمتك وتفرق همك
فإذا بليت بهذا ولا بد لك منه فعامل الله تعالى فيه واحتسب عليه ما امكنك وتقرب إلى الله تعالى بمرضاته فيه واجعل اجتماعك به متجرا لك لا تجعله خسارة وكن معه كرجل سائر في طريقه عرض له رجل وقفه عن سيره فاجتهد ان تاخده معك وتسير به فتحمله ولا يحملك فان أبي ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بلا ركب الدرب ودعه ولاتلتفت اليه فانه قاطع الطريق ولو كان من كان فانج بقلبك وضن بيومك وليلتك لاتغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فتؤخذ أو يطلع الفجر اني لك بلماقهم
الخامسة والثلاثون ان الذكر يسير العبد هو في فراشه وفي
(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
سوقه وفي حال صحته وسقمه وفي حال نعيمه ولذته وليس شئ يعم الاقات والاحوال مثله حتى يسير العبد وهو نائم على فراشه فيسبق القائم مع الغفلة فيصبح هذا وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه ويصبح ذلك الغافل في ساقه الركب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
وحكى عن رجل من العباد انه نزل برجل ضيفا فقام العابد ليلة يصلي وذلك الرجل مستلق على فراشه فلما اصبحا قال له العابد سبقك الركب أو كما قال فقال ليس الشان فيمن بات مسافرا واصبح مع الركب الشان فيمن بات على فراشه واصبح قد قطع الركب
وهذا ونحوه له محمل صحيح ومحمل فاسد فمن حكم على ان الراقد المضطجع على فراشه يسبق القائم القانت فهو باطل وانما محمله ان هذا المستلقي على فراشه علق بربه عز وجل والصق حبه قلبه بالعرش وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة قد غاب عن الدنيا ومن فيها وقد عاقه عن قيام الليل عائق من وجع أو برد يمنعه القيام أو خوف على نفسه من رؤية عدو يطلبه أو غير ذلك من الاعذار فهو مستلق على فراشه وفي قلبه ما الله تعالى به عليم واخر قائم يصلي ويتلوا وفي قلبه من الرياء والعجب وطلب الجاه والمحمدة عند الناس ما الله به عليم أو قلبه في واد وجسمه في واد فلا ريب ان ذلك الراقد يصبح وقد سبق هذا القائم بمراحل كثيرة فالعمل على القلوب لا على الابدان والمعول على الساكن ويهيج الحب المتواري ويبعث الطلب الميت الذكر وحقيقة النور الالهي
السادسة والثلاثون ان الذكر نور للذاكر في الدنيا ونور له في قبره ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط فما استنارت القلوب والقبور
(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
بمثل ذكر الله تعالى قال الله تعالى اومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها فالاول هو المؤمن استنار بالايمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره والاخر هو الغافل عن الله تعالى المعرض عن ذكره ومحبته والشان كل الشان والفلاح كل الفلاح في النور والشقاء كل الشقاء في فواته ولهذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبالغ في سؤال ربه تبارك وتعالى حين يسأله ان يجعله في لحمه وعظامه وعصبه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وامامه حتى يقول واجعلني نورا فسال ربه تبارك وتعالى ان يجعل النور في ذراته الظاهرة والباطنة وان يجعله محيطا به من جميع جهاته وان يجعل ذاته وجملته نورا فدين الله عز وجل نور وكتابه نور ورسوله نور وداره التي اعدها لاوليائه نور يتلالا وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض ومن اسمائه النور واشرقت الظلمات لنور وجهه وفي دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الطائف
اعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا الاخرة ان يحل على غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة الا بك وقال ابن مسعود رضي الله عنه ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه ذكره عثمان الدارمي وقد قال تعالى ) وأشرقت الأرض بنور ربها ( فإذا جاء تبارك وتعالى يوم القيامة للفصل بين عباده واشرقت بنوره الأرض وليس اشراقها يومئذ بشمس ولا قمر فان الشمس تكور والقمر يخسف ويذهب نورهما وحجابه تبارك وتعالى النور
قال أبو موسى قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخمس كلمات فقال
ان الله لا ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع اليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره
(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
من خلقه ثم قرأ ) أن بورك من في النار ومن حولها ( فاستناره ذلك الحجاب بنور وجهه ولولاه لاحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى اليه بصره ولهذا لما تجلى تبارك وتعالى للجبل وكشف من الحجاب شيئا يسيرا ساخ الجبل في الأرض وتدكدك ولم يقم لربه تبارك وتعالى وهذا معنى قول ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى ) لا تدركه الأبصار ( قال ذلك الله عز وجل اذا تجلى بنوره لم يقم له شئ وهذا من بديع فهمه رضي الله تعالى عنه ودقيق فطنته كيف وقد دعا له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ان يعلمه الله التأويل فالرب تبارك وتعالى يرى يوم القيامة بالابصار عيانا ولكن يستحيل ادراك الابصار له وان راته فالادراك امر وراء الرؤية وهذه الشمس ولله المثل الاعلى نراها ولا ندركها كما هي عليه ولا قريبا من ذلك ولذلك قال ابن عباس لمن ساله واورد عليه ) لا تدركه الأبصار ( فقال الست ترى السماء قال بلى قال افتدركها قال لا قال فالله تعالى اعظم واجل
وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلا لا يعقله الا العالمون
(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
فقال سبحانه وتعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كانها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المسلم
وهذا هو النور الذي اودعه في قلبه من معرفته ومحبته والايمان به وذكره وهو نوره الذي انزله اليهم فاحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس واصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وابدانهم بل وثيابهم ودورهم يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر فاذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بايمانهم يسعى بين ايديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا فمنهم من نوره كالشمس واخر كالقمر واخر كالنجوم واخر كالسراج واخر يعطي نورا على ابهام قدمه يضئ مرة ويطفأ اخرى اذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فاعطى على الجسر بمقدار ذلك بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهرا لا باطنا اعطى نورا ظاهرا ماله إلى الظلمة والذهاب
وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر وفي تلك المشكاة زجاجة من اصفى الزجاج
(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضة وصفائه وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لانها جمعت اوصافا هي في قلب المؤمن وهي الصفاء والرقة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته ويجاهد اعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته ولا تبطل صفة منه صفة اخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها ) أشداء على الكفار رحماء بينهم ( وقال تعالى ) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ( وقال تعالى ) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ( وفي اثر القلوب انية الله تعالى في ارضه فاحبها اليه وارقها واصلبها واصفاها وبازاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيص
احدهما قلب حجري قاس لا رحمة فيه ولا احسان ولا بر ولا له صفاء يرى به الحق بل هو جبار جاهل لا علم له بالحق ولا رحمة للخلق
وبازائه قلب ضعيف مائي لاقوة فيه ولا استمساك بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور ولا قوة التاثير في غيره وكل ما خالطه اثر فيه من قوي وضعيف وطيب وخبيث
وفي الزجاجة مصباح وهو النور الذي في الفتيلة وهي حاملته
(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في اعدل الاماكن تصيبها الشمس اول النهار واخره فزيتها من اصفى الزيت وابعده من الكدر حتى انه ليكاد من صفائه يضئ بلا نار فهذه مادة نور المصباح
وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن هو من شجرة الوحي التي هي اعظم الاشياء بركة وابعدها من الانحراف بل هي اوسط الامور واعدلها وافضلها لم تنحرف انحراف النصرانية ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شئ فهذه مادة مصباح الايمان في قلب المؤمن
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد ان يضئ بنفسه ثم خالط النار فاشتدت بها اضاءته وقويت مادة ضوء النار به كان ذلك نورا على نور وهكذا المؤمن قلبه مضئ يكاد يعرف الحق يفطرته وعقله ولكن لا مادة له من نفسه فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة نور على نور فيكاد ينطق بالحق وان لم يسمع فيه اثر ثم يسمع الاثر مطابقا لما شهدت به فطرته فيكون نورا على نور فهذا شان المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا ثم يسمع الاثر جاء به مفصلا فينشأ ايمانه عن شهادة الوحي والفطرة
فليتأمل اللبيب هذه الاية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض ونوره في قلوب عباده المؤمنين النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب والنور المحسوس المشهود بالابصار الذي استنارت به اقطار العالم العلوي والسفلي فهما نوران عظيمان أحدهما اعظم من الاخر وكما انه اذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه ادمي ولا غيره لان الحيوان انما يتكون حيث النور ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يتكون البتة فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والايمان ميتة وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد لاحياة له البتة كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه
(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
والله سبحانه وتعالى يقرن بين الحياة والنور كما في قوله عز وجل أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نور يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وكذلك قوله عز وجل وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبدنا وقد قيل ان الضمير في جعلناه عائد إلى الامر وقيل إلى الكتاب وقيل إلى الايمان والصواب انه عائد إلى الروح أي جعلنا ذلك الروح الذي اوحيناه اليك نورا فسماه روحا لما يحصل به من الحياة وجعله نورا لما يحصل به من الاشراق والاضاءة وهما متلازمان فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الاضاءة والاستنارة وحيث وجدت الاستنارة والاضاءة وجدت الحياة فمن لم يقبل هذا الروح فهو ميت مظلم كما ان المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة وبالنار من الاشراق والنور كما ضرب ذلك في اول سورة البقرة في قوله تعالى ) مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( وقال ) ذهب الله بنورهم ( ولم يقل بنارهم لان النار فيها الاحراق
وكذلك حال المنافقين ذهب نور ايمانهم بالنفاق وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم قلوبهم قد صليت بحرها واذاها وسمومها ووهجها في الدنيا فاصلاها الله تعالى اياها يوم القيامة نارا موقدة تطلع على الافئدة فهذا مثل من لم يصحبه نور الايمان في الدنيا بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به وهو حال المنافق عرف ثم أنكر وأقر ثم جحد فهو في ظلمات اصم ابكم اعمى كما قال تعالى في حق اخوانهم من الكفار ) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ( وقال تعالى
(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ( وشبه تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار وذهاب نورها عنه بعد ان اضاءت ما حوله لان المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم وصيامهم معهم وسماعهم القران ومشاهدتهم اعلام الإسلام ومناره قد شاهدوا الضوء وراوا النور عيانا ولهذا قال تعالى في حقهم ) فهم لا يرجعون ( اليه لانهم فارقوا الإسلام بعد ان تلبسوا به واستناروا فهم لا يرجعون اليه
وقال تعالى في حق الكفار ) فهم لا يعقلون ( لانهم لم يعقلوا الإسلام ولا دخلوا فيه ولا استناروا به ولا يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي فسبحان من جعل كلامه لادواء الصدور شافيا والى الايمان وحقائقه مناديا والى الحياة الابدية والنعيم المقيم داعيا والى الطريق الرشاد هاديا لقد أسمع منادي الايمان لو صادف اذانا واعية وشفت مواعظ القران لو وافقت قلوبا خالية ولكن عصفت على القلوب اهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها وتمكنت منها ايدي الغفلة والجهالة فأغلقت ابواب رشدها واضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام وسكرت بشهوات الغي وشهادة الباطل فلم تصغ بعده إلى الملام ووعظت بمواعظ انكى فيها الاسنة والسهام ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة واسر الهوى والشهوة وما لجرح بميت ايلام
والمثل الثاني قوله تعالى ) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ( الصيب المطر الذي يصوب من السماء أي ينزل منها بسرعة وهو مثل القران الذي به حياة القلوب كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات
(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
والحيوان فادرك المؤمنين ذلك منه وعلموا ما يحصل به من الحياة التي لا تخطر لها فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلات التي حدر الله بها من خالف امره واخبر انه منزلها بمن كذب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو ما فيه من الاوامر الشديدة كجهاد الاعداء والصبر على الامر أو الاوامر الشاقة على النفوس التي هي بخلاف ارادتها فهي كالظلمات والرعد والبرق ولكن من علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق بل يستانس لذلك ويفرح به لما يرجو من الحياة والخصب
واما المنافق فانه عمي قلبه لم يجاوز بصره الظلمة ولم ير الا برقا يكاد يخطف البصر و رعدا عظيما وظلمة فاستوحش من ذلك وخاف منه فوضع اصابعه في اذنيه لئلا يسمع صوت الرعد وهاله ذلك البرق وشدة لمعانه وعظم نوره فهو خائف ان يختطف معه بصره لان بصره اضعف من ان يثبت معه فهو في ظلمة يسمع اصوات الرعد القاصف ويرى ذلك البرق الخاطف فان اضاء له ما بين يديه مشى في ضوئه وان فقد الضوء قام متحير ا لا يدري اين يذهب ولجهله لا يعلم ان ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة الأرض والنبات وحياته هو نفسه بل لا يدرك الا رعدا وبرقا وظلمة ولا شعور له بما وراء ذلك فالوحشة لازمة له والرعب والفزع لا يفارقه واما من انس بالصيب وعلم انه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم استانس بذلك ولم يستوحش منه ولم يقطعه ذلك عن اخذه بنصيبه من الصيب فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) من عند رب العالمين تبارك وتعالى على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليحيي به القلوب والوجود اجمع اقتضت
(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
حكمته ان يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيب من الماء حكمة بالغة واسبابا منتظمة نظمها العزيز الحكيم فكان حظ المنافق من ذلك الصيب سحابة ورعوده وبروقه فقط لم يعلم ما وراءه فاستوحش بما انس المؤمنين وارتاب بما اطمان به العالمون وشك فيما يتقيه المبصرون العارفون فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش نحو الظهيرة وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد وقد ذكر عن بعض الحيوانات انها تموت من سمع الرعد
واذا صادف هذه العقول والاسماع والابصار شبهات شيطانية وخيالات فاسدة وظنون كاذبة حالت فيها وصالت وقامت بها وقعدت واتسع فيها مجالها وكثر بها قيلها وقالها فملأت الاسماع من هذيانها والأرض من دواوينها وما اكثر المستجيبين لهؤلاء والقابلين منهم والقائمين بدعوتهم والمحامين عن حوزتهم والمقاتلين تحت الويتهم والمكثرين لسوادهم ولعموم البلية هم وضرر القلوب بكلامهم هتك الله استارهم في كتابه غاية الهتك وكشف اسرارهم غاية الكشف وبين علاماتهم واعمالهم واقوالهم ولم يزل عز وجل يقول ومنهم ومنهم ومنهم حتى انكشف امرهم وبانت حقائقهم وظهرت اسرارهم
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في اول سورة البقرة اوصاف المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في اوصاف المؤمنين ثلاث آيات وفي اوصاف الكفار ايتين
(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
وفي اوصاف هؤلاء بضع عشرة آية لعموم الابتلاء بهم وشدة المصيبة بمخالطتهم فانهم من الجلدة مظهرون الموافقة والمناصرة بخلاف الكافر الذي قد تابد بالعداوة واظهر السريرة ودعالك بما أظهره إلى مزايلته مفارقته
ونظير هذين المثلين المذكورين في سورة الرعد في قوله تعالى ) أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ( فهذا هو المثل المائي شبه الوحي الذي انزله بحياة القلوب بالماء الذي انزله من السماء وشبه القلوب الحاملة له بالاودية الحاملة للسيل فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها كما سالت الاودية بقدرها ولما كانت الاودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل فيحتمله السيل فيطفوا على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكبا ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض فيقدف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض فيحيى به البلاد والعباد والشجر والدواب والغثاء يذهب جفاء يجفي ويطرح على شفير الوادي
فكذلك العلم والايمان الذي انزله في القلوب فاحتملته فاثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة يطفو في اعلاها واستقر العلم والايمان والهدى في جذر القلب فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء و يزول شيئا فشيئا حتى يزول كله ويبقى العلم النافع والايمان الخالص في جذر القلب يرده الناس فيشربونه و يسقون ويمرعون
وفي الصحيح من الحديث أبي موسى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث اصاب ارضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلا والعشب الكثير وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة اخرى انما هي قيعان لا تمسك ماء
(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع يذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي ارسلت به فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات
الطبقة الاولى ورثة الرسل وخلفاء الانبياء عليهم الصلاة والسلام وهم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فهؤلاء اتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فانبتت الكلا والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكا الناس بها وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة ولذلك كانوا ورثة الانبياء ( صلى الله عليه وسلم ) الذين قال الله تعالى فيهم واذكروا عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب اولي الايدي والابصار أي البصائر في دين الله عز وجل فالبصائر يدرك الحق ويعرف وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة اليه فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتاويل ففجرت من النصوص انهار العلوم واستنبطت منها كنوزها ورزقت فيها فهما خاصا كما قال امير المؤمنين علي ابن أبي طالب وقد سئل هل خصكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشئ دون الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة الا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلا والعشب الكثير الذي انبتته الاض وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن
الطبقة الثانية فانها حفظت النصوص وكان همها جفظها وضبطها فوردها الناس وتلقوها منهم فاستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها وبذروها في ارض قابلة للزرع والنبات ووردها كل بحسبه ) قد علم كل أناس مشربهم ( وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي ( صلى الله عليه وسلم )
نضر الله امرءا سمع
(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
مقالتي فوعاها ثم اداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه وهذا عبد الله بن عباس حبر الامة وترجمان القران مقدار ما سمع من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه سمعت ورايت وسمع الكثير من الصحابة وبورك في فهمه والاستنباط منه حتى ملا الدنيا علما وفقها قال أبو محمد بن حزم وجمعت فتاويه في سبعه اسفار كبار وهي بحسب ما بلغ جامعها والا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهه واستنباطه وفهمه في القران بالموضع الذي فاق به الناس وقد سمع كما سمعوا وحفظ القران كما حفظوه ولكن ارضه كانت من اطيب الاراضي واقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فانبتت من كل زوج كريم ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( واين تقع فتاوي ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوي أبي هريرة وتفسيره وابو هريرة احفظ منه بل هو حافظ الامة على الاطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وبلغ ما حفظه كما سمعه وهمة ابن عباس مصروفه إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الانهار منها واستخراج كنوزها
وهكذا الناس بعده قسمان
قسم الحفاظ معتنون بالضبط والحفظ والاداء كما سمعوا ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه وقسم معتنون بالاستنباط واستخراج الاحكام من النصوص والتفقه فيها فالاول كابي زرعة وابي حاتم وابن دارة وقبلهم كبندار محمد بن بشار وعمرو الناقد وعبد الرزاق وقبلهم كمحمد بن جعفر غندر وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم من اهل الحفظ والاتقان
(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
والضبط لما سمعوه من غير استنباط وتصرف واستخراج الاحكام من الفاظ النصوص
والقسم الثاني كمالك والشافعي والاوزاعي واسحق والامام أحمد بن حنبل والبخاري وابي داود ومحمد بن نصر المروزي وامثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية فهاتان الطائفتان هما اسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم الذين قبلوه ورفعوا به راسا
واما الطائفة الثالثة وهم اشقى الخلق الذين لم يقبلوا هدي الله ولم يرفعوا به راسا فلا حفظ ولا فهم ولا رواية ولا دراية ولا رعاية
فالطبقة الاولى اهل رواية ودراية
والطبقة الثانية اهل رواية ورعاية ولهم نصيب من الدراية بل حفظهم من الرواية اوفر
والطبقة الثالثة الاشقياء لا رواية ولا دراية ولا رعاية ) إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ( فهم الذين يضيقون الديار ويغلون الاسعار ان همة احدهم الا بطنه وفرجه فان ترقت همته كان همه مع ذلك لباسه وزينته فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية فان ارتفعت همته عن نصرة النفس الغضبية كان همه في نصرة النفس الكلبية فلم يعطها إلى نصرة النفس السبعية فلم يعطها أحد من هؤلاء فان النفوس كلبية وسبعية وملكية
فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة والسبعية لا تقنع بذلك بل تقهر النفوس تريد الاستيلاء عليها بالحق والباطل واما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك وشمرت إلى الرفيق الاعلى فهمتها العلم والايمان ومحبة الله
(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
تعالى والانابة اليه وايثار محبته ومرضاته وانما تاخذ من الدنيا ما تاخذ لتستعين به على الاصول إلى فاطرها وربها ووليها لالتنقطع به عنه
ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلا ثانيا وهو المثل الناري فقال ) ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ( وهذا كالحديد والنحاس والفضة والذهب وغيرها فانها تدخل الكير لتمحص وتخلص من الخبث فيخرج خبثها فيرمي به ويطرح ويبقى خالصها فهو الذي ينفع الناس
ولم ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حكم من استجاب له ورفع بهداه راسا وحكم من لم يستجب له ولم يرفع بهداه راسا فقال الذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو ان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به اولئك لهم سوء الحساب وماواهم جهنم وبئس المهاد والمقصود ان الله تعالى جعل الحياة حيث النور والموت حيث الظلمة فحياة الوجودين الروحي والجسمي بالنور وهو مادة الحياة كما انه مادة الاضاءة فلا حياة بدونه كما لا اضاءة بدونه وكما به حياة القلب فبه انفساحه وانشراحه وسعته كما في الترمذي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
اذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا وما علامة ذلك قال
الانابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله
ونور العبد هو الذي يصعد عمله وكلمه إلى الله تعالى فان الله تعالى لا يصعد اليه من الكلم الا الطيب وهو نور ومصدر عن النور ولا من العمل الا الصالح ولا من الارواح الا الطيبة وهي ارواح المؤمنين التي استنارت بالنور الذي انزله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والملائكة الذين خلقوا من نور كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
خلقت الملائكة من نور وخلقت الشياطين من نار وخلق ادم مما وصف لكم فلما كانت مادة الملائكة
(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
من نور كانوا هم الذين يعرجون إلى ربهم تبارك وتعالى وكذلك ارواح المؤمنين هي التي تعرج إلى ربها وقت قبض الملائكة لها فيفتح لها باب السماء الدنيا ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى ان ينتهي بها إلى السماء السابعة فتوقف بين يدي الله عز وجل ثم يامر ان يكتب كتابه في اهل عليين فلما كانت هذه الروح روحا زاكية طيبة نيرة مشرقة صعدت إلى الله عز وجل مع الملائكة واما الروح المظلمة الخبيثة الكدرة فانها لا تفتح لها ابواب السماء ولا تصعد إلى الله تعالى بل ترد من السماء الدنيا إلى عالمها ومحتدها لانها ارضية سفلية والاولي علوية سمائية فرجعت كل روح إلى عنصرها وما هي منه وهذا منه مبين في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الامام أحمد وابو عوانه الاسفرائيني في صحيحه والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح
والمقصود ان الله عز وجل لا يصعد اليه من الاعمال والاقوال والارواح الا ما كان منها نورا اقربهم اليه واكرمهم عليه وفي المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
ان الله تعالى خلق خلقه في ظلمة والقى عليهم من نوره فمن اصاب من ذلك النور اهتدى ومن اخطاه ضل فلذلك اقوال
جف القلم على علم الله تعالى وهذا الحديث العظيم اصل من اصول الايمان وينفتح به باب عظيم من ابواب سر القدر وحكمته والله تعالى الموفق
وهذا النور الذي القاه عليهم سبحانه وتعالى هو الذي احياهم وهداهم فاصابت الفطرة منه حظها ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم واتمه بالروح الذي القاه على رسله عليهم الصلاة والسلام والنور الذي اوحاه اليهم فادركته الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم القاء النور فانصاف نور الوحي والنبوة إلى نور الفطرة نور على نور فاشرقت منه القلوب واستنارت به الوجوه وحييت به الارواح واذعنت به الجوارح للطاعات طوعا
(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
واختيارا فازدادت به القلوب الصفات العليا الذي يضمحل فيه كل نور سواه فشاهدته ببصائر الايمان مشاهدة نسبتها إلى القلب نسبة المرئيات إلى العين ذلك لاستيلاء اليقين عليها وانكشاف حقائق الايمان لها حتى كانها تنظر إلى عرش الرحمن تبارك وتعالى بارزا والى استوائه عليه كما اخبر به سبحانه وتعالى في كتابه وكما اخبر به عنه رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) يدبر امر الممالك ويامر وينهى ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويقضي وينفذ ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار ويداول الايام بين الناس ويقلب الدول فيذهب بدولة وياتي باخرى والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعد اليه بالامر ونازل من عنده به واوامره ومراسيمه متعاقبة على تعاقب الايات نافذه بحسب ارادته فما شاء كما شاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدم ولا تاخر وامره وسلطانه نافد في السموات واقطارها وفي الا رض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو وفي سائر اجزاء العالم وذراته يقبلها ويصرفها ويحدث فيها ما شاء وقد احاط بكل شئ علما واحصى كل شئ عددا ووسع كل شئ رحمة وحكمة ووسع سمعه الاصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بالحاح ذوي الحاجات واحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية يعلم السر واخفى من السر فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه واخفى منه ما لم يخطر بعد فيعلم انه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا له الخلق والامر وله الملك والحمد وله الدنيا
(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
والاخرة وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله واليه يرجع الامر كله شملت قدرته كل شئ ووسعت رحمته كل شئ وسعت نعمته إلى كل حي
يساله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان يغفر ذنبا ويفرج هما ويكشف كربا ويجبر كسيرا ويغني فقيرا ويعلم جاهلا ويهدي ضالا ويرشد حيران ويغيث لهفان ويفك عانيا ويشبع جائعا ويكسو عاريا ويشفي مريضا ويعافى مبتل ويقبل تائبا ويجزي محسنا وينصر مظلوما ويقصم جبارا ويقيل عثرة ويستر عورة ويؤمن من روعة ويرفع اقواما ويضع اخرين لا ينام ولاينبغي له ان ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع اليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلفه ويمينه ملاى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ارايتم ما انفق منذ خلق الخلق فانه لم يغض ما في يمينه
قلوب العباد وتواصيهم بيده وازمة الامور معقودة بقضائه وقدره الأرض جميعا يوم القيامة والسموات مطوبات بيمينه يقبض سمواته كلها بيده الكريمة والأرض باليد الاخرى ثم يهزهن ثم يقول انا الملك انا
(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
الملك انا الذي بدات الدنيا ولم تكن شيئا وانا الذي أعيدها كما بدأتها لا يتعاظمه ذنب ان يغفره ولاحاجة يسالها ان يعطيها لو ان اهل سمواته واهل ارضه واول خلقه واخرهم وانسهم وجنهم كانوا على اتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ولو ان اول خلقه واخرهم وانسهم وجنهم كانوا على افجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئا ولو ان اهل سمواته واهل ارضه وانسهم و جنهم وحيهم وميتهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسالوه فاعطي كلا منهم ما ساله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ولو ان اشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى ان تنقضي الدنيا اقلام والبحر وراءه سبعة ابحرتمده من بعده مداد فكتب بتلك الاقلام وذلك المداد لفنيت الاقلام ونفذ المداد ولم تنفذ كلمات الخالق تبارك وتعالى وكيف تفنى كلماته عز وجل جلاله وهي لا بداية لها ولا نهاية والمخلوق له بداية ونهاية فهو احق بالفناء والنفاد وكيف يفنى المخلوق غير المخلوق
هو الاول الذي ليس قبله شئ والاخر الذي ليس بعده شئ والظاهر الذي ليس دونه شئ والباطن الذي ليس دونه شئ تبارك وتعالى احق من ذكر واحق من عبد واحق من حمد واولى من شكر وانصر من ابتغى وارأف من ملك واجود من سئل و اعفى من قدر واكرم من قصد واعدل من انتقم حلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ومغفرته عن عزته ومنعه عن حكمته و موالاته عن احسانه ورحمته
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
ان عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
وهو الملك لاشريك له والفرد فلا ندله والغني فلا ظهير له والصمد فلا ولد له ولا صاحبة والعلي فلا شبيه له ولا سمي له كل شئ
(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
هالك الا وجهه وكل ملك زائل الا ملكه وكل ظل قالص الا ظله وكل فضل منقطع الا فضله لن يطاع الا باذنه ورحمته ولن يعصي الابعلمه الا بعلمه وحكمته يطاع فيشكر ويعصى فيتجاوز ويغفر كل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل اقرب شهيد وادنى حفيظ حال دون النفوس واخذ بالنواصي وسجل الاثار وكتب الاجال فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية والغيب عنده شهاده عطاؤه كلام وعذابه كلام ) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (
فاذا اشرقت على القلب انوار هذه الصفات اضمحل عندها كل نور ووراء هذا ما لا يخطر بالبال ولا تناله عبارة والمقصود ان الذكر ينور القلب والوجه والاعضاء وهو نور العبد في دنياه وفي البرزخ وفي القيامة وعلى حسب نور الايمان في قلب العبد تخرج اعماله واقوله ولها نور وبرهان حتى ان المؤمن من يكون نور اعماله اذا صعدت إلى الله تبارك وتعالى كنور الشمس وهكذا نور روحه اذا قدم بها على الله عز وجل وهكذا يكون نور وجهه في القيامة والله تعالى المستعان وعليه الاتكال تكلمة فوائد الذكر
السابعة والثلاثون ان الذكر راس الاصول وطريق عامة الطائفة ومنشور الولاية فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل فليتطهر وليدخل على ربه عز وجل يجد عنده كل ما يريد فان وجد ربه عز وجل وجد كل شئ وان فاته ربه عز وجل فاته كل شئ
الثامنة والثلاثون في القلب خلة وفاقة لا يسدها شئ البته الا ذكر الله عز وجل فإذا صار شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الاصالة
(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
واللسان تبع له فهذا هو الذكر الذي يسد الخله ويفني الفاقة فيكون صاحبه غنيا بلا مال عزيزا بلا عشيرة مهيبا بلا سلطان فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته ذليل مع سلطانه حقير مع كثرة عشيرته
التاسعة والثلاثون ان الذكر يجمع المتفرق و يفرق المجتمع ويقرب البعيد ويبعد القريب فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وارادته وهمومه وعزومه والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه وانفراطها له والحياة والنعيم في اجتماع قلبه وهمه وعزمه وارادته ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والاحزان والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه ويفرق أيضا ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه واوزاره حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحل ويفرق ايضا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان فان ابليس لا يزال يبعث له سرية وكلما كان اقوى طلبا لله سبحانه وتعالى وامثل تعلقا به وارادة له كانت السرية اكثف واكثر واعظم شوكة بحسب ما عند العبد من مواد الخير والارادة ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع الا بدوام الذكر
واما تقريبه البعيد فانه يقرب اليه الاخرة التي يبعدها منه الشيطان والامل فلا يزال يلهج بالذكر حتى كانه قد دخلها وحضرها فحينئذ تصغر في عينه الدنيا وتعظم في قلبه الاخرة ويبعد القريب اليه وهي الدنيا التي هي ادنى اليه من الاخرة فان الاخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا كلما قربت منه هذه مرحلة بعدت منه هذه مرحلة ولا سبيل إلى هذا الا بدوام الذكر
الاربعون ان الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته والقلب اذا كان نائما فاتته الارباح والمتاجر وكان الغالب عليه الخسران فادا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر واحيا بقية عمره واستدرك ما فاته ولا تحصل يقظته الا بالذكر فان الغفلة نوم ثقيل
الحادية والاربعون ان الذكر شجرة تثمر المعارف والاحوال التي شمر اليها السالكون فلا سبيل إلى نيل ثمارها الا من شجرة الذكر وكلما عظمت
(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
تلك الشجرة ورسخ اصلها كان اعظم لثمرتها فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد وهو اصل كل مقام وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها كما يبنى الحائط على رأسه وكما يقوم السقف على حائطه وذلك ان العبد إذا لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير ولا يستيقظ الا بالذكر كما تقدم فالغفلة نوم القلب أو موته
الثانية والاربعون ان الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والاحاطة العامة فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق كقوله تعالى ) إن الله مع الذين اتقوا ( ) والله مع الصابرين ( ) وإن الله لمع المحسنين ( ) لا تحزن إن الله معنا ( وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر كما في الحديث الالهي
انا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وفي اثر اخر
اهل ذكري اهل مجالستي وهل شكري اهل زيارتي واهل طاعتي اهل كرامتي واهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي ان تابوا فانا حبيبهم فاني احب التوابين واحب المتطهرين وان لم يتوبوا فانا طبيبهم ابتليهم بالمصائب لاطهرهم من المعايب
والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شئ وهي اخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي وهي معية لا تدركها العبارة ولا تنالها الصفة وانما تعلم بالذوق وهي مزلة اقدام ان لم يصحب العبد فيها تمييز بين القديم والمحدث بين الرب والعبد بين الخالق والمخلوق بين العابد والمعبود والا وقع في حلول يضاهي به النصارى أو اتحاد يضاهي به القائلين بوحدة الوجود وان وجود الرب عين وجود هذه الوجودات بل ليس عندهم رب
(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
وعبد ولا خلق وحق بل الرب هو العبد والعبد هو الرب والخلق المشبه هو الحق المنزه تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا والمقصود انه ان لم يكن مع العبد عقيدة صحيحة والا فاذا استولى عليه سلطان الذكر وغاب بمذكوره عن ذكره و عن نفسه ولج باب الحلول والاتحاد ولا بد
الثالثة والاربعون ان الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الاموال والحمل على الخيل فى سبيل الله عز وجل ويعدل الضرب بالسيف فى سبيل الله عز وجل وقد تقدم ان من قال فى يوم مائة مرة لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه حتى يمسى الحديث
وذكر ابن أبي الدنيا عن الاعمش عن سالم بن أبي الجعد قال قيل لابي الدرداء ان رجلا اعتق مائة نسمة قال ان مائة نسمة من مال رجل كثير وافضل من ذلك وافضل ايمان ملزوم بالليل والنهار ان لا يزال لسان احدكم رطبا من ذكر الله عز وجل وقال ابن مسعود لان اسبح الله تعالى تسبيحات احب إلى من ان انفق عددهن دنانير فى سبيل الله عز وجل وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود فقال عبد الله سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر احب إلى من ان انفق عددهن دنانير فى سبيل الله عز وجل فقال عبد الله بن عمرو لان اجد فى طريق فاقولهن احب إلي من احمل عددهن على الخيل فى سبيل الله عز وجل وقد تقدم حديث ابى الدرداء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
الا انبئكم بخير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الورق والذهب وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا
(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
اعناقهم ويضربوا اعناقكم قالوا بلى يارسول الله قال
اذكروا الله رواه ابن ماجه والترمذي وقال الحاكم صحيح الإسناد
الرابعة والاربعون ان الذكر راس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره وذكر البيهقي عن زيد بن اسلم ان موسى عليه السلام قال رب قد انعمت علي كثيرا فدلني على ان اشكرك كثيرا قال اذكرني كثيرا فاذا ذكرتني كثيرا فقد شكرتني كثيرا واذا نسيتني فقد كفرتني وقد ذكر البيهقي ايضا في شعب الايمان عن عبد الله بن سلام قال قال موسى عليه السلام يارب مالشكر الذي ينبغي لك فاوحى الله تعالى اليه ان لا يزال لسانك رطبا من ذكري قال يارب اني اكون على حال اجلك ان اذكرك فيها قال وما هي اكون جنبا أو على الغائط أو اذا بلت فقال وان كان قال يارب فما اقول قال تقول سبحانك وبحمدك وجنبني الاذى وسبحانك وبحمدك فقني الاذى
قلت قالت عائشة كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الله تعالى على كل احيانه ولم تستثن حالة من حالة وهذا يدل على انه كان يذكر ربه تعالى في حال طهارته وجنابته واما في حال التخلي فلم يكن يشاهده أحد يحكي عنه ولكن شرع لامته من الاذكار قبل التخلي وبعده مايدل على مزيد الاعتناء بالذكر وانه لا يخل به عند قضاء الحاجة وبعدها وكذلك شرع للامة من الذكر عند الجماع ان يقول احدهم بسم الله اللهم جنبنا الشيطان ما رزقتنا واما عند نفس قضاء الحاجة وجماع الاهل فلا ريب انه لا يكره بالقلب لانه لابد لقلبه من ذكر ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من هو احب شئ اليه فلو كلف القلب نسيانه لكان تكليفه بالمحال كما قال القائل
(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فأما الذكر باللسان على هذه الحالة فليس مما شرع لنا ولا ندبنا اليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا نقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وقال عبد الله بن أبي الهذيل ان الله تعالى ليحب ان يذكر في السوق ويحب ان يذكر على كل حال الا على الخلاء
ويكفي في هذه الحال استشعار الحياء والمراقبة والنعمة عليه في هذه الحالة وهي من اجل الذكر فذكر كل حال بحسب ما يليق بها واللائق بهذه الحال التقنع بثوب الحياء من الله تعالى واجلاله وذكر نعمته عليه واحسانه اليه في اخراج هذا العدو المؤذي له لو بقي فيه لقتله فالنعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذي به وكان علي بن أبي طالب اذا خرج من الخلاء مسح بطنه وقال يالها نعمة لو يعلم الناس قدرها وكان بعض السلف يقول الحمد لله الذي اذاقني لذته وابقى في منفعة واذهب عني مضرته وكذلك ذكره حال الجماع ذكر هذه النعمة التي من بها عليه وهي اجل نعم الدنيا فاذا ذكر نعمة الله تعالى عليه بها هاج من قلبه هائج الشكر فالذكر راس الشكر وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ والله يامعاذ اني لاحبك فلا تنس ان تقول دبر كل صلاة اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك فجمع بين الذكر والشكر كما جمع سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى ) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ( فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح
الخامسة والاربعون ان اكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره فانه اتقاه في امره ونهيه وجعل ذكره شعاره فالتقوى اوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار وهذا هو الثواب والاجر والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه وهذه هي المنزلة
وعمال الاخرة على قسمين منهم من يعمل على الاجر والثواب ومنهم
(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
من يعمل على المنزلة والدرجة فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى ويسابق إلى القرب منه وقد ذكر الله تعالى النوعين في سورة الحديد في قول الله تعالى ) إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم ( فهؤلاء اصحاب الاجور والثواب ثم قال ) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ( فهؤلاء اصحاب المنزلة والقرب ثم قال والشهداء عند ربهم لهم اجرهم و نورهم فقيل هذا عطف على الخبر من الذين امنوا بالله ورسله اخبر عنهم بانهم هم الصديقون وانهم الشهداء الذين يشهدون على الامم ثم اخبر عنهم ان لهم اجرا وهو قوله تعالى ) لهم أجرهم ونورهم ( فيكون قد اخبر عنهم باربعة امور انهم صديقون وشهداء فهذه هي المرتبة والمنزلة
قيل تم الكلام عند قوله تعالى ) الصديقون ( ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء فقال ) والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ( فيكون قد ذكر المتصدقين اهل البر والاحسان ثم المؤمنين الذين قد رسخ الايمان في قلوبهم وامتلاوا منه فهم الصديقون وهم اهل العلم والعمل والاولون اهل البر والاحسان ولكن هؤلاء اكمل صديقية منهم ثم ذكر الشهداء وانه تعالى يجري عليهم رزقهم ونورهم لانهم لما بذلوا انفسهم لله تعالى اثابهم الله تعالى عليها ان جعلهم احياء عنده يرزقون فيجري عليهم رزقهم ونورهم فهؤلاء السعداء
ثم ذكر الاشقياء فقال ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( والمقصود انه سبحانه وتعالى ذكر اصحاب الاجور والمراتب وهذان الامران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة ان غلبوا موسى عليه الصلاة والسلام فقالوا ان لنا لاجرا ان كنا الغا لبين قال نعم وانكم لمن المقربين أي اجمع لكم بين الاجر والمنزلة عندي والقرب مني فالعمال عملوا على الاجور والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله
(1/97)
"""""" صفحة رقم 98

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق