الأحد، 20 أكتوبر 2024

ج2. الشعراوي من الاية 30. الي 52.

 


الشعراوي في تفسير سورة الزمر الايات 30 و31.

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ

٣٠ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ

٣١ -الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي كان كفار مكة إذا أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء أو وعكة صحية، أو نزلتْ به شدة كما حدث في أُحُد يفرحون لذلك، فما بالك لو مات رسول الله؟ لذلك يقرر القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] فعلامَ يفرحون وهذه نهاية الجميع، كما قال في موضع آخر: { { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34].

لكن المسألة لن تنتهي عند هذا الحدِّ، إنما بعد الموت حياةٌ أخرى، فيها حساب وجزاء ووقوف بين يدي الله تعالى، وساعتها سيكون النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مقام، أما أنتم فسيكون موقفكم موقفَ المخالفين لله، فماذا تقولون؟ هذا معنى قوله سبحانه { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31].

ومعنى { إِنَّكَ مَيِّتٌ .. } [الزمر: 30] هكذا بالتشديد. أي: ذاهب مُنْتهٍ إلى الموت ففرْق بين ميّت بتشديد الياء وميْت بسكونها، ميّت يعني من سيموت ويؤول إلى الموت، ولو كان حيّاً، لأن الله خاطب رسوله وهو ما يزال حياً. أما ميْت فمَنْ مات بالفعل.

ومن ذلك قول الشاعر:

وكُلُّ أَنَامِ اللهِ فِي النَّاسِ مَيِّتٌ وَمَا الميْتُ إلاَّ مَنْ إِلَى القَبْرِ يُحْمَلُ

وقوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] فيه تطمينٌ وتأسية لرسول الله، كما خاطبه سبحانه بقوله: { { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77] وهنا قال: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31].

يعني: إما أنْ ترى انتقام الله منهم في الدنيا وإلا ففي الآخرة، إذن: من مصلحتك أنت أنْ تنتقل إلى الرفيق الأعلى لنختصر المسافة، وترى بعينك مصارع الكافرين المعاندين، فلا تضعف ولا تذل؛ لأن لك مآلاً عند الله تأخذ فيه جزاءك، ويأخذون جزاءهم.

والحق - سبحانه وتعالى - لما تكلَّم عن الموت في سورة تبارك، قال: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ .. } [الملك: 1-2].

فتأمل { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ .. } [الملك: 2] وجعل الموت أولاً مع أنه بعد الحياة، ذلك لأن الحياة ستعطيك نوعاً من الغرور، حين ترى جوارحك تستجيب لك، والأسباب تستجيب لك والدنيا تعطيك فلا بُدَّ أن يدخلك الغرور، فأراد الحق سبحانه ألاّ نستقبلَ الحياة بالغرور، بل نستقبلها أولاً بهذه الحقيقة التي تناقض الحياة وهي الموت.

إذن: فالعاقل يفهم أنه صائر إلى الموت، ويقضي رحلة حياته وهو على ذكْر لهذه النهاية.

وقوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31] وستكون أول خصومة بين الأنبياء ومَنْ كفروا بهم هي مسألة البلاغ حين يشهد الرسل أنهم بلَّغوا أقوامهم رسالة الله، فإذا بهم يتعللون، يقولون: اعتقدناه سحراً، اعتقدناه كذباً، اعتقدناه تخييلاً، لكنهم ما فطنوا إلى أن الله أكّد هذا بقوله { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. } [البقرة: 143].

إذن: فضّل الله أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم بأنها حملتْ رسالة رسولها، وهذه مسألة لم تحدث مع الرسل السابقين؛ لذلك قال تعالى: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ .. } [آل عمران: 110] والدليل على حَمْل الأمة لهذه الرسالة أنه لم يأتِ رسول بعد رسول الله، فكأن الله تعالى أَمِن أمة محمد على رسالته، والنبي صلى الله عليه وسلم شهد أنه بلَّغ أمته، وعليهم هم أنْ يشهدوا أنهم بلَّغوا الناس.

وهذا المعنى من معاني الوسطية التي قال الله فيها: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً .. } [البقرة: 143].

وإنْ كانت تتسع لغير ذلك فلأنها وسط في كل شيء، فقد رأينا في غير هذه الأمة مَنْ أنكر الإله، ومنهم مَنْ أثبت آلهة متعددة، وكلاهما تطرف، فجاء الإسلام وقال بعبادة إله واحد لا شريك له، فاختار الوسطية والاعتدال وحَلّ هذا النزاع.

لذلك خاطبنا ربنا بقوله: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً .. } [البقرة: 143] أي: فيكم نواحي الاعتدال، فإذا سمعتم مَنْ يقول بالشيوعية، ومَنْ يقول بالرأسمالية، وإذا رأيتم مَنْ يتعصّب لمذهبه فقولوا: نحن أمة وسطا تركنا للرأسمالية أن تثمِّر طموحها، لأنه ليس للجميع لديه طموح، وحين تثمِّر الرأسمالية طموحها لا بُدَّ أنْ تخدم المجتمع، وانظر كم من العمال يعمل، وكم من البيوت تُفتح.

كذلك الشيوعية فرضنا لهم ما لم يدفعوا إلى غير القادر، إذن: أخذنا ميزة هؤلاء وميزة هؤلاء، بدليل أن النظامين اللذين سيطرا على العالم طوال مدة من الزمن بدأتْ شراستهم تقل، فالرأسماليون أخذوا في التخفيف من حِدَّة الرأسمالية، ونظروا إلى العمال فأعطوْهم حقوقهم وميَّزوهم، وجعلوا لهم نقابات ... إلخ، وكذلك الشيوعية قالوا: لا بُدَّ أنْ يوجد في المجتمع طبقة تقدر أنْ تزِنَ الأمور بطموحاتها، ويجعلوا للعمال فرصاً يعملون بها، وأخيراً انتهت الشيوعية والحمد لله عن آخرها.

إذن: فأمة الإسلام أمة الوسطية أخذت خَيْر النظامين.

نقول: سيكون في الآخرة الاختصام الأول بين الأنبياء ومن كذَّب بهم، واختصام بين أئمة الكفر ومَنْ تبعهم ممَّنْ أضلوهم وأغوْوهم، بين القوم الذين أثروا في السفهاء، وجعلوهم تابعين لهم في الكفر.

وقد صَوَّر القرآن هذه الخصومة في هذا الموقف، فقال: { { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 166-167].

لذلك يقول سبحانه وتعالى: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].

إذن: لا بدّ أنْ يختلفوا الآن، ويلعنَ بعضهم بعضاً، ويُلقي كلّ منهم التبعية على الآخر؛ لذلك يقول تعالى: { { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الصافات: 24-29].

هكذا يختصم التابع والمتبوع، وتتفرّق جماعتهم ولا يتناصرون كما تناصروا على كفرهم في الدنيا.

ويُصوِّر القرآن موقفاً آخر للكافرين، حيث سبق قادتهم ورؤساؤهم إلى النار، فجاء التابعون فوجدوا السادة قد سبقوهم، يقول تعالى: { { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ * هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [ص: 55-60].

وكوْنُ القادة يسبقون أتباعهم إلى النار يدلُّ على أنهم أعظم جُرْماً من التابعين لهم؛ لأنهم ضلُّوا في أنفسهم وأضلُّوا غيرهم، وفيه أيضاً قطْعٌ لأمل التابعين في النجاة والخلاص من النار، ومَنْ يخلصهم وقد رأوا سادتهم وقادتهم قد سبقوهم إليها؟

وفي المقابل يعرض الحق سبحانه هذا الحوار بين المؤمنين في الجنة: { { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } [الصافات: 51] أي: صاحب من أهل الكفر { { يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 52-55].

يعني: نظر من السور فإذا بقرينه في سواء الجحيم، يعني: في وسطها. فقال: { { تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [الصافات: 56] تهلكني معك { { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } [الصافات: 57].

وقد يكون حواراً بلا خصام، كما في قوله تعالى: { { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [الأحزاب: 66-68].

 

===================

 

الايات من 32 و33.

 

 

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ

٣٢ وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ

٣٣ -الزمر

 

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [الزمر: 32] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها.

إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب.

لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه؟ بل ظلم نفسه.

ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً.

ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32] يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به.

وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها: { { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44-47].

إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابي فيها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه: الله أحد. وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فذكر الأمر بأنْ يقول (قل).

والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه.

أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك ليُبلِّغ عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة (قُلْ) فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.

وقوله: { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: صدَّق بالصدق الذي جاء به، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً، فقال سبحانه: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [آل عمران: 18] وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله، إذن: جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه: أشهد أن محمداً رسول الله. كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان.

وقالوا: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] هو رسول الله { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه، سواء أكان أبا بكر رضي الله عنه أم السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد اختلفوا في هذه المسألة: أهو أبو بكر أم خديجة؟ وليس في المسألة خلاف. فإذا قيل: أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر. ومن النساء: خديجة.

والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقال: إنه نبيُّ هذه الأمة، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال: وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ.

أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته؟

قالوا: ليست المعجزة (عياقة) لا يؤمن الناس إلا بها، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق؛ لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة؟

قالوا: لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله؟ إذن: أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت: "والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر" فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم.

وأنتم تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزيمة الذي يقول فيه: "مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه" ونِصاب الشهادة معروف، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة؟ وبم استحق هذه المنزلة؟

قالوا: لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله "حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي، ثم أدَّاه إليه في موعده، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول: يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني، فقال رسول الله: لقد أعطيتُك، فقال: ومَنْ يشهد على ذلك؟ فقام خزيمة وقال: يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه.

ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه: لعله كان حاضراً ولم أَرَه، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما، عندها خنس اليهودي وانصرف، فاستدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه؟

فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم؟ فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة، ورآه اجتهاداً جميلاً، فقال فيه: مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه" .

والمسألة ليست على دراهم اليهودي، إنما لها واقعٌ آخر، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور، حتى وقف أمام آية كُتِبت وشهد عليها شاهد واحد فتوقف، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه: "مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه" فكتبها.

ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج. وقالوا له: إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال: إنْ كان قد قال فقد صدق. فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله.

وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33] أي: الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية.

 

======================

 

الايات 32 و33.

 

 

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ

٣٢ وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ

٣٣ -الزمر

 

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [الزمر: 32] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها.

إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب.

لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه؟ بل ظلم نفسه.

ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً.

ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32] يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به.

وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها: { { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44-47].

إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابي فيها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه: الله أحد. وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فذكر الأمر بأنْ يقول (قل).

والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه.

أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك ليُبلِّغ عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة (قُلْ) فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.

وقوله: { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: صدَّق بالصدق الذي جاء به، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً، فقال سبحانه: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [آل عمران: 18] وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله، إذن: جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه: أشهد أن محمداً رسول الله. كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان.

وقالوا: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] هو رسول الله { وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] أي: الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه، سواء أكان أبا بكر رضي الله عنه أم السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد اختلفوا في هذه المسألة: أهو أبو بكر أم خديجة؟ وليس في المسألة خلاف. فإذا قيل: أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر. ومن النساء: خديجة.

والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فقال: إنه نبيُّ هذه الأمة، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال: وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ.

أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال: إنْ كان قال فقد صدق، إذن: كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته؟

قالوا: ليست المعجزة (عياقة) لا يؤمن الناس إلا بها، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق؛ لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة؟

قالوا: لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله؟ إذن: أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت: "والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَقْري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر" فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم.

وأنتم تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزيمة الذي يقول فيه: "مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه" ونِصاب الشهادة معروف، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة؟ وبم استحق هذه المنزلة؟

قالوا: لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله "حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي، ثم أدَّاه إليه في موعده، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول: يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني، فقال رسول الله: لقد أعطيتُك، فقال: ومَنْ يشهد على ذلك؟ فقام خزيمة وقال: يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه.

ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه: لعله كان حاضراً ولم أَرَه، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما، عندها خنس اليهودي وانصرف، فاستدعى رسول الله خزيمة، وقال له: يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه؟

فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم؟ فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة، ورآه اجتهاداً جميلاً، فقال فيه: مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه" .

والمسألة ليست على دراهم اليهودي، إنما لها واقعٌ آخر، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور، حتى وقف أمام آية كُتِبت وشهد عليها شاهد واحد فتوقف، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه: "مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه" فكتبها.

ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج. وقالوا له: إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال: إنْ كان قد قال فقد صدق. فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله.

وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33] أي: الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية.

 

=======================

 

34 و35.

 

 

لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ

٣٤ لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ

٣٥ -الزمر

 

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

قوله: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ } [الزمر: 34] أي: متوفر لهم كلّ ما يشاءون، لكن عند مَنْ؟ { عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] حين تكون لا عندية إلا لله وحده، هذه العندية هي معنى قوله تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16].

فالعندية تكون للناس في الدنيا، فهذا موظف عند هذا، وهذا خادم عند هذا، أما في الآخرة فالعندية لله وحده، وفي هذه العندية ينال المؤمن ما اشتهاه في الدنيا ولم يحصل عليه في الآخرة يقول الله { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] ولم يقُلْ لهم ما يشاءون، بل ما يشاءون عندي أنا. أي: بلا أسباب، لأن الأسباب كانت في الدنيا، وما تريده بالأسباب قد لا يتحقق لك، وإنْ كان في يدك لأن الله يزاول سلطانه بواسطة خلفائه في الأرض، فيجعل هذا سبباً في رزق هذا، وهذا يعين هذا، والأسباب قد تتخلف أما في الآخرة فلا أسبابَ، بل هو عطاء الله المباشر بلا سبب.

وفي سيرة أكابر الرسل أحداثٌ توضح لنا هذه العندية لله تعالى، فسيدنا إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - أول ما دعا دعا عمه آزر، وجادله في مسألة الأصنام، فلما رآه مُصِرّاً على عناده قال له: { { سَلاَمٌ عَلَيْكَ .. } [مريم: 47].

كلمة السلام هنا ليست سلام الأمن والطمأنينة، ولا سلامَ التحية، إنما سلام الموادعة لأنهما مختلفان في الرأي، ولن يثمر الجدل مع العناد والمكابرة، فطول الجدال لن يُزيد المسألة إلا تعقيداً وعداوة، ومن الأفضل في مثل هذا الموقف أن ينسحب منه صاحب الحقِّ حتى لا تشتعل نارُ الخلافات أكثر من ذلك، كما تقول لصاحبك في مثل هذا الموقف: يا عم سلام عليكم لتنهي الموقف، فالسلام عليكم هنا تعني أنني لو لم أترك هذا المكان لن يحدث سلام. وقد يكون سلامٌ من البشر لا يقدرون على أدائه.

لذلك، فإن السلام الحق من الله، كما في قوله تعالى: { { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58].

الشاهد هنا أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - شاء أن يستغفر لعمه، فلم يُجَبْ إلى ذلك، شاء في الدنيا لكن الله لم يشأ، كذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أنْ يستغفر لعمه أبي طالب بعد أنْ دعاه فلم يستجب، وأصرَّ على دين آبائه، فلما استغفر له رسولُ الله أنزل الله عليه: { { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ .. } [التوبة: 113].

فقد شاء محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه، لكن لم يُعْط ذلك، لأن هذه المشيئة منه في الدنيا ليستْ عند الله، أما مشيئته عند الله في الآخرة فمستجابة متحققة، هذا معنى { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ .. } [الزمر: 34].

فإنْ كانت للمؤمن مشيئات لا تتحقق في الدنيا فهي مُدَّخرة له في الآخرة عند ربه، هذه المشيئات التي لا تتحقق يسترها شيء واحد أن أكرم المشيئة أنْ تشاء من الله أنْ ينصر دينه، وقد تحققت هذه المشيئة.

إذن: فالمشيئة التي لا تتحقق هي التي تعود على نفسك، أما المشيئة التي تطابق الإيمان بمنهج الله فهي لا بُدَّ متحققة كما تحققت مثلاً في بدر.

فالحق - سبحانه وتعالى - يريد منا حين نكون مؤمنين به ومُصدِّقين لرسوله ألاَّ تكون لنا مشيئة في غير ديننا؛ لأن المشيئة في غير الدين يمكن أن تكون في أيدي الناس فلا يحققوها لك، وربما مات المؤمن قبل أنْ يرى مشيئته بنصر الله فيدخر له ذلك في الآخرة.

إذن: المهم عنده أن تكونَ المشيئة خاصة بنصر دين الله على مَنْ يكذبه ويخالفه، وهذه المشيئة متحققة بدليل: { { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173].

وقوله: { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 34] صحيح هناك عمل، وهناك فضل، وتشريع الجزاء على العمل من الفضل؛ لأن ربنا حينما يثيبني على شيء يعود عليَّ بالنفع يُعد هذا الجزاء زيادة، والأصل أن يقول لي: لقد أخذتَ جزاءك منفعةً بالعمل الذي عملته؛ لأن خالقك أعطاك كل الأسباب، أعطاك الجوارح التي تعمل بها، وأعطاك الأرض والمال والهواء والماء والطعام، فإنْ أثابك على العمل كان من فضله.

والمحسن درجةٌ أعلى من المؤمن، فالمؤمن يأخذ ما فرضه الله عليه ويُنفِّذه دون زيادة، أما المحسن فهو الذي يؤدي ما فرض الله عليه ويزيد عليه من جنس ما فرض الله، فمثلاً يصلي الصلوات الخمس ثم يزيد عليها ما شاء من النوافل من صلاة الليل، كما قال سبحانه في المحسنين: { { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 17-19].

ولم يقل هنا (حق معلوم) لأن الحق المعلوم هو الزكاة، أما في هذا المقام فالعبد يُزكِّي ماله، ثم يزيد على ذلك ما شاء من التطوع والصدقات، وهذه الزيادات ما طلبها منك ربك، إنما تؤديها محبةً وتقرباً إليه سبحانه.

إذن: كلمة الإحسان عند الله فيها نفس معنى الإحسان للناس. تقول: أحسنت إلى فلان حين تعطيه أكثر من حقه. وحين يجازي الله المحسنَ إنما يعطيه جزاءَ إحسانه، فإذا كان العبد يحسن فالله أوْلَى وأكرم.

والحق سبحانه أعطانا المثَل الحسِّي للإحسان في الأرض، وما تُخرجه من ثمراتها فأنت تضع فيها حبة القمح مثلاً، فتعطيك في المقابل سبعمائة حبة، فإذا كان هذا هو عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه؟ فالمعنى: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] لماذا؟ لأنهم كانوا محسنين، وهذا جزاء الإحسان.

وقوله: { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } [الزمر: 35] هذا أيضاً من العطاء الخاص بدرجة الإحسان، فكلمة أسوأ تدلّ على المبالغة وأقل منها السيئة، فعندنا سيئة وأسوأ منها، ولا شكَّ أن السيئة تنصرف إلى الصغائر، والأسوأ تنصرف إلى الكبائر، فكأن الذي دخل في مقام الإحسان ضمن أن مقام الإحسان يكون له مثل مقاصَّة تُسقط عنه ذنوبه، ليست الصغائر فحسب إنما الكبائر أيضاً؛ لأن الذي يُكفّر الأسوأ يُكفِّر السيئة من باب أَوْلَى، هذا لأنك أدخلتَ نفسك في مقام لم يُطلب منك لمجرد المحبة لمن كلفك.

بل هناك عطاء أعظم من ذلك، هو أن المسألة لا تنتهي عند تكفير الذنوب والسيئات، إنما تُبدَّل إلى حسنات، كما قال سبحانه: { { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ .. } [الفرقان: 70].

فتأمّل درجات العطاء من الله، والربح في التجارة معه سبحانه.

وبنفس الإكرام والتفضل يجازي اللهُ المحسنين على حسناتهم { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35] فكما غفر لهم الأسوأ يجازيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أيْ: بأحسن من عملهم.

هذا العطاء من الله، وهذا التكرم والتفضل منه على عباده شجَّع الشارد من دعوة الإيمان وحَثَّه على العودة إلى حظيرة الإيمان، فليس هناك ما يحول بينه وبين ربه، وليس في الطريق حجر عَثْرة مهما كَثُرَت الذنوب ما دام بابُ التوبة مفتوحاً.

والحق سبحانه حينما شَرَع التوبة للعاصين المذنبين شرعها لينقذهم من شراسة المعصية، فلو قلنا للعاصي: ليس لك توبة ماذا يفعل (يفقد) كما نقول: فلان ده فاقد. يعني: يئس من الإصلاح فتمادى في الفساد وبالغ في الضلال، والحق سبحانه لا يريد لعباده ذلك، ففتح لهم بابَ التوبة ليعطفهم إلى دين الله، فلا يزداد الانحرافُ في المجتمع، ولا تستشري فيه المعصيةُ.

بعد أن أخبر رسول الله القومَ بهذا المنهج الإلهي في الجزاء قال المعاندون لرسول الله: نخاف عليك يا محمد أنْ تمسَّك آلهتنا بسوء وقد أغضبتها، سبحان الله يقولون هذا وهم يعلمون أنها حجارة لا تضر ولا تنفع، ولما مسَّهم الضر ما وجدوا غير الله يلجئون إليه؛ ولذلك نزل قوله تعالى:

{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ... }.

 

============

 

34.و35.

 

لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ

٣٤ لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ

٣٥ -ا

 

خ واطر محمد متولي الشعراوي

 

قوله: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ } [الزمر: 34] أي: متوفر لهم كلّ ما يشاءون، لكن عند مَنْ؟ { عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] حين تكون لا عندية إلا لله وحده، هذه العندية هي معنى قوله تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16].

فالعندية تكون للناس في الدنيا، فهذا موظف عند هذا، وهذا خادم عند هذا، أما في الآخرة فالعندية لله وحده، وفي هذه العندية ينال المؤمن ما اشتهاه في الدنيا ولم يحصل عليه في الآخرة يقول الله { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] ولم يقُلْ لهم ما يشاءون، بل ما يشاءون عندي أنا. أي: بلا أسباب، لأن الأسباب كانت في الدنيا، وما تريده بالأسباب قد لا يتحقق لك، وإنْ كان في يدك لأن الله يزاول سلطانه بواسطة خلفائه في الأرض، فيجعل هذا سبباً في رزق هذا، وهذا يعين هذا، والأسباب قد تتخلف أما في الآخرة فلا أسبابَ، بل هو عطاء الله المباشر بلا سبب.

وفي سيرة أكابر الرسل أحداثٌ توضح لنا هذه العندية لله تعالى، فسيدنا إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - أول ما دعا دعا عمه آزر، وجادله في مسألة الأصنام، فلما رآه مُصِرّاً على عناده قال له: { { سَلاَمٌ عَلَيْكَ .. } [مريم: 47].

كلمة السلام هنا ليست سلام الأمن والطمأنينة، ولا سلامَ التحية، إنما سلام الموادعة لأنهما مختلفان في الرأي، ولن يثمر الجدل مع العناد والمكابرة، فطول الجدال لن يُزيد المسألة إلا تعقيداً وعداوة، ومن الأفضل في مثل هذا الموقف أن ينسحب منه صاحب الحقِّ حتى لا تشتعل نارُ الخلافات أكثر من ذلك، كما تقول لصاحبك في مثل هذا الموقف: يا عم سلام عليكم لتنهي الموقف، فالسلام عليكم هنا تعني أنني لو لم أترك هذا المكان لن يحدث سلام. وقد يكون سلامٌ من البشر لا يقدرون على أدائه.

لذلك، فإن السلام الحق من الله، كما في قوله تعالى: { { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58].

الشاهد هنا أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - شاء أن يستغفر لعمه، فلم يُجَبْ إلى ذلك، شاء في الدنيا لكن الله لم يشأ، كذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أنْ يستغفر لعمه أبي طالب بعد أنْ دعاه فلم يستجب، وأصرَّ على دين آبائه، فلما استغفر له رسولُ الله أنزل الله عليه: { { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ .. } [التوبة: 113].

فقد شاء محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه، لكن لم يُعْط ذلك، لأن هذه المشيئة منه في الدنيا ليستْ عند الله، أما مشيئته عند الله في الآخرة فمستجابة متحققة، هذا معنى { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ .. } [الزمر: 34].

فإنْ كانت للمؤمن مشيئات لا تتحقق في الدنيا فهي مُدَّخرة له في الآخرة عند ربه، هذه المشيئات التي لا تتحقق يسترها شيء واحد أن أكرم المشيئة أنْ تشاء من الله أنْ ينصر دينه، وقد تحققت هذه المشيئة.

إذن: فالمشيئة التي لا تتحقق هي التي تعود على نفسك، أما المشيئة التي تطابق الإيمان بمنهج الله فهي لا بُدَّ متحققة كما تحققت مثلاً في بدر.

فالحق - سبحانه وتعالى - يريد منا حين نكون مؤمنين به ومُصدِّقين لرسوله ألاَّ تكون لنا مشيئة في غير ديننا؛ لأن المشيئة في غير الدين يمكن أن تكون في أيدي الناس فلا يحققوها لك، وربما مات المؤمن قبل أنْ يرى مشيئته بنصر الله فيدخر له ذلك في الآخرة.

إذن: المهم عنده أن تكونَ المشيئة خاصة بنصر دين الله على مَنْ يكذبه ويخالفه، وهذه المشيئة متحققة بدليل: { { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173].

وقوله: { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 34] صحيح هناك عمل، وهناك فضل، وتشريع الجزاء على العمل من الفضل؛ لأن ربنا حينما يثيبني على شيء يعود عليَّ بالنفع يُعد هذا الجزاء زيادة، والأصل أن يقول لي: لقد أخذتَ جزاءك منفعةً بالعمل الذي عملته؛ لأن خالقك أعطاك كل الأسباب، أعطاك الجوارح التي تعمل بها، وأعطاك الأرض والمال والهواء والماء والطعام، فإنْ أثابك على العمل كان من فضله.

والمحسن درجةٌ أعلى من المؤمن، فالمؤمن يأخذ ما فرضه الله عليه ويُنفِّذه دون زيادة، أما المحسن فهو الذي يؤدي ما فرض الله عليه ويزيد عليه من جنس ما فرض الله، فمثلاً يصلي الصلوات الخمس ثم يزيد عليها ما شاء من النوافل من صلاة الليل، كما قال سبحانه في المحسنين: { { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 17-19].

ولم يقل هنا (حق معلوم) لأن الحق المعلوم هو الزكاة، أما في هذا المقام فالعبد يُزكِّي ماله، ثم يزيد على ذلك ما شاء من التطوع والصدقات، وهذه الزيادات ما طلبها منك ربك، إنما تؤديها محبةً وتقرباً إليه سبحانه.

إذن: كلمة الإحسان عند الله فيها نفس معنى الإحسان للناس. تقول: أحسنت إلى فلان حين تعطيه أكثر من حقه. وحين يجازي الله المحسنَ إنما يعطيه جزاءَ إحسانه، فإذا كان العبد يحسن فالله أوْلَى وأكرم.

والحق سبحانه أعطانا المثَل الحسِّي للإحسان في الأرض، وما تُخرجه من ثمراتها فأنت تضع فيها حبة القمح مثلاً، فتعطيك في المقابل سبعمائة حبة، فإذا كان هذا هو عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه؟ فالمعنى: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر: 34] لماذا؟ لأنهم كانوا محسنين، وهذا جزاء الإحسان.

وقوله: { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } [الزمر: 35] هذا أيضاً من العطاء الخاص بدرجة الإحسان، فكلمة أسوأ تدلّ على المبالغة وأقل منها السيئة، فعندنا سيئة وأسوأ منها، ولا شكَّ أن السيئة تنصرف إلى الصغائر، والأسوأ تنصرف إلى الكبائر، فكأن الذي دخل في مقام الإحسان ضمن أن مقام الإحسان يكون له مثل مقاصَّة تُسقط عنه ذنوبه، ليست الصغائر فحسب إنما الكبائر أيضاً؛ لأن الذي يُكفّر الأسوأ يُكفِّر السيئة من باب أَوْلَى، هذا لأنك أدخلتَ نفسك في مقام لم يُطلب منك لمجرد المحبة لمن كلفك.

بل هناك عطاء أعظم من ذلك، هو أن المسألة لا تنتهي عند تكفير الذنوب والسيئات، إنما تُبدَّل إلى حسنات، كما قال سبحانه: { { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ .. } [الفرقان: 70].

فتأمّل درجات العطاء من الله، والربح في التجارة معه سبحانه.

وبنفس الإكرام والتفضل يجازي اللهُ المحسنين على حسناتهم { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35] فكما غفر لهم الأسوأ يجازيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أيْ: بأحسن من عملهم.

هذا العطاء من الله، وهذا التكرم والتفضل منه على عباده شجَّع الشارد من دعوة الإيمان وحَثَّه على العودة إلى حظيرة الإيمان، فليس هناك ما يحول بينه وبين ربه، وليس في الطريق حجر عَثْرة مهما كَثُرَت الذنوب ما دام بابُ التوبة مفتوحاً.

والحق سبحانه حينما شَرَع التوبة للعاصين المذنبين شرعها لينقذهم من شراسة المعصية، فلو قلنا للعاصي: ليس لك توبة ماذا يفعل (يفقد) كما نقول: فلان ده فاقد. يعني: يئس من الإصلاح فتمادى في الفساد وبالغ في الضلال، والحق سبحانه لا يريد لعباده ذلك، ففتح لهم بابَ التوبة ليعطفهم إلى دين الله، فلا يزداد الانحرافُ في المجتمع، ولا تستشري فيه المعصيةُ.

بعد أن أخبر رسول الله القومَ بهذا المنهج الإلهي في الجزاء قال المعاندون لرسول الله: نخاف عليك يا محمد أنْ تمسَّك آلهتنا بسوء وقد أغضبتها، سبحان الله يقولون هذا وهم يعلمون أنها حجارة لا تضر ولا تنفع، ولما مسَّهم الضر ما وجدوا غير الله يلجئون إليه؛ ولذلك نزل قوله تعالى:

{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ... }.

 

===========

 

36 و37.

 

أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ

٣٦ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ

٣٧ -الزمر

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.

ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] وقرأت: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنتْ بسبب هذه المسألة.

قوله سبحانه: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد, فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.

يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.

والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟

إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات.

وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة، فلو قلنا مثلاً: ما عندي مال، (ما) هنا تنفي وجود المال الذي يُعتد به، ولا تمنع أنْ يكون معي جنيه أو جنيهان مثلاً، لكن لو قلتَ: ما عندي من مال أي: من بداية ما يُقال له مال ولا حتى مليم واحد إذن: حرف الجر هنا ليس زائداً في الكلام، إنما تأسيسي في المعنى.

أما الذين قالوا بزيادة الباء في { بِكَافٍ } [الزمر: 36] فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكافٍ خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.

وقوله: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟ { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [الزمر: 37] هذا هو المقابل إذا هدانا الله الطريق، فلن يُضِلنا أحد { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] يعني: أليس اللهُ موصوفاً بالعزّة، فالباء هنا كسابقتها.

والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب، وما دام هو سبحانه غالباً لا يغلب فاحذروا انتقامه لأنه { ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فمهما صنعتم بالفكر الفاسد والتبييت والائتمار فلن تغلبوه.

وعجيبٌ من الكفار أنْ يُخوِّفوا رسول الله بالأصنام، وهم يعلمون حقيقتها وقولهم فيها: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] كلام باطل لغة، لأن العبادة طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وأي أمر أو نَهْي للأصنام؟ إذن: هذا الكلام منهم هراء وباطل. لذلك سيدنا خالد بن الوليد لما ألانَ الله قلبه للإسلام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يبعثه ليهدم العُزَّى، فلما ذهب إليها خالد وأمسك بفأسه ليكسرها قال لها:

 

يا عُزّى كُفْرانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ إنِّي رأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكْ ولو كانتْ هذه آلهة لخوَّفته ومنعتْ نفسها.

وقف بعضُ المستشرقين عند هذه الآية { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام، وقالوا الأصنام: اللات والعُزَّى ومناة كلها أسماء مؤنثة، فكيف يقول القرآن (بالذين) وهي للمذكر ولم يَقُلْ باللاتي؟ ونقول: هناك فَرْقٌ بين اسم للصنم ومُسمَّاه، يعني: اسمه صنم. وهذا الصنم سُمِّيَ باللاَّت أو العُزَّى، فمن حيث هو صنم يكون الجمع مذكراً، ومن حيث المسمَّى مؤنثاً، فالذين للاسم أي: للأصنام، واللاتي للمسمَّى.

ونقف هنا عند هذه المقابلة في قوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 36-37] الضَّالُّ هو الذي لا يهتدي لغايته، كالذي ضَلَّ الطريق لا يدري أين يتجه، هذا ضَالٌّ عن غير قصد للضلال لأنه لا يعرف.

وجاء ضَالّ بمعنى متردد حائر، في قوله تعالى مُخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: { { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] لأن النبي رأى أمته تفعل أشياء لا تعجبه، وهو ما يزال لا يعرف الصواب الذي ينبغي فِعْله، أي: لا يعرف الحقيقة، لا أنه يعرف ومنصرف عنها، وفَرْقٌ بين الحالتين. إذن: الضلال هنا غير مقصود.

ويأتي الضلال بمعنى النسيان، كما في قوله تعالى: { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].

ومن الضلال أنْ ننسى العهد الفطري القديم الذي أخذه الله علينا في قوله سبحانه: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172].

ومقابل الضلال الهداية، وهي أيضاً تأتي بمعَانٍ متعددة، لكن الذين يتوركون على كلام الله، ويريدون أنْ يعترضوا عليه يأخذونها على معنى واحد، يديرونه على كل موضوعاتها، لكن هذا لا يصح.

فالهداية تُطلَق على الدلالة المطلقة، يعني يدلك وأنت حُرٌّ تطيعه أو تعرض عنه. وضربنا مثلاً لذلك برجل المرور الذي يُرشدك ويدلّك على الطريق، بعدها أنت حر تسلك أو لا تسلك، فإنْ سلكتَ الطريق الذي دلّك عليه وشكرته على معروفه، وقلت له: كثر الله خيرك لولاك لَضللتُ الطريق، فإنه ينظر إليك نظرة أخرى، ويراك أهلاً للمزيد من الخير. فيقول لك: والله أنت رجل طيب، وسوف أسير معك حتى تمرّ من هذه المنطقة لأن فيها أخطاراً، وهذه تُسمَّى المعونة، فالذي يؤمن بمَنْ هدى ودلَّ أهلٌ لأنْ يُعان، وأنْ يُوفق للمزيد من الهداية.

وهذا معنى قول الله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17] يعني: زادهم بمعونتهم وتخفيف مشاقّ الطاعة عليهم، وصَرْف أسباب الشر عنهم. إذن: فالأُولَى: هداية دلالة مطلقة. والثانية: هداية إعانة وتوفيق.

وهاتان الهدايتان أوضحهما الحق سبحانه في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في الأولى: { { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] وقال في الأخرى: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] فكيف يثبت الهدايةَ لرسول الله في آية وينفيها في آية أخرى، والحديث واحد، والفاعل واحد؟

قالوا: لأن الجهة مُنفكة فالهداية المنفية غير الهداية المثبتة، فالحق يقول لنبيه محمد: أنت مُبلِّغ ومُرشد ودَالٌّ فحسب، لستَ واضعَ مناهجَ وليست لك قدرة على أنْ ترغم الناس أنْ يؤمنوا، إنما عليك أن تبلغ لأن بلاغك هو هداية الله للناس، لكن ليستْ مهمتك أن تُدْخِل الإيمانَ في القلوب.

ومثلها قوله تعالى في آية واحدة: { { .. وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الروم: 6-7].

هكذا أثبت لهم العلم ونفاه عنهم في نفس الآية، لماذا؟ لأن الجهة منفكَّة، فالعلم المنفيّ غير العلم المثبت.

وقوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يضلل الله يعني: ينسبه للضلال يقول: هذا ضال. يعني: خارج عن الطريق الذي رسمته له، هذا الذي حكم الله بأنه ضَالٌّ لا يمكن أنْ يصفه صاحب عقل بأنه مُهْتدٍ. لأنه حين يعرض مطلوب الله منه وما يفعله يصل بالعقل الفطري إلى أنه ضال، ليس بمهتدٍ.

فالحق سبحانه مثلاً قال لنا: اصدقوا في حديثكم. ونهانا عن الكذب، فماذا يقول العاقل حين يقارن بين الصدق والكذب؟ لا بد أنْ يقول: الصدق هداية، والكذب ضلال لا يستطيع أنْ يقول غير ذلك، خاصة إذا جعل الأمر في نفسه هو: أتحب أنْ يصدُقَ الناسُ معك، أم أنْ يكذبوا عليك؟

إذن: فمَنْ يُضلل الله ويحكم بأنه ضَالٌّ بعد أنْ بيَّن له الطريق لا يقدر أحد أنْ يصفه بالهدى، لأن هداية الله أمرٌ تتفق فيه كل العقول الفطرية، خصوصاً إذا مسَّك أنت عاقبة هذا الضلال واكتويتَ بناره.

لذلك تجد الكذاب يحب الصادق، والشرير يحب الخيِّر الشريف وضربنا مثلاً لذلك بثلاثة من الشباب بالمراهقين الذين يسيرون في الحياة على (حَلٍّ شعرهم)، ويسلكون الطريق البطال، واحد منهم تاب الله عليه واعتزلهم، فراحوا يسخرون منه ويصفونه بالجردل والقفل .. الخ. ثم أراد واحد منهما أنْ يزوج أخته، لمن يُزوجها لزميله الذي يوافقه على الشر والفساد، أم للآخر الذي تاب واعتزل شرهم؟ إذن: قد يُغريك الباطلِ، لكن لا بُدَّ في النهاية أنْ يغلب الحق، وأنْ يظهر ويعلو، { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فاصبر على طريقه.

==36 و37.=============

أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ

٣٦ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ

٣٧

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.

ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] وقرأت: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنتْ بسبب هذه المسألة.

قوله سبحانه: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد, فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.

يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.

والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟

إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات.

وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة، فلو قلنا مثلاً: ما عندي مال، (ما) هنا تنفي وجود المال الذي يُعتد به، ولا تمنع أنْ يكون معي جنيه أو جنيهان مثلاً، لكن لو قلتَ: ما عندي من مال أي: من بداية ما يُقال له مال ولا حتى مليم واحد إذن: حرف الجر هنا ليس زائداً في الكلام، إنما تأسيسي في المعنى.

أما الذين قالوا بزيادة الباء في { بِكَافٍ } [الزمر: 36] فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكافٍ خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.

وقوله: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟ { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [الزمر: 37] هذا هو المقابل إذا هدانا الله الطريق، فلن يُضِلنا أحد { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] يعني: أليس اللهُ موصوفاً بالعزّة، فالباء هنا كسابقتها.

والعزيز هو الذي يغلب ولا يُغلب، وما دام هو سبحانه غالباً لا يغلب فاحذروا انتقامه لأنه { ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فمهما صنعتم بالفكر الفاسد والتبييت والائتمار فلن تغلبوه.

وعجيبٌ من الكفار أنْ يُخوِّفوا رسول الله بالأصنام، وهم يعلمون حقيقتها وقولهم فيها: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] كلام باطل لغة، لأن العبادة طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وأي أمر أو نَهْي للأصنام؟ إذن: هذا الكلام منهم هراء وباطل. لذلك سيدنا خالد بن الوليد لما ألانَ الله قلبه للإسلام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يبعثه ليهدم العُزَّى، فلما ذهب إليها خالد وأمسك بفأسه ليكسرها قال لها:

 

يا عُزّى كُفْرانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ إنِّي رأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكْ

 

ولو كانتْ هذه آلهة لخوَّفته ومنعتْ نفسها.

وقف بعضُ المستشرقين عند هذه الآية { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر: 36] أي: بالأصنام، وقالوا الأصنام: اللات والعُزَّى ومناة كلها أسماء مؤنثة، فكيف يقول القرآن (بالذين) وهي للمذكر ولم يَقُلْ باللاتي؟ ونقول: هناك فَرْقٌ بين اسم للصنم ومُسمَّاه، يعني: اسمه صنم. وهذا الصنم سُمِّيَ باللاَّت أو العُزَّى، فمن حيث هو صنم يكون الجمع مذكراً، ومن حيث المسمَّى مؤنثاً، فالذين للاسم أي: للأصنام، واللاتي للمسمَّى.

ونقف هنا عند هذه المقابلة في قوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 36-37] الضَّالُّ هو الذي لا يهتدي لغايته، كالذي ضَلَّ الطريق لا يدري أين يتجه، هذا ضَالٌّ عن غير قصد للضلال لأنه لا يعرف.

وجاء ضَالّ بمعنى متردد حائر، في قوله تعالى مُخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: { { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] لأن النبي رأى أمته تفعل أشياء لا تعجبه، وهو ما يزال لا يعرف الصواب الذي ينبغي فِعْله، أي: لا يعرف الحقيقة، لا أنه يعرف ومنصرف عنها، وفَرْقٌ بين الحالتين. إذن: الضلال هنا غير مقصود.

ويأتي الضلال بمعنى النسيان، كما في قوله تعالى: { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].

ومن الضلال أنْ ننسى العهد الفطري القديم الذي أخذه الله علينا في قوله سبحانه: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172].

ومقابل الضلال الهداية، وهي أيضاً تأتي بمعَانٍ متعددة، لكن الذين يتوركون على كلام الله، ويريدون أنْ يعترضوا عليه يأخذونها على معنى واحد، يديرونه على كل موضوعاتها، لكن هذا لا يصح.

فالهداية تُطلَق على الدلالة المطلقة، يعني يدلك وأنت حُرٌّ تطيعه أو تعرض عنه. وضربنا مثلاً لذلك برجل المرور الذي يُرشدك ويدلّك على الطريق، بعدها أنت حر تسلك أو لا تسلك، فإنْ سلكتَ الطريق الذي دلّك عليه وشكرته على معروفه، وقلت له: كثر الله خيرك لولاك لَضللتُ الطريق، فإنه ينظر إليك نظرة أخرى، ويراك أهلاً للمزيد من الخير. فيقول لك: والله أنت رجل طيب، وسوف أسير معك حتى تمرّ من هذه المنطقة لأن فيها أخطاراً، وهذه تُسمَّى المعونة، فالذي يؤمن بمَنْ هدى ودلَّ أهلٌ لأنْ يُعان، وأنْ يُوفق للمزيد من الهداية.

وهذا معنى قول الله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17] يعني: زادهم بمعونتهم وتخفيف مشاقّ الطاعة عليهم، وصَرْف أسباب الشر عنهم. إذن: فالأُولَى: هداية دلالة مطلقة. والثانية: هداية إعانة وتوفيق.

وهاتان الهدايتان أوضحهما الحق سبحانه في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في الأولى: { { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] وقال في الأخرى: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] فكيف يثبت الهدايةَ لرسول الله في آية وينفيها في آية أخرى، والحديث واحد، والفاعل واحد؟

قالوا: لأن الجهة مُنفكة فالهداية المنفية غير الهداية المثبتة، فالحق يقول لنبيه محمد: أنت مُبلِّغ ومُرشد ودَالٌّ فحسب، لستَ واضعَ مناهجَ وليست لك قدرة على أنْ ترغم الناس أنْ يؤمنوا، إنما عليك أن تبلغ لأن بلاغك هو هداية الله للناس، لكن ليستْ مهمتك أن تُدْخِل الإيمانَ في القلوب.

ومثلها قوله تعالى في آية واحدة: { { .. وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الروم: 6-7].

هكذا أثبت لهم العلم ونفاه عنهم في نفس الآية، لماذا؟ لأن الجهة منفكَّة، فالعلم المنفيّ غير العلم المثبت.

وقوله تعالى: { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } [الزمر: 36] يضلل الله يعني: ينسبه للضلال يقول: هذا ضال. يعني: خارج عن الطريق الذي رسمته له، هذا الذي حكم الله بأنه ضَالٌّ لا يمكن أنْ يصفه صاحب عقل بأنه مُهْتدٍ. لأنه حين يعرض مطلوب الله منه وما يفعله يصل بالعقل الفطري إلى أنه ضال، ليس بمهتدٍ.

فالحق سبحانه مثلاً قال لنا: اصدقوا في حديثكم. ونهانا عن الكذب، فماذا يقول العاقل حين يقارن بين الصدق والكذب؟ لا بد أنْ يقول: الصدق هداية، والكذب ضلال لا يستطيع أنْ يقول غير ذلك، خاصة إذا جعل الأمر في نفسه هو: أتحب أنْ يصدُقَ الناسُ معك، أم أنْ يكذبوا عليك؟

إذن: فمَنْ يُضلل الله ويحكم بأنه ضَالٌّ بعد أنْ بيَّن له الطريق لا يقدر أحد أنْ يصفه بالهدى، لأن هداية الله أمرٌ تتفق فيه كل العقول الفطرية، خصوصاً إذا مسَّك أنت عاقبة هذا الضلال واكتويتَ بناره.

لذلك تجد الكذاب يحب الصادق، والشرير يحب الخيِّر الشريف وضربنا مثلاً لذلك بثلاثة من الشباب بالمراهقين الذين يسيرون في الحياة على (حَلٍّ شعرهم)، ويسلكون الطريق البطال، واحد منهم تاب الله عليه واعتزلهم، فراحوا يسخرون منه ويصفونه بالجردل والقفل .. الخ. ثم أراد واحد منهما أنْ يزوج أخته، لمن يُزوجها لزميله الذي يوافقه على الشر والفساد، أم للآخر الذي تاب واعتزل شرهم؟ إذن: قد يُغريك الباطلِ، لكن لا بُدَّ في النهاية أنْ يغلب الحق، وأنْ يظهر ويعلو، { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } [الزمر: 37] فاصبر على طريقه.

 

==================

 

38.

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ

٣٨

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

أراد الحق سبحانه أنْ يُسفِّه أحلامهم في أنْ يعبدوا أصناماً، وأراد سبحانه أنْ يقيم عليهم الدليل والحجة على بطلان هذه العبادة، وأنْ يكون هذا الدليلُ إقراراً منهم لا خبراً منه سبحانه، وقلنا: إن إثبات الحكم إما أن يكون خبراً منك، أو إقراراً من المقابل. والإقرار - كما قلنا - سيد الأدلة، وأنت لا تترك للمخاطب أنْ يحكم هو إلا إذا كنت واثقاً أنه سيقول ما تريده أنت، كما تقول لمن ينكر جميلك: ألم أُحْسن إليك يوم كذا وكذا؟ لا تقولها إلا وأنت واثقٌ أنه لا يستطيع أنْ ينكر.

لذلك فالحق سبحانه يسألهم هنا عن عمدة الكون في الخَلْق أو الظرف الأعلى الذي يحوي المخلوقات كلها وهو السماوات والأرض، فالإنسان خُلِق له الكون قبل أنْ يُخلق، فطرأ على أرض فيها زرع ونبات وماء وهواء وتربة صالحة، وطرأ على سماء فيها الكواكب والنجوم والشمس والقمر.

فقال سبحانه: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 38] لا بدّ أنْ يقولوا الله، والله وحده لأنهم أداروا فكرهم فلم يجدوا أحداً ادعى هذا الخَلْق، ولم يأتِ ببال أحد من الكافرين أو المعاندين أو المنكرين لوجود الله لم يأت على باله أنْ يدّعي هذا الادعاء.

ولو تتبعنا خَلْق الإنسان من لَدُنْ آدم عليه السلام ومَنْ جاء من ذريته نجده طرأ على هذا الكون بسمائه وأرضه، فلو سألناه: أأنت خلقت السماء والأرض؟ لا يستطيع أنْ يقول: أنا خلقتهما.

فاسألهم أنت يا محمد هذا السؤال: { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الزمر: 38] ولا بدّ أنْ يقولوا (الله) لأنه ما مرّت فترة على موجود ليس في وجوده أرض وسماء، حتى يُقال إنه أوجدها لما جاء، بل الجميع طارئ على هذا الكون.

ومثلهما تماماً: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87] لأن أول مخلوق خُلِق وأوجد لا يستطيع أحد أنْ يقول له: أنا خلقتك، ولا يقدر هو أنْ يقول خلقتُ نفسي.

وقولهم في الجواب هنا (الله) يلفتنا إلى مسألة أخرى، فالله لفظ دائر على ألسنتهم ويفهمون مدلوله وإلا ما نطقوا به، ذلك لأن المعاني توجَد أولاً، ثم تُوضع لها الألفاظ التي تدلّ عليها، ومثَّلْنا لذلك (بالتليفزيون) مثلاً، فقبل أنْ يوجد ما كنّا نعرف هذا الاسم، لكن لما وُجِد وضعنا له الاسم، إذن: كلمة الله كيف دخلتْ لغة الناس؟

إذن: فلفظ الجلالة الله له مدلوله، وهو الحق سبحانه موجود قبل أنْ يُوجد هذا اللفظ. لذلك نقول لمن ينكر وجودَ الله تعالى: كلامك متناقض، فقوْلك الله غير موجود لا يستقيم، لأن الله مبتدأ محكومٌ عليه وغير موجود خبر محكوم به، فكيف تقول إنه غير موجود، والمعنى يُوجد قبل لفظه؟

وكلمة الله ما وُجدَتْ في لغة إلا لأنه سبحانه موجود، موجود قبل الاسم ونحن ما عرفنا الاسم إلا لما أخبرنا به صاحبه؛ لأن عمل العقل في الإيمان أنْ يدلَّك على أن وراء هذا الكون خالقاً أوجده، لكن ما هذه القوة؟ وماذا تريد من الخَلْق؟ هذه ليستْ مهمة العقل، فالعقل لا يصل إليها، إنما نعرفها بالبلاغ عن هذا الخالق.

تذكرون أننا مثَّلنا هذه المسألة قلنا: نحن مثلاً جالسون في منزل ثم دقَّ جرس الباب، ساعة سمعنا الجرس اتفقنا جميعاً على أن أحداً بالباب، لأن كل حدث لا بُدَّ أنّ له محدثاً، لكن مَنْ هو؟ ماذا يريد؟ لا نعرف إلا إذا أخبرنا هو بماهيته وقال: أنا فلان، وأريد كذا وكذا.

إذن: فالعقل بالنسبة للوجود الأعلى لا يدرك مُشخَّصات الوجود الأعلى، إنما فقط يؤمن بوجوده ويستدل عليه، وهو سبحانه يخبرنا باسمه وصفاته ومنهجه ومطلوباته، فالبلاغ لا بُدَّ أنْ يكون من صاحب الشأن.

ومن خيبة الفلاسفة في البحث أنهم أرادوا أنْ يُدخِلوا العقل لا في المعقول فقط، إنما في تصور المعقول، والتصور ليس مهمتهم لأنك لا تستطيع أنْ تتصوَّر شكلَ هذا المعقول، أنت تعقل الموجود فقط ثم تترك للوجود أنْ يتكلم عن نفسه.

لذلك (نقفشهم) حينما يقولون في العلوم: علوم مادية وعلوم وراء المادة، وهي التي يسمونها (الميتافيزيقا)، ومَنْ أعلمك أن وراء المادة شيئاً يُبحث عنه؟ والقضية أنه لا يوجد شيء إلا بشيء إلى أن نعرف هذا الشيء، فإن لم يستدرك عليه شيء آخر يثبت له.

فالحق سبحانه قال وأخبر أنه هو الذي خلق هذا الخَلْق، فهذا الوجود لا يوجد إلا إذا أوجده واجد وأنا الذي أوجدته، ولم يَقُم لهذه الدَّعْوى معارض إذن: تثبت الدعوى لصاحبها إلى أنْ يُوجدَ معارض.

لذلك سبق أنْ قلنا: إن كلمة الكفر هي نفسها دليلُ الإيمان، لأن الكفر معناه الستر، ولا يستر إلا موجود، فكأن الكفر طارئ على الإيمان، كأن الأصل في الفطرة السليمة الإيمان، ثم طرأ عليه الكفر ليستره.

وبعد أنْ قالوا (الله) وأقروا الحجة الأولى في أنه سبحانه خالق السماوات والأرض قال لهم { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 38] يعني: أخبروني فأمَّنهم أن يقولوا هم وأنْ يخبروا عن الذين يدعونهم من دون الله أي الأصنام { إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ .. } [الزمر: 38] أي: الأصنام { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ .. } [الزمر: 38] الجواب لا يكون إلا بالنفي، لأن الأصنام أولاً لا تسمع ضراعة مَنْ يتضرع لها، ولا يدركون مطلوبه، فكيف يجيبونه في كشف الضر عنه؟

وفي المقابل: { أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ .. } [الزمر: 38] أي: الأصنام { مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [الزمر: 38] الجواب أيضاً بالنفي، إذن: ثبت النفع لله بإقرارهم، وثبت البطلان لآلهتهم، لكن إنْ تلجلجوا بعد ذلك فلم يجيبوك لأن الجواب سيلزمهم الحجة فَقُلْ: { حَسْبِيَ ٱللَّهُ .. } [الزمر: 38] أي: في إيجاد النافع في خَلْق السماوات والأرض، وحَسْبي الله في دفع الضر عني، فهو يكفيني.

وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة: { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] كافيه يعني: يعطيه النعمة نعمة الوجود أولاً، ثم نعمة امتداد هذا الوجود واستبقاء الحياة، ثم نعمة استبقاء النوع، وبعد ذلك يرفع عنه الضر إنْ أصابه ونزل به، والإنسان إذا مسَّه الضر في نفسه لا يتجه إلى إله باطل أبداً، لأنه لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، لذلك قال سبحانه: { { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67].

وقوله: { عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر: 38] هنا أسلوب قَصْر، يقصر التوكل على الله وحده، وهذا هو التوكل الحقيقي؛ لأن المتوكل على شيء يجعل لقوته رصيداً إذا ذهبتْ هذه القوة، لذلك فالعاقل هو الذي يتوكل على مَنْ يغيثه ويُعينه وإذا احتاج إليه وجده، وقلنا: خاب مَنْ توكل على مثله لأنك تتوكل عليه، وتأمل عنده قضاء حاجاتك، وبعد أيام تقرأ نَعْيه في الجرائد، لذلك يُعلمنا ربنا سبحانه كيف نتوكل، فيقول: { { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58].

وفرْق بين التوكل والتواكل؛ لأنه يد الله مُدَّتْ قديماً بالأسباب للخَلْق، أسباب استبقاء الحياة بالطعام والشراب، وأسباب استبقاء النوع بالتزاوج.

الحق سبحانه حينما ضمن لنا هذه الأسباب جعل لنا دوراً فيها، فالأرض مثلاً أمامك، والشمس تشرق عليها، والهواء يهبُّ عليها، والمطر يسقيها، وعليك أنت أنْ تستغلَّ هذه الأسباب بأنْ تحرثَ الأرضَ وتبذر البذور وترعاها لتعطيك الأرض من خيراتها، ولا تنتظر أنْ تجلس في بيتك والأسباب تأتيك بالطعام تضعه على مائدتك؛ لأن ربك خلقك وخلق لك الجوارح، وجعلها تنفعل لإرادتك فيدُكَ يمكن أن تضرب بها، ويمكن أن تمسح بها على رأس يتيم، لسانك يمكن أنْ تنطق به كلمة التوحيد، ويمكن أن تنْطق به ما ينافيها.

لكن تذكَّر أن جوارحك خاضعة لمرادك في الدنيا فقط، أما في الآخرة فلا ولاية لك عليها، لأنها ستكون في ولاية خالقها، يوم يقول سبحانه: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16] وعندها تتحرر جوارحك من ولايتك وتشهد عليك: { { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24].

هذه الأسباب وهذه الجوارح التي خلقها الله لك ما خلقها لتعطلها أنت، فإنْ كان العمل في إمكانك وطلبته من غيرك، فهذا هو التواكل، أنْ تهمل أسباب الله وتغفل عن هذه المملكة التي جعلها الله تدين لك وتطاوعك، وتأتمر بأمرك لمجرد الإرادة، هذه عزة متَّعكَ الله بها في ذاتك، فكيف تذلّ نفسك بالتوكل على مثلك؟ وكيف ترد يد الله الممدودة إليك؟

فإنْ أخذتَ بالأسباب، وأعملتَ عقلك وجوارحك فيما أعطاه اللهُ لك فأنت متوكل، وحقيقة التوكل أنْ تعمل بالجوارح وتتوكل على الله بالقلب، وتوقَّع أنْ يصيبك الابتلاء فتعمل وتأخذ بالأسباب ولا تعطيك، كالذي يزرع الأرض وتأتي جائحة فتقضي على المحصول مثلاً.

 

=================

 

40

قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

٣٩ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ

٤٠.

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

هنا تأمل هذا النداء: { يٰقَوْمِ } [الزمر: 39] فبعد عنادهم وإصرارهم على باطلهم وعدم قبولهم للحجج والبراهين ما يزال الحق سبحانه يتحنَّن إليهم، فيأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يناديهم بهذا النداء الحبيب: (يا قوم) يعني: أنا لستُ غريباً عنكم، وأنتم أهلي وعشيرتي التي أعيشُ بينها.

لما دعاهم رسول الله فلم يستجيبوا ولم تفلح معهم الحجج والبراهين التي تثبت بطلان عبادتهم للأصنام، أمره ربه أنْ يقول لهم: { يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ .. } [الزمر: 39] معنى: اعملوا على مكانتكم كما تقول لمن لم يستجب لك: اعمل ما بدا لك. أو (أعلى ما في خيلك اركبه).

فالمعنى: اعملوا على مكانتكم. يعني: خذوا كلّ إمكانياتكم ضدي. لماذا؟ لأنه متوكل على ربِّه وهو كافيه، فهو لا يقولها مجازفةً ولا استكباراً، إنما يقولها برصيد من قوله تعالى: { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36].

وكلمة { مَكَانَتِكُـمْ } [الزمر: 39] عندنا مكان ومكانة، المكان هو: الحيز الذي يشغله الشيء. والمكين هو: الذي يشغل المكان، فالكوب مثلاً مكان والماء فيه مكين، فأنت ذاتك لك مكان تشغله حتى لو اضطهدك أحدٌ فأخرجك منه لا بُدَّ أنْ يذهب بك إلى مكان آخر.

فإذا اتسع بك هذا المكان وصارتْ لك سلطة على مكان أوسع منه لك فيه سلطان وأمر ونهي فهذه مكانة، فيقال لمن اتَّسع جاهه وسلطانه: له مكانة. فالتاء الزائدة هنا يسمونها تاء المبالغة. كما نقول في المبالغة في العلم عالم وعلاَّم وعلاَّمة. فكلمة علاَّمة هي قمة العلم وتُقال لمن بلغ في مجاله مبلغاً بحيث لا يخفى عليه منه شيء.

فإنْ قلتَ: فلماذا وصف الحق نفسه سبحانه بعلاَّم، ولم يُوصَف بعلامة؟ نقول: لأن علم الله تعالى لا تفاوتَ فيه، ليس فيه جزئي وكلي، فلا يُوصف الحق سبحانه بهذه الصفة.

ومن المكانة قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: { { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } [يوسف: 56] أي: لم نجعل له مكاناً، إنما جعلنا له مكانة وسلطاناً واسعاً ينقله هنا وهناك حيث يشاء، والإنسان يكون له مكان فتأتي قوة تُمكِّنه في المكان، كما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد يكون له المكان فتأتي قوة فتُزيله عنه كما أخذني ورماني في زنزانة.

وسبق أنْ قلنا: إن في اللغة همزة تسمى همزة الإزالة، إذا دخلتْ على فعل تزيله، كما تقول: أعجم الكلام، يعني: أزال عُجْمته وأبان معناه، ومن ذلك قول رسول الله في مناجاته لربه: "لك العُتْبى حتى ترضى" يعني: إن كان حصل منه شيء يغضبك فأنا أزيل عتابك عليَّ حتى أبلغ رضاك عني. ونقول: عتب فلانٌ على فلان فأعتبه يعني: أزال عتابه بأنْ يعتذر له أو يصالحه، لأن العتب لوْم على شيء ما كان يصح بين المحبين؛ ومن ذلك قوله تعالى في الكلمة التي معنا (المكانة): { { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 71].

فمعنى (أمكن منهم) يعني: أزال مكانهم، ونقول: فلان تمكن من فلان. يعني: قدر عليه وأزاله عن مكانه أو مكانته.

إذن: فكلمة المكانة هي ما لك عليه سلطانٌ وولاية تُعينك على مرادك، فالمكان إذا بالغتَ فيه فهو مكانة والتاء للمبالغة، وتأتي أيضاً للجاه ينبسط على ما لا يدخل في مِلْككٍ تصرفاً، وإنما يدخل في ملكك مهابة؛ لذلك لما قُتِل مالك قالوا: مالك كان يحمي مواقع السحاب. يعني: أينما تمرّ السَحابة وتمطر فمطرها يحميه مالك، بحيث لا يتعدى عليه أحد، وما كان هذا إلا لمكانته في القوم فحمى مواقع السحاب في غير بلاده.

وقوله: { إِنِّي عَامِلٌ } [الزمر: 39] يعني: أنتم اعملوا على مكانتكم واستطاعتكم في العناد والاضطهاد والإيذاء، فأنا عامل على مكانتي من الدعوة والنُّصْح لكم والحرص على هدايتكم، فهذه رسالتي ولن أتخلَّى عنها، وسوف أبالغ في نَشْرها وأتحمل اضطهادكم لي ولأصحابي، ولن يُثنيني شيء عن مرادي.

وقوله: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الزمر: 39] المعلوم هنا: { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [الزمر: 40] أي: في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [الزمر: 40] أي: في الآخرة، وتأمل هنا كلمة سوف التي تدل على الاستقبال، فلم يَقُلْ حالاً الآن، لأن الإسلام بدأ غريباً وانتشر أول ما انتشر بين الضعفاء والعبيد الذين اضطهدوا وماتوا وأُوذُوا وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل دعوة الحق.

فأراد الحق سبحانه أن يُمحِّصَ أهل الإيمان الذين يحملون هذه الدعوة، وأنْ يُميز منهم ضعافَ العقيدة، وينفي عنهم أهل الخور والنفاق الذين لا يصلحون لحمل هذه الرسالة، لذلك كان الوحي كل فترة ينزل على رسول الله بأمر عزيز، وكلما نزل أمر من هذه الأمور نفى بعضهم حتى لم يَبْقَ حول رسول الله إلا صِحَاح الإيمان أقوياء العقيدة.

وفي هذه الآية تهديدٌ من رسول الله للقوم المكذِّبين بأحداث سوف تأتي، هذا التهديد دليلٌ على ثقته صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ أوحى إليه بهذا التهديد قادرٌ على أنْ يُبرزه كما أخبر به، وإلا لما قاله رسول الله، لأن الزمن سيكشف صدق هذا التهديد أو عدم صدقه.

كذلك الأمر في الوعد يخبر به رسول الله قبل أوانه، واقرأ هذا الوعد مثلاً: { { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45] هذا وَعْد من الله للمؤمنين جاء في أشد وأحلك الظروف وهم مضطهدون لا يستطيعون حمايةَ أنفسهم، لذلك لما نزلتْ هذه الآية قال عمر رضي الله عنه: أيّ جمع هذا ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما رآها في بدر قال: صدق ربي وصدق رسوله، وهذا الوعد لا يطعن في الدعوة إنما يريد أنْ يؤكدها. إذن: صِدْق في الوعد، وصدق في الوعيد.

وقلنا: إن صدق الرسول في أمور تتعلق بأمته شيء، وصدقه فيما يتعلق بذاته شيء آخر، صدقه فيما يتعلق بذاته آكد، وذكرنا قصة المرأة التي أسلمتْ حينما قرأتْ تفسير قوله تعالى لرسوله: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67] فلما أعطاه ربه الأمان وأنه لن يُغتال من جانب الناس صرف صلى الله عليه وسلم حُراسه ولم يُبْق عليهم مع هذا الوعد، فوقفتْ هذه المرأة وقفةً عقلية وقالت: لو أنه خدع الناس جميعاً ما خدع نفسه، إذن: هذه ثقة من رسول الله بوعد الله.

وقوله تعالى: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الزمر: 39] ولم يقل ترون أو تنظرون؛ لأن العلم أوسع وأعمّ من النظر، فالأحداث التي ستأتي ربما تكون بعيدة من مَرْآهم تَحدث في أماكن أخرى يراها البعض ولا يراها البعض، أما العلم فينقل إليك ما تقع عليه جوارحك، وما تقع عليه جوارح الآخرين.

إذن: بالعلم تأخذ علم الغير، أنت حينما ترى وتعقل تهتدي إلى الحكم بتصوّر العقل، وبالعلم تستفيد بما عقله الآخرون. إذن: فالعلم أوسع دائرةً من معطيات العقل والجوارح.

وقوله: { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [الزمر: 40] كلمة مقيم جاءت لترد على كلام سبق أنْ قالوه هم، لأن الحروب عندهم كانت تستمر طويلاً حتى أربعين سنة، وتكون بينهم سجالاً يوم لك ويوم عليك، فربما ظنوا العذاب كذلك فترة وتنتهي، فأراد أنْ يؤكد لهم أن العذاب إذا حَلَّ بهم فليس فيه سجال كسجال الحرب، إنما هو مقيم دائم.

 

===========

 

معاد

قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

٣٩ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ

٤٠

 

 

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

هنا تأمل هذا النداء: { يٰقَوْمِ } [الزمر: 39] فبعد عنادهم وإصرارهم على باطلهم وعدم قبولهم للحجج والبراهين ما يزال الحق سبحانه يتحنَّن إليهم، فيأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يناديهم بهذا النداء الحبيب: (يا قوم) يعني: أنا لستُ غريباً عنكم، وأنتم أهلي وعشيرتي التي أعيشُ بينها.

لما دعاهم رسول الله فلم يستجيبوا ولم تفلح معهم الحجج والبراهين التي تثبت بطلان عبادتهم للأصنام، أمره ربه أنْ يقول لهم: { يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ .. } [الزمر: 39] معنى: اعملوا على مكانتكم كما تقول لمن لم يستجب لك: اعمل ما بدا لك. أو (أعلى ما في خيلك اركبه).

فالمعنى: اعملوا على مكانتكم. يعني: خذوا كلّ إمكانياتكم ضدي. لماذا؟ لأنه متوكل على ربِّه وهو كافيه، فهو لا يقولها مجازفةً ولا استكباراً، إنما يقولها برصيد من قوله تعالى: { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36].

وكلمة { مَكَانَتِكُـمْ } [الزمر: 39] عندنا مكان ومكانة، المكان هو: الحيز الذي يشغله الشيء. والمكين هو: الذي يشغل المكان، فالكوب مثلاً مكان والماء فيه مكين، فأنت ذاتك لك مكان تشغله حتى لو اضطهدك أحدٌ فأخرجك منه لا بُدَّ أنْ يذهب بك إلى مكان آخر.

فإذا اتسع بك هذا المكان وصارتْ لك سلطة على مكان أوسع منه لك فيه سلطان وأمر ونهي فهذه مكانة، فيقال لمن اتَّسع جاهه وسلطانه: له مكانة. فالتاء الزائدة هنا يسمونها تاء المبالغة. كما نقول في المبالغة في العلم عالم وعلاَّم وعلاَّمة. فكلمة علاَّمة هي قمة العلم وتُقال لمن بلغ في مجاله مبلغاً بحيث لا يخفى عليه منه شيء.

فإنْ قلتَ: فلماذا وصف الحق نفسه سبحانه بعلاَّم، ولم يُوصَف بعلامة؟ نقول: لأن علم الله تعالى لا تفاوتَ فيه، ليس فيه جزئي وكلي، فلا يُوصف الحق سبحانه بهذه الصفة.

ومن المكانة قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: { { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } [يوسف: 56] أي: لم نجعل له مكاناً، إنما جعلنا له مكانة وسلطاناً واسعاً ينقله هنا وهناك حيث يشاء، والإنسان يكون له مكان فتأتي قوة تُمكِّنه في المكان، كما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد يكون له المكان فتأتي قوة فتُزيله عنه كما أخذني ورماني في زنزانة.

وسبق أنْ قلنا: إن في اللغة همزة تسمى همزة الإزالة، إذا دخلتْ على فعل تزيله، كما تقول: أعجم الكلام، يعني: أزال عُجْمته وأبان معناه، ومن ذلك قول رسول الله في مناجاته لربه: "لك العُتْبى حتى ترضى" يعني: إن كان حصل منه شيء يغضبك فأنا أزيل عتابك عليَّ حتى أبلغ رضاك عني. ونقول: عتب فلانٌ على فلان فأعتبه يعني: أزال عتابه بأنْ يعتذر له أو يصالحه، لأن العتب لوْم على شيء ما كان يصح بين المحبين؛ ومن ذلك قوله تعالى في الكلمة التي معنا (المكانة): { { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 71].

فمعنى (أمكن منهم) يعني: أزال مكانهم، ونقول: فلان تمكن من فلان. يعني: قدر عليه وأزاله عن مكانه أو مكانته.

إذن: فكلمة المكانة هي ما لك عليه سلطانٌ وولاية تُعينك على مرادك، فالمكان إذا بالغتَ فيه فهو مكانة والتاء للمبالغة، وتأتي أيضاً للجاه ينبسط على ما لا يدخل في مِلْككٍ تصرفاً، وإنما يدخل في ملكك مهابة؛ لذلك لما قُتِل مالك قالوا: مالك كان يحمي مواقع السحاب. يعني: أينما تمرّ السَحابة وتمطر فمطرها يحميه مالك، بحيث لا يتعدى عليه أحد، وما كان هذا إلا لمكانته في القوم فحمى مواقع السحاب في غير بلاده.

وقوله: { إِنِّي عَامِلٌ } [الزمر: 39] يعني: أنتم اعملوا على مكانتكم واستطاعتكم في العناد والاضطهاد والإيذاء، فأنا عامل على مكانتي من الدعوة والنُّصْح لكم والحرص على هدايتكم، فهذه رسالتي ولن أتخلَّى عنها، وسوف أبالغ في نَشْرها وأتحمل اضطهادكم لي ولأصحابي، ولن يُثنيني شيء عن مرادي.

وقوله: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الزمر: 39] المعلوم هنا: { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [الزمر: 40] أي: في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [الزمر: 40] أي: في الآخرة، وتأمل هنا كلمة سوف التي تدل على الاستقبال، فلم يَقُلْ حالاً الآن، لأن الإسلام بدأ غريباً وانتشر أول ما انتشر بين الضعفاء والعبيد الذين اضطهدوا وماتوا وأُوذُوا وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل دعوة الحق.

فأراد الحق سبحانه أن يُمحِّصَ أهل الإيمان الذين يحملون هذه الدعوة، وأنْ يُميز منهم ضعافَ العقيدة، وينفي عنهم أهل الخور والنفاق الذين لا يصلحون لحمل هذه الرسالة، لذلك كان الوحي كل فترة ينزل على رسول الله بأمر عزيز، وكلما نزل أمر من هذه الأمور نفى بعضهم حتى لم يَبْقَ حول رسول الله إلا صِحَاح الإيمان أقوياء العقيدة.

وفي هذه الآية تهديدٌ من رسول الله للقوم المكذِّبين بأحداث سوف تأتي، هذا التهديد دليلٌ على ثقته صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ أوحى إليه بهذا التهديد قادرٌ على أنْ يُبرزه كما أخبر به، وإلا لما قاله رسول الله، لأن الزمن سيكشف صدق هذا التهديد أو عدم صدقه.

كذلك الأمر في الوعد يخبر به رسول الله قبل أوانه، واقرأ هذا الوعد مثلاً: { { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45] هذا وَعْد من الله للمؤمنين جاء في أشد وأحلك الظروف وهم مضطهدون لا يستطيعون حمايةَ أنفسهم، لذلك لما نزلتْ هذه الآية قال عمر رضي الله عنه: أيّ جمع هذا ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما رآها في بدر قال: صدق ربي وصدق رسوله، وهذا الوعد لا يطعن في الدعوة إنما يريد أنْ يؤكدها. إذن: صِدْق في الوعد، وصدق في الوعيد.

وقلنا: إن صدق الرسول في أمور تتعلق بأمته شيء، وصدقه فيما يتعلق بذاته شيء آخر، صدقه فيما يتعلق بذاته آكد، وذكرنا قصة المرأة التي أسلمتْ حينما قرأتْ تفسير قوله تعالى لرسوله: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67] فلما أعطاه ربه الأمان وأنه لن يُغتال من جانب الناس صرف صلى الله عليه وسلم حُراسه ولم يُبْق عليهم مع هذا الوعد، فوقفتْ هذه المرأة وقفةً عقلية وقالت: لو أنه خدع الناس جميعاً ما خدع نفسه، إذن: هذه ثقة من رسول الله بوعد الله.

وقوله تعالى: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الزمر: 39] ولم يقل ترون أو تنظرون؛ لأن العلم أوسع وأعمّ من النظر، فالأحداث التي ستأتي ربما تكون بعيدة من مَرْآهم تَحدث في أماكن أخرى يراها البعض ولا يراها البعض، أما العلم فينقل إليك ما تقع عليه جوارحك، وما تقع عليه جوارح الآخرين.

إذن: بالعلم تأخذ علم الغير، أنت حينما ترى وتعقل تهتدي إلى الحكم بتصوّر العقل، وبالعلم تستفيد بما عقله الآخرون. إذن: فالعلم أوسع دائرةً من معطيات العقل والجوارح.

وقوله: { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [الزمر: 40] كلمة مقيم جاءت لترد على كلام سبق أنْ قالوه هم، لأن الحروب عندهم كانت تستمر طويلاً حتى أربعين سنة، وتكون بينهم سجالاً يوم لك ويوم عليك، فربما ظنوا العذاب كذلك فترة وتنتهي، فأراد أنْ يؤكد لهم أن العذاب إذا حَلَّ بهم فليس فيه سجال كسجال الحرب، إنما هو مقيم دائم.

 

 

 

 

 

==================

 

إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ

٤١ .

 

خواطر محمد متولي الشعراوي نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى مرة يتحدث عن ذاته سبحانه بضمير الجمع (إنَّا) ومرة بالمفرد (إني) أو (إنني)، فإنْ كان الكلام في قضية التوحيد جاء بالضمير المفرد كما في قوله سبحانه لسيدنا موسى: { { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [طه: 14] لأنه يريد أنْ يقرر قضية التوحيد، ويؤكد سبحانه أنه إله واحد لا شريك له. فإنْ كان الكلام عن أمر لله فيه عمل ولخلفائه في الأرض عمل يأتي بالجمع كما هنا { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [الزمر: 41].

وتأملوا حرف الجر في (عليك) وفي (للناس) فلحروف الجر في اللغة معَانٍ واسعة، كلمة (عليك) تدلُّ على أنني أحملك المسئولية أمَّا اللام في (للناس) فتدلّ على النفع لهم، كما نقول في الحسابات: له، عليه، فله تعطي نَفْعاً وعليه تعطي تبعات.

فكأن الحق سبحانه يقول: يا قوم يا مَنْ تسمعون لدعوة محمد اعلموا أنها لصالحكم وتعود عليكم بالنفع والغنيمة، فقد أنزلنا عليه حملاً ثقيلاً سيتعبه في ذاته وفي أهله، وسيُعرِّضه للسخرية والإيذاء والتآمر .. الخ.

فالكتاب نزل عليك يا محمد بتبعاته ومسئولياته، فتحمله وكُنْ من أولي العزم من الرسل الذين سبقوك، مع أنهم أخذوا حيِّزاً محدوداً في الزمان وفي المكان، أما أنت فأخذتَ حيِّزاً غير محدود، لا في الزمان ولا في المكان، فحين تتحمّل المشاق في سبيل دعوتك، فاعلم أنك ستتحمل من الشدائد على قدر عموم رسالتك.

إذن: فدعوة الإسلام خيرها لكم ومتاعبها يتحملها رسول الله، هذا معنى { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [الزمر: 41] أي: في صالحهم.

وحين نُوسع الحروف ونقف على معانيها نأخذ مثلاً قوله تعالى في أول سورة البقرة: { { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5].

فالمؤمنون على الهدى، و (على) تفيد الاستعلاء وكأنه مطيّة تحملهم وتريحهم لا تتعبهم وتُوصِّلهم إلى غايتهم، هكذا جاء الهدى ليريح الناس ويحملهم إلى أشرف الغايات، فالزموه لأنه ما جاء ليُحملكم ما لا تطيقون، إنما جاء ليخدمكم.

وقوله سبحانه: { بِٱلْحَقِّ } [الزمر: 41] الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والحق يعني وضع الشيء في موضعه، فإذا زحزحتهُ عن موضعه فأنا الطارئ عليه، والحق لا بُدَّ أنْ يعود إلى موضعه مرة أخرى، وإنما هي ابتلاءات واختبارات لنُمحِّص جنود الحق لتكون عندهم الأهلية لأنْ يحملوا الدعوة إلى أنْ تقوم الساعة.

والحق سبحانه يعلمنا: إنْ رأيتَ الباطل علا وارتفع فخُذْ لك واقعة، وخُذْ لك عبرةً من الأشياء المحسَّة التي تقع تحت بصرك في أصل الحياة وهو الماء، فالماء ينزل من السماء على قمم الجبال فيأخذ معه إلى الوديان القش والحصى والزبد، فتتكون طبقة كم الريم تعلو الماء وهي حقيرة لا قيمةَ لها حتى إذا ما هبَّتْ الرياح أزاحتْ هذا الزبد هنا وهناك وبقيتْ صفحة الماء نظيفة ناصعة، هكذا يكون علو الباطل عُلواً مؤقتاً، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه.

والحق سبحانه ما سمح للباطل بأنْ يعلوَ إلا يظهر للناس ميزة الحق، فحين يُعضّ الناسُ بالباطل، وحين يؤلمهم يضجون منه ويشتاقون للحق، فكأن الباطل جندٌ من جنود الحق.

وقوله سبحانه: { فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ } [الزمر: 41] أي: لصالحها، لأن المشرع سبحانه حين شرع لنا وبعث لنا الرسل وأنزل الكتب ما انتفع من ذلك بشيء، وهو سبحانه لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، لأنه بصفات الكمال المطلق أوجدك، بل وأوجد لك قبل أنْ يستدعيك للوجود، فبصفة الكمال فيه خلق، فهو سبحانه خالق قبل أنْ يخلق شيئاً، كما تقول: فلان شاعر، يعني شاعر قبل أنْ تسمع منه شعراً، لأنه ما قال الشعر إلا لأنه شاعر.

إذن: الحق سبحانه لا ينتفع من عبادة الناس بشيء، والفائدة كلها تعود عليهم هم، لأنهم صنعته، والصانع يريد لصنعته أنْ تكون على ما يرام وعلى خير حال من بدايتها إلى نهايتها إليه سبحانه.

وما دام الشرع والمنهج جاء لصالح البشر، فمَن اهتدى فالهداية تعود إليه، ومَنْ ضَلَّ فضلاله عليه { فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [الزمر: 41] وتأمل هنا أيضاً معنى حرف الجر في { فَلِنَفْسِهِ } [الزمر: 41] وحرف الجر (عليها)، فنَفْع الهداية لك، وضرر المعصية عليك.

وقوله: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } [الزمر: 41] أي: ما أنت يا محمد عليهم بوكيل، والوكيل هو مَنْ يكون حُرُّ التصرف فيمن وكل عنهم، بحيث يستطيع أنْ يجبرهم، وأن يحملهم على ما يريد هو.

والحق سبحانه وتعالى ما أراد لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك كما قال سبحانه في موضع آخر: { { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ق: 45] إنما أراد له أنْ يكون داعياً الحسنى، بحيث يأتي إليه الناس بالحب طواعيةً، ولو شاء لجعلهم كالملائكة وطبعهم على الطاعة.

لذلك الكون الذي رضي أنْ يأتمر بأمر الله بدون اختيار له في شيء كان حكيماً واعياً؛ لأن المتحمل قد يضمن نفسه ساعة التحمل، لكن لا يضمن نفسه ساعة الأداء، والفارق بين مسلك الناس في الأمور أنهم يختلفون في إدراك المسئولية ساعة التحمل وساعة الأداء، وكل فساد بين الناس في التعامل إنما منشؤه هذه المسألة.

وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأمانة أودعها عندك لحين عودتي مثلاً من السفر فتقبلها عندك، وحين أعود لا أجدها، فقد يطرأ عليك من الظروف ما يجعلك تتصرَّف فيها، وهنا تظهر حكمة الجمادات التي أبتْ أنْ تتحمل الأمانة، كما في قوله تعالى: { { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72].

وقوله سبحانه: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } [الزمر: 41] فيه تسليةٌ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنّ ربه يقول له: لا تُتعب نفسك، ولا تُحملها فوق طاقتها، فما عليك إلا البلاغ، فإنْ نالك شيء من أذاهم فاعلم أنه لا يُنقص من مكانتك عندهم، فأنت عندهم الصادق الأمين، وهم يعلمون أنك على الحق، ومنزلتك عندهم كبيرة، ورأيهم فيك من أحسن الآراء، فلا تحزن لقولهم فيك: شاعر وساحر ومجنون: { { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33].

فكأنَّ الحق سبحْانه جعل المسألة عنده سبحانه وأعفى منها رسول الله، فأنت يا محمد لا غبارَ عليك، وما كذبك المكذِّبون الظالمون إلا لأنهم جحدوا بآياتي.

===============

 

ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

٤٢ -الزمر

 

خواطر محمد متولي الشعراوي سبق أنْ قلنا: إن أحداً لم يشهد عملية الخَلْق لأن الخالق سبحانه لم يستعِنْ بأحد كما قال سبحانه: { { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].

إذن: كيفية الخَلْق لا يعرفها أحدٌ، ولولا أن الخالق أخبرنا بها لَظلَّتْ غيباً، فإنْ أردتَ أنْ تعرف كيفية الخَلْق فخُذْها من خبر مَنْ خلق، وإن ادَّعَى أحد معرفتها من غير هذا الطريق، فاعلم أنه من المضلين الذين أخبرَ الله عنهم، وسمَّاهم مضلين قبل أن يُوجدوا، وأيُّ ضلال أعظم من القول بأن الإنسان في أصله قرد وتطوَّر؟

فكأن الحق سبحانه يعطي لخَلْقه المناعة التي تحميهم من هجمات أهل الضلال، فيخبرهم بأمرهم أولاً ويُحذِّرهم منهم، يعني: تنبَّهوا فسوف يخرج عليكم أناس في ثوب علماء أو فلاسفة يقول خُلِق الإنسان كذا وكذا فلا تُصدِّقوهم لأنهم ما شهدوا عملية الخَلْق.

والحق سبحانه وتعالى حين يطرح قضية عقدية للعقول فيها عمل، لكن قد تقف العقول في أشياء منها يكمل ما تقف فيه العقول بالسماع، السماع مِمَّنْ؟ ممن اعتقدتَ به بعقلك، إذن: ليس بالضرورة أن يقتنع عقلك بكل شيء إنما يترك لك مسائلَ لا تقتنع بها إلا لأنها خبر ممَّنْ اقتنعت به.

لذلك قلنا في أول سورة (يس): إن المسائل كلها عقائد وأمور لسانية وأمور وأحكام، كل منها تأخذ العمل العقلي والعمل الغيبي، لكن العمل الغيبي دليله من العمل العقلي.

الحق سبحانه وتعالى حينما أخبرنا عن قصة الخلق قال: إن الإنسان خُلِقَ من تراب اختلط بالماء فصار طيناً، ثم صار هذا الطين حمأ مسنوناً، ثم صار الحمأ المسنون صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه الحق سبحانه من روحه فدبَّت فيه الحياة وتحرك.

هذه أطوار الخَلْق التي أخبرنا بها الخالق سبحانه ونحن لم نرها، لكن أوجد في مُحسَّاتنا وفي مُدركاتنا ما يؤدي الصدق بهذه المراحل، وعلينا نحن أنْ نأخذ مما نشاهده دليلاً على صدق ما غاب عنَّا. كيف؟

الخالق سبحانه كما خلق الحياة خلق الموت، ولما أخبرنا بهما جعل الموت أولاً فقال: { { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك: 2].

وقدَّم الموت حتى لا نستقبل الحياةَ ببطر وغرور، إنما نستقبلها ونحن نعلم أننا صائرون إلى الموت، منتهون إليه. ويجب أنْ نعلم أن الدنيا بالنسبة للإنسان ليست هي بطولها من لدن آدم حتى قيام الساعة، إنما الدنيا بالنسبة لك هي مقدار مُكثك فيها، وحتى هذا العمر مظنون وليس مضموناً، فمن الناس مَنْ يولد ويموت بعد لحظة، وآخر بعد شهور، وآخر بعد سنين.

لذلك قال أحد الصالحين: وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فبادرته، وعلمتُ أني لا أخلو من نظر الله طرفةَ عين فاستحييت أنْ أعصيه، وعلمتُ أن لي رزقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به، فهكذا ينبغي أن يكون أسلوبك في الحياة، فأنت فيها ضيف لستَ أصيلاً.

لذلك قال أهل المعرفة: اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك - الذي يُواليك بالنعم كل يوم - واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه طرفةَ عين، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن ملكه وسلطانه.. هذه أصول يجب أنْ نسير عليها، ومبدأ نلتزم به. والموت كما قلنا نقيض الحياة، فإذا لم نَكُنْ قد شاهدنا مراحل الخَلْق فقد شاهدنا بالتأكيد مراحل الموت، فخُذْ من هذا دليلاً على هذا.

تعلمون أن نقضَ أيِّ بناء يكون على عكس بنائه، فلو أردنا مثلاً هدم عمارة من عشرة أدوار، فإننا نبدأ بهدم الدور العاشر وننتهي بالدور الأول، على عكس البناء، كذلك الموت يبدأ بخروج الروح، وهي أخر شيء في عملية الخَلْق، ثم يتصلب الجسد، فيكون أشبهَ بالصلصال، ثم يرمّ وتتغير رائحته مثل الحمأ المسنون ثم يتحلل ويعود إلى الطين والتراب.

إذن: إنْ كانت عملية الخَلْق غيباً عنا كما قال سبحانه: { { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [الكهف: 51] فعملية الموت شاهدناها.

وقوله تعالى: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [الزمر: 42] الأنفس جمع النفس، والنفس هي مجموع التقاء مادة الجسد بالروح، بحيث تنشأ منهما الأغيار الموجودة في الجوارح، فالمادة وحدها لا تُسمَّى نفساً، والروح وحدها لا تُسمَّى نفساً.

ومعنى { يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [الزمر: 42] أي: يقبضها إليه سبحانه. وتوفِّي الأنفس له ظاهرتان: النوم والموت، ففي النوم يسلب الإنسان الوعي والتمييز، وتبقى فيه الروح لإدارة حركة الحياة فيه واستبقائها، فإذا استيقظ من نومه عاد إليه وَعْيه وعقله وتمييزه، أما في الموت فالله يتوفَّى الكل: الوعي، والتمييز، والأصل: وهو الروح والجسد، فالجسم في النوم لا يزاول شيئاً حتى المخ الذي يجب أنْ يظل عاملاً لا يعمل في النائم إلا كلّ سبع ثوان.

ولذلك لما تتوقف حركة الجسم تنخفض فيه درجة الحرارة ويحتاج إلى تدفئة، لذلك ننصح النائم بأنْ يتغطى لأن الحركة مفقودة، وينبغي أن نحفظ للجسم حرارته، البعض يظن أن الغطاء هو الذي يُدفئ النائم، لكن العكس هو الصحيح فحرارة الجسم هي التي تُدفئ الغطاء، وعمل الغطاء أنْ يحفظ لك حرارة الجسم حتى لا تتبدد، بدليل أنك تذهب إلى فراشك فتجده بارداً، وحين تستيقظ من نومك تجده دافئاً.

وقلنا: إن الإنسان يمرُّ بحالات: يقظة، نوم، موت، بعث. ولكل مرحلة من هذه المراحل قانونٌ خاص، فإياك أنْ تخلط قانوناً بقانون، فمثلاً الإنسان منا وهو نائم يفقد الوعي والتمييز، ومع ذلك يصبح فيذكر رُؤْيا رآها فيها أشكال وأشخاص وألوان يستطيع التمييز بينها وكأنها يقظة، فبأيِّ شيء أدرك هذه المدركات وميَّز بين الألوان وعينه مغمضة؟

قالوا: لأن للنائم أدواتٍ ووعياً غير التي له في اليقظة، فيرى لكن ليس بالعين. إذن: فيَّ حالة الموت يكون له وعي آخر، البعض يتعجب وربما ينكر أنْ يضم القبرُ الواحد جسدين أحدهما يُنعِّم والآخر يُعذَّب، فلماذا لا تنكر مثل هذا في النوم مثلاً، فأنت تنام مع غيرك في فراش واحد يرى هو أنه في رحلة ممتعة فيها مَا لَذَّ وطابَ، وترى أنت أنك فيه تُضرب أو تمر بحادث مؤلم، لا هو يدري بك ولا أنت تدري به.

وقوله: { فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ } [الزمر: 42] أي: لا تعود إلى الجسم { وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ .. } [الزمر: 42] أي: في حالة النوم يعود إليك الوعي والتمييز { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى .. } [الزمر: 42] إلى الأجل المعلوم الذي قدَّره الله لك في اللوح المحفوظ.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الزمر: 42] ساعة تجد الذي يخبرك بشيء ينبه فيك أدوات التمييز بين المقولات التي هي العقل والفكر والذكر والتدبر، فثِقْ بأنه ناصح لك لا يغشك ولا يُدلِّس عليك، لأن الذي يريد غِشَّك يأخذك على عجلة و (يكلفتك)، حتى لا تدري وجه الصواب ولا يعطيك الفرصة للبحث وتأمل الشيء.

وسبق أنْ مثّلنا لذلك ببائع القماش إنْ كان صادقاً يعلم جودة بضاعته، فإنه يختبرها لك فيأخذ (فتلة) من الصوف مثلاً ويحرقها أمامك، لترى بنفسك أنه صوف مائة بالمائة، أما الآخر فيحاول أنْ يلف ويدور ويخدعك بحيله حتى لا تكتشف فساد بضاعته، فالأول واثق من جودة البضاعة، وأنك مهما فعلت بها فسوف تصل إلى مراده.

فساعةَ يقول الحق سبحانه (أفلا تعقلون)، (أفلا تتذكرون)، (أفلا تتفكرون) فاعلم أنه يهيج عندك أدوات البحث والتأمل والاختيار بين البدائل، ولا يصنع ذلك معك إلا وهو واثق أنك لو استعملتَ هذه الأدوات فلن تصل إلا إلى مراده منك.

 

==============

 

خواطر محمد متولي الشعراوي قوله تعالى: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ } [الزمر: 43] استفهام إنكاري. يعني: ما كان يصح أنْ يتخذوا من دون الله شفعاء، فالحق ينكر عليهم بعد أن استمعوا إلى كل هذه الحجج والبراهين، ثم يتخذون من دون الله شفعاء، ولماذا الشفعاء من دون الله؟ قالوا: لأن الذي يعبد غير الله يُرجِّي نفسه بأنه مُتدين، والتديّن طبيعة في النفس البشرية من أخْذ الله عليها العهد في { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ .. } [الأعراف: 172].

لذلك جاء الرسل مُذكِّرين أي: يُذكّروننا بهذا العهد الأول الذي غفلنا عنه واقرأ: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [الأعراف: 172-173].

فالحق سبحانه وتعالى ينكر عليهم أنْ يتخذوا الشفعاء من دون الله، ويدعوهم أن يرتجعوا عن هذا الأمر المؤسف، لأن اتخاذ الشفعاء من دون الله أمر فيه تناقض لأنهم شفعاء عند مَنْ؟ عند الله، كما قالوا: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] إذن: اتخذوا الشفعاء ليشفعوا لهم عند الله، فلماذا لا يتجهون إلى الله مباشرة دون واسطة؟

ثم إن الشفاعة لا تُقبل إلا بشروطها، وليس كل مَنْ أحبَّ أن يشفع تُقبل شفاعته، فالشفاعة ليستْ بمرادك، بل يُشترط في الشفاعة أنْ يأذن الله للشافع أنْ يشفع، وأنْ يرضى عن المشفوع له، وأنْ يكون من أهل التوحيد، إذن: هذه الشفاعة التي يرجونها شفاعة باطلة ولا تُقبل عند الله.

لكن لماذا لا يتوجَّهون إلى الله بالعبادة دون واسطة؟ قالوا: لأن للحق سبحانه وتعالى في عبادته تكاليف قد تشقّ على النفس، وللمنهج قيود افعل كذا ولا تفعل كذا، وهم يريدون تديناً بلا تكاليف، وآلهة بلا منهج وبلا أوامر، صحيح أنهم يعبدون الأصنام على هواهم. لكن إنْ حزبهم أمر وضاقتْ عليهم السبل في أنفسهم لجئوا إلى الله الإله الحق، إذن: أُوبُوا إلى الله قبل ألاَّ ينفع المآب.

وكلمة الشفاعة منها الشفع والوتر، الشفع أنْ تضم وتراً إلى وتر، فيصيران شفعاً. يعني: زوجاً. وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند آيتين من كتاب الله في مسألة الشفاعة، وحاولوا أنْ يثيروا حولهما شبهة عدم بلاغة القرآن، وهما قوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48].

والأخرى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 123].

وقالوا: أي الآيتين أبلغ من الأخرى؟ فإنْ كانت إحداهما بليغةً فالأخرى إذن غير بليغة، ثم ما الحكمة من التقديم والتأخير في الآيتين، والمعنى واحد؟

وهذا كله من هؤلاء نتيجة عدم فَهْم اللغة، وعدم وجود الملكة التي تتذوَّق وتفهم عن الله.

ونقول: أنتم أهملتم صدر الآية { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } [البقرة: 48] فعندنا نفسان: نفس جازية أو شافعة، ونفس مُجزيٌّ عنها أو مشفوع لها، فأيّهما الشافعة وأيهما المشفوع لها، إنْ أردتَ النفس المشفوع لها فالمشفوع لها تقدم العدل أولاً فلا يُقبل منها فتستشفع بمَنْ يشفع لها.

وهذا قوله تعالى: { { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 123] فإنْ أردتَ النفس الشافعة، فالشافع يتقدم بشفاعته أولاً، فإنْ لم تُقبل شفاعته قدَّم العدل، يقول: فلان هذا كم تطلب منه وأنا أدفع عنه. إذن: الآيتان بليغتان كُلٌّ حَسْب المعنى المراد منها.

استُهلَّت هذه الآية { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ .. } [الزمر: 43] بـ (أَمْ)، وهي تفيد عطف ما بعدها على ما قبلها، كأننا قلنا: أكان ذلك أمِ اتخذوا؟ والكلام السابق هو قوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا .. } [الزمر: 42] فإذا كنتم قد وُدِعْتم بقوة حياتكم وقدرتكم على الحركة والأسباب والتحوّل فاعلموا أن الله يعطي لكم نموذجاً للموت ينتظركم من خلال النوم الذي تباشرونه.

هذا الموت وأنتم في يقظة شيء، وحين تنامون شيء آخر، فالذي يقدر على سَلْب الحياة من التميّز والوعي والحركة مع الخارج (أي مع الغير) قادر على أنْ يسلبها جميعا؛ لأن النوم يسلب منك الحركة والتميز مع الغير، وإنْ بقيتْ لك الحركة في ذاتك كحركة القلب والرئتين والأمعاء .. الخ فإذا كان الله قد قدر على هذه الجزئية فيك، فهو سبحانه يقدر على الأخرى وهي الموت.

فالمعنى: أأمنتُم ذلك؟ وإنْ لم تأمنوه وسوف تموتون وتلقوا الله، فلماذا تتخذون الشفعاء؟ وما الذي طمأنكم لذلك؟ وما رصيدكم في اتخاذكم الشفعاء؟ يعني: أحصل ذلك أم اتخذتم شفعاء؟

قلنا: الشفيع من الشَّفْع، وهي أن تضم شيئاً إلى شيء، فيصير زوجاً بعد أنْ كان وحده، والله سبحانه يريد أنْ يُنهي هذه المسألة، وأنْ يُبيِّن لهم بطلانها، فقال لهم: إن الذين تدعُون من دون الله لا يملكون أنْ يشفعوا وإنْ ملكوا الشفاعة كما تَدْعُون الملائكة، وكالذين يدعون عيسى أو العُزَير فهم لا يرضون بها ولا يشفعون لكم.

وإنْ كانوا من الجمادات فهم أقرب منكم إلى الله وأعلم منكم بأصول الشفاعة، فهي لا بُدَّ أنْ تتأبى عليكم وتكرهكم، وإنْ كنتم تملكونها وتنتفعون بها؛ لأن هذه الجمادات مُنسجمة مع الكون مُسبِّحة لخالقها فلا تقبل إلا مُسبَحاً، وما انقادتْ لكم هذه الجمادات إلا لأن الله سخَّرها لكم، وجعل لكم إرادة تسيطرون بها عليها بمراد الله وأمره كما سيطرتم على جوارحكم، سيطرتم على اللسان فقلتم به كلمة الكفر، وسيطرتم على الأيدي، فبطشتُم بها وظلمتم .. الخ.

فهؤلاء جميعاً لا يرضوْنَ أنْ يشفعوا لكم لأنكم مخالفون لهم في المنهج؛ لذلك يكرهونكم فكيف يشفعون لكم، لذلك قال تعالى: { { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ .. } [الدخان: 29].

فأثبت للسماء وللأرض بكاءً، فإنْ كانت لا تبكي على هؤلاء المخالفين فهي ولا شكَّ تبكي على المناقضين لهؤلاء المتفقين معها في العقيدة والمنهج، إذن: فالسماء والأرض وغيرهما من الجمادات لها تمييز وإلا ما بكتْ على أهل الطاعة ولم تَبْكِ على أهل المعصية.

حتى نحن في التعبير الأدبي نقول: فلان نَبَتْ به الأرض يعني: كرهتْ إقامته عليها، لماذا؟ لأنه متمرد على الله مخالفٌ لمنهجه وهي مُسخَّرة مُسبِّحة؛ لذلك إنْ مات لا تبكي عليه. بل لسان حالها يقول له: أراحنا الله منك، أراح الله منك البلاد والعباد.

وقد فسَّر لنا الإمام علي رضي الله عنه هذه المسألة حين قال: إذا مات المؤمنُ بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضع في الأرض، أما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب. أي: المكان الذي يُرفَع فيه عمله الصالح، كما قال سبحانه { { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] وأما موضعه في الأرض فمُصلاّه.

إذن: الذي جعلهم يتكلون ولا يخافون من الموت أنهم اتخذوا الشفعاء، وظنوا أنهم يدافعون عنهم، لكن (نقبهم على شونة) لأن الشفاعة ليستْ بمراد الشافع إنما بمراد المشفوع عنده، وهو سبحانه الذي يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له. لكن هل يحتاج مَنْ رضي الله عنه إلى شفاعة؟

قالوا: الإنسان قد تكون نواحي الخير فيه قليلةً، لكن يتوفر لهذا القليل شرطُ الإخلاص فينميه ويُثمِّره ويجبر الله عنده هذا النقص بأنْ يأذن لأحد المحبوبين عنده أن يشفع له .. وهذه الشفاعة ما شرعها الحق سبحانه إلا ليقبلها ويلطف بها.

لذلك قالوا: إياك أنْ تحتقرَ عملاً صالحاً مهما كان يسيراً، فمَنْ يدريك لعله يكون سبباً في نجاتك.

وورد في الحديث: "إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث: أخفى رضاه في طاعته" فلا تحقرنَّ طاعة ما فقد غفر الله لرجل سَقَى كلباً يلهث من شدة العطش، وسقاه بجهد واحتيال حين لم يجد شيئاً يخرج به الماء فخلع خُفُّه وسقى به الكلب. ولو سقى هذا الرجل إنساناً لقُلْنا إنه سقاه لعلة، أو له عنده جميل، إنما سقى كلباً. وهذا يدل على أن العمل فيه إخلاص، لأنه لا ينتفع من الكلب بشيء، إنما تأصل السقاء في نفسه، فهو يحبه بصرف النظر عن المسْقى، فالرجل طُبع على الخير ولا يعنيه لمن يُقدم هذا الخير.

الثانية: "وأخفى غضبه في معصيته" فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فكما أنك لا تحقر طاعة قد يكون فيها نجاتك، كذلك لا تحقر معصية فقد يكون فيها هلاكك.

الثالثة: "وأخفى أسراره في خلقه" ؛ فلا تحقِرنّ خلقاً ما.

وقوله سبحانه: { قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ } [الزمر: 43] أي: هؤلاء الشفعاء { لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [الزمر: 43] يعني: كيف تطلبون شفاعتهم، وهم على هذا الوصف؟ { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } [الزمر: 44] لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه، يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له، فالشفاعة كلها لله وحده، لأن { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الزمر: 44]؛ فالمتكبّر المتأبّى على منهجي سيرجع إليّ.

ثم يقول الحق سبحانه:

{ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ... }.

 

================

أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ

٤٣ قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

٤٤.

 

خواطر محمد متولي الشعراوي

 

قوله تعالى: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ } [الزمر: 43] استفهام إنكاري. يعني: ما كان يصح أنْ يتخذوا من دون الله شفعاء، فالحق ينكر عليهم بعد أن استمعوا إلى كل هذه الحجج والبراهين، ثم يتخذون من دون الله شفعاء، ولماذا الشفعاء من دون الله؟ قالوا: لأن الذي يعبد غير الله يُرجِّي نفسه بأنه مُتدين، والتديّن طبيعة في النفس البشرية من أخْذ الله عليها العهد في { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ .. } [الأعراف: 172].

لذلك جاء الرسل مُذكِّرين أي: يُذكّروننا بهذا العهد الأول الذي غفلنا عنه واقرأ: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [الأعراف: 172-173].

فالحق سبحانه وتعالى ينكر عليهم أنْ يتخذوا الشفعاء من دون الله، ويدعوهم أن يرتجعوا عن هذا الأمر المؤسف، لأن اتخاذ الشفعاء من دون الله أمر فيه تناقض لأنهم شفعاء عند مَنْ؟ عند الله، كما قالوا: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] إذن: اتخذوا الشفعاء ليشفعوا لهم عند الله، فلماذا لا يتجهون إلى الله مباشرة دون واسطة؟

ثم إن الشفاعة لا تُقبل إلا بشروطها، وليس كل مَنْ أحبَّ أن يشفع تُقبل شفاعته، فالشفاعة ليستْ بمرادك، بل يُشترط في الشفاعة أنْ يأذن الله للشافع أنْ يشفع، وأنْ يرضى عن المشفوع له، وأنْ يكون من أهل التوحيد، إذن: هذه الشفاعة التي يرجونها شفاعة باطلة ولا تُقبل عند الله.

لكن لماذا لا يتوجَّهون إلى الله بالعبادة دون واسطة؟ قالوا: لأن للحق سبحانه وتعالى في عبادته تكاليف قد تشقّ على النفس، وللمنهج قيود افعل كذا ولا تفعل كذا، وهم يريدون تديناً بلا تكاليف، وآلهة بلا منهج وبلا أوامر، صحيح أنهم يعبدون الأصنام على هواهم. لكن إنْ حزبهم أمر وضاقتْ عليهم السبل في أنفسهم لجئوا إلى الله الإله الحق، إذن: أُوبُوا إلى الله قبل ألاَّ ينفع المآب.

وكلمة الشفاعة منها الشفع والوتر، الشفع أنْ تضم وتراً إلى وتر، فيصيران شفعاً. يعني: زوجاً. وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند آيتين من كتاب الله في مسألة الشفاعة، وحاولوا أنْ يثيروا حولهما شبهة عدم بلاغة القرآن، وهما قوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48].

والأخرى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 123].

وقالوا: أي الآيتين أبلغ من الأخرى؟ فإنْ كانت إحداهما بليغةً فالأخرى إذن غير بليغة، ثم ما الحكمة من التقديم والتأخير في الآيتين، والمعنى واحد؟

وهذا كله من هؤلاء نتيجة عدم فَهْم اللغة، وعدم وجود الملكة التي تتذوَّق وتفهم عن الله.

ونقول: أنتم أهملتم صدر الآية { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } [البقرة: 48] فعندنا نفسان: نفس جازية أو شافعة، ونفس مُجزيٌّ عنها أو مشفوع لها، فأيّهما الشافعة وأيهما المشفوع لها، إنْ أردتَ النفس المشفوع لها فالمشفوع لها تقدم العدل أولاً فلا يُقبل منها فتستشفع بمَنْ يشفع لها.

وهذا قوله تعالى: { { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 123] فإنْ أردتَ النفس الشافعة، فالشافع يتقدم بشفاعته أولاً، فإنْ لم تُقبل شفاعته قدَّم العدل، يقول: فلان هذا كم تطلب منه وأنا أدفع عنه. إذن: الآيتان بليغتان كُلٌّ حَسْب المعنى المراد منها.

استُهلَّت هذه الآية { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ .. } [الزمر: 43] بـ (أَمْ)، وهي تفيد عطف ما بعدها على ما قبلها، كأننا قلنا: أكان ذلك أمِ اتخذوا؟ والكلام السابق هو قوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا .. } [الزمر: 42] فإذا كنتم قد وُدِعْتم بقوة حياتكم وقدرتكم على الحركة والأسباب والتحوّل فاعلموا أن الله يعطي لكم نموذجاً للموت ينتظركم من خلال النوم الذي تباشرونه.

هذا الموت وأنتم في يقظة شيء، وحين تنامون شيء آخر، فالذي يقدر على سَلْب الحياة من التميّز والوعي والحركة مع الخارج (أي مع الغير) قادر على أنْ يسلبها جميعا؛ لأن النوم يسلب منك الحركة والتميز مع الغير، وإنْ بقيتْ لك الحركة في ذاتك كحركة القلب والرئتين والأمعاء .. الخ فإذا كان الله قد قدر على هذه الجزئية فيك، فهو سبحانه يقدر على الأخرى وهي الموت.

فالمعنى: أأمنتُم ذلك؟ وإنْ لم تأمنوه وسوف تموتون وتلقوا الله، فلماذا تتخذون الشفعاء؟ وما الذي طمأنكم لذلك؟ وما رصيدكم في اتخاذكم الشفعاء؟ يعني: أحصل ذلك أم اتخذتم شفعاء؟

قلنا: الشفيع من الشَّفْع، وهي أن تضم شيئاً إلى شيء، فيصير زوجاً بعد أنْ كان وحده، والله سبحانه يريد أنْ يُنهي هذه المسألة، وأنْ يُبيِّن لهم بطلانها، فقال لهم: إن الذين تدعُون من دون الله لا يملكون أنْ يشفعوا وإنْ ملكوا الشفاعة كما تَدْعُون الملائكة، وكالذين يدعون عيسى أو العُزَير فهم لا يرضون بها ولا يشفعون لكم.

وإنْ كانوا من الجمادات فهم أقرب منكم إلى الله وأعلم منكم بأصول الشفاعة، فهي لا بُدَّ أنْ تتأبى عليكم وتكرهكم، وإنْ كنتم تملكونها وتنتفعون بها؛ لأن هذه الجمادات مُنسجمة مع الكون مُسبِّحة لخالقها فلا تقبل إلا مُسبَحاً، وما انقادتْ لكم هذه الجمادات إلا لأن الله سخَّرها لكم، وجعل لكم إرادة تسيطرون بها عليها بمراد الله وأمره كما سيطرتم على جوارحكم، سيطرتم على اللسان فقلتم به كلمة الكفر، وسيطرتم على الأيدي، فبطشتُم بها وظلمتم .. الخ.

فهؤلاء جميعاً لا يرضوْنَ أنْ يشفعوا لكم لأنكم مخالفون لهم في المنهج؛ لذلك يكرهونكم فكيف يشفعون لكم، لذلك قال تعالى: { { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ .. } [الدخان: 29].

فأثبت للسماء وللأرض بكاءً، فإنْ كانت لا تبكي على هؤلاء المخالفين فهي ولا شكَّ تبكي على المناقضين لهؤلاء المتفقين معها في العقيدة والمنهج، إذن: فالسماء والأرض وغيرهما من الجمادات لها تمييز وإلا ما بكتْ على أهل الطاعة ولم تَبْكِ على أهل المعصية.

حتى نحن في التعبير الأدبي نقول: فلان نَبَتْ به الأرض يعني: كرهتْ إقامته عليها، لماذا؟ لأنه متمرد على الله مخالفٌ لمنهجه وهي مُسخَّرة مُسبِّحة؛ لذلك إنْ مات لا تبكي عليه. بل لسان حالها يقول له: أراحنا الله منك، أراح الله منك البلاد والعباد.

وقد فسَّر لنا الإمام علي رضي الله عنه هذه المسألة حين قال: إذا مات المؤمنُ بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضع في الأرض، أما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب. أي: المكان الذي يُرفَع فيه عمله الصالح، كما قال سبحانه { { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] وأما موضعه في الأرض فمُصلاّه.

إذن: الذي جعلهم يتكلون ولا يخافون من الموت أنهم اتخذوا الشفعاء، وظنوا أنهم يدافعون عنهم، لكن (نقبهم على شونة) لأن الشفاعة ليستْ بمراد الشافع إنما بمراد المشفوع عنده، وهو سبحانه الذي يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له. لكن هل يحتاج مَنْ رضي الله عنه إلى شفاعة؟

قالوا: الإنسان قد تكون نواحي الخير فيه قليلةً، لكن يتوفر لهذا القليل شرطُ الإخلاص فينميه ويُثمِّره ويجبر الله عنده هذا النقص بأنْ يأذن لأحد المحبوبين عنده أن يشفع له .. وهذه الشفاعة ما شرعها الحق سبحانه إلا ليقبلها ويلطف بها.

لذلك قالوا: إياك أنْ تحتقرَ عملاً صالحاً مهما كان يسيراً، فمَنْ يدريك لعله يكون سبباً في نجاتك.

وورد في الحديث: "إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث: أخفى رضاه في طاعته" فلا تحقرنَّ طاعة ما فقد غفر الله لرجل سَقَى كلباً يلهث من شدة العطش، وسقاه بجهد واحتيال حين لم يجد شيئاً يخرج به الماء فخلع خُفُّه وسقى به الكلب. ولو سقى هذا الرجل إنساناً لقُلْنا إنه سقاه لعلة، أو له عنده جميل، إنما سقى كلباً. وهذا يدل على أن العمل فيه إخلاص، لأنه لا ينتفع من الكلب بشيء، إنما تأصل السقاء في نفسه، فهو يحبه بصرف النظر عن المسْقى، فالرجل طُبع على الخير ولا يعنيه لمن يُقدم هذا الخير.

الثانية: "وأخفى غضبه في معصيته" فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فكما أنك لا تحقر طاعة قد يكون فيها نجاتك، كذلك لا تحقر معصية فقد يكون فيها هلاكك.

الثالثة: "وأخفى أسراره في خلقه" ؛ فلا تحقِرنّ خلقاً ما.

وقوله سبحانه: { قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ } [الزمر: 43] أي: هؤلاء الشفعاء { لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [الزمر: 43] يعني: كيف تطلبون شفاعتهم، وهم على هذا الوصف؟ { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } [الزمر: 44] لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه، يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له، فالشفاعة كلها لله وحده، لأن { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الزمر: 44]؛ فالمتكبّر المتأبّى على منهجي سيرجع إليّ.

ثم يقول الحق سبحانه:

{ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ... }.

 

 

 

=======================

وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

٤٥ ..

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (اشْمأزَّتْ) يعني: نفرتْ. والإنسان حينما يسمع شيئاً لا يحبه يشمئز يعني: يظهر على سحنته الامتعاض، ثم تحدث منه نفرة وقشعريرة كئيبة، ثم ينصرف عن هذا الشيء، كذلك حال هؤلاء لما سمعوا ذكر الله وحده نفرتْ نفوسهم، وانقبضوا عن توحيد الله، لكن لماذا؟

قالوا: لأنك ذكَّرته بمَنْ يثق تمام الثقة أنه يملك ضُره ونفعه، وإلا لو لم تكُنْ لديه هذه الثقة ما أثَّر ذكر الله في نفسه، إذن: اشمأزتْ قلوبهم لأنهم خافوا من شيء، وساعةَ سمعوا ذكر الله تذكَروا جلاله وقدرته وعظمته، وتذكّروا أنهم مُقبلون عليه واقفون بين يديه، ولم يعملوا لهذا الموقف.

وكلمة { وَحْدَهُ } [الزمر: 45] تدل على مَيْلهم إلى الشركاء، فالمعنى: لو ذُكر الشركاء ما اشمأزتْ قلوبهم. واشمئزاز القلوب أمر غيبي ينضح على الوجه بالانفعال، فيبدو على الوجه أنه منقبض انقباضاً مؤلماً، والآية لم تذكر لماذا اشمأزت قلوبهم مما يدل على أن القلبَ هو المحرك الذي يعطي الجوارحَ الانفعال بواقع الأشياء عليها، فمثلاً تقابل شخصاً فتجد نفسك مبتهجاً، وآخر تقابله فتجد نفسك مُهتماً أو منقبضاً عنه، فمن أين هذه الانفعالات؟ من القلب.

وقوله: { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ .. } [الزمر: 45] أي: الشركاء { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر: 45] أي: يفرحون، لماذا؟ لأنهم يظنون أنهم يشفعون لهم، لكنهم خائبون في هذه، وخائبون في هذه.

 

=============

قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

٤٦*

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الوعد لأهل الخير، والوعيد لأهل الشر، واستوفى الأمرين مع الجماعتين، قال لرسوله بعد أنْ بلغت الوعد والوعيد: ليس لك إلا أنْ تلتجئ إلى الله، فهو سبحانه وحده الذي يحكم بينك وبين هؤلاء، لأنك استنفدتَ معهم كل أوجه الدعوة الحسنة والبلاغ الجميل، وما داموا مُصرِّين فدَعْهُم إلى أنْ يحكم الله بينك وبينهم يوم القيامة.

ولا تحزن يا محمد، لأن الله لا يحكم إلا بالحق، وثقْ أنه الذي اختارك للرسالة، وأنه ناصرك ومُظهر دينك، وسوف ترى هذه النُّصْرة في الدنيا قبل الآخرة، وفعلاً رآها الرسول قبل موته.

واقرأ قوله تعالى: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا .. } [الرعد: 41].

أي: ننقص أرض الكفر ونقصان أرض الكفر زيادةٌ في أرض الإيمان، وهذه آية رأوْهَا بأعينهم { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } [الرعد: 41] فكان عليهم أنْ يأخذوا من ذلك عبرة، وأنْ ينتهوا عن عنادهم، ويعلموا أن الله ناصرُ دينه ومُتم أمره، فكلّ يوم يمرّ كانت أرض الإيمان تزداد، وأرض الكفر تنقص، ومحمد يأتيه الموالي والفقراء والمساكين، ثم أتاه بعد ذلك الكبراء والصناديد والأعيان.

الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُعلِّمنا كيف ندعوه، فقال: (قُلْ) أي: يا محمد (اللهُمَّ) يقول سيدنا سعيد بن المسيِّب: لا أجد في القرآن آية أَرْجَى للداعي من قوله سبحانه: { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الزمر: 46] وما علمه الله أن يدعو إلا لسبقه في القدر أنْ يجيب. إذن: الحق سبحانه لم يترك رسوله يدعوه بلفظ من عنده إنما علَّمه بِمَ يدعو، فلا بُدَّ أنْ يُكتبَ له القبول، كما لو أن شخصاً أعطاك المفتاح، هذا يعني أنه يقبلك أنْ تدخل المكان.

وهنا يجب أن نقف على روعة الأداء البياني وعظمة الدعاء والنداء في (اللَّهُمَّ) وهي عبارة عن لفظ الجلالة (الله) أُلحقتْ به (ميم) مُشدَّدة للدعاء والنداء، ونحن نعرف أن النداء طلبُ إقبال المخاطب على المتكلم، وللنداء حروف معروفة حسب قرب المنادِي أو بُعْده من المنادَى، فنقول في نداء القريب: أمحمد. وفي نداء البعيد: يا محمد والأبعد: أيا محمد .. إلخ.

إذن: فحرف النداء نفسه يحدد موقع المدعو، فهل يجوز استخدام هذه الحروف في نداء الحق سبحانه فنقول مثلاً: يا الله؟ إنه من الأدب في نداء الحق سبحانه ألاَّ نناديه سبحانه كما ننادي غيره لأنه سبحانه أقربُ إلينا من حبل الوريد، فلا يصح أنْ نقول: يا الله أو أيا الله، فهذه مراتب للبُعْد والله قريب.

لذلك لا تجد القرآن يستخدم هذه الحروف أبداً في ندائه سبحانه، إنما استخدم اللهم للدعاء، وعلَّمنا أنْ ندعوه بها، وقد ألحق بها الميم المشدَّدة بدلاً من حروف النداء قبل الاسم المنادى، فالميم عِوَضٌ عن حرف النداء المحذوف فدلَّتْ الميم المشددة على النداء، وعلى ذِلَّة الطلب منك.

وحين نستقرئ القرآن الكريم نجد أن كلمة الله وردت بالرفع 985 مرة ليس فيها دعاء إلا باللهم في خمسة مواضع هي: هذه الآية التي معنا، ثم قوله تعالى: { { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ .. } [آل عمران: 26].

وقوله: { { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [المائدة: 114].

وقوله: { { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32].

وقوله: { { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10].

أما في نداء الربوبية فنقول: يا رب، وفَرْقٌ بين نداء لفظ الجلالة (الله) وبين نداء لفظ الربوبية (رب)، فالألوهية تكليف أما الربوبية فعطاءٌ ومنعم، فما دام الربُّ معطي نعمة. فنقول في ندائه: يا رب لأن الربوبية إيجادٌ من عدم وإمداد من عُدْم وتربية، إذن: أنت المستفيد في عطاء الربوبية، أما الألوهية فتكليف بافعل ولا تفعل.

وكلمة { فَاطِرَ .. } [الزمر: 46] أي: خالق ومُبدع ومُوجد الوجود من العدم على غير مثال سابق يعني: أمر ابتكاري جديد فإنْ كان الإيجاد على مثال سابق يعني محاكاة فلا يسمى (فاطر).

وقوله { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الزمر: 46] اختار السماوات والأرض، لأنها الكائن الذي لا يغيب عن الإنسان، فالأرض تُقِلُّه والسماء تظله فهو لا ينفكّ عنهما لحظة من حياته، وهناك نِعَم أخرى قد تغيب عن الإنسان في وقت كالماء مثلاً.

{ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ .. } [الزمر: 46] يمتنُّ الحق سبحانه بعلم الغيب. فكيف يمتنُّ بعلم الشهادة، وهي معلومة للناس مُشَاهدة؟

قالوا: لأن الله غيْبٌ، وقد نفهم أن هذا الغيبَ كالغيب بالنسبة لك، فأنت تشاهد مَنْ معك في البيت، لكن لا تشاهد مَنْ هو خارج البيت، فهو بالنسبة لك غَيْبٌ، لكن الحق سبحانه يعلم الغيب ويعلم المشَاهد ما غاب عنكم والمشهود لكم ولغيركم.

وقوله: { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر: 46] هذا هو المرجع النهائي في الخلاف بين الحق والباطل، يوم الفتح الذي كان ينتظره هؤلاء ويستعجلونه، بل ويستهزئون به كما قال سبحانه حكايةً عنهم: { { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأعراف: 70].

وقولوا: { { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [السجدة: 28] فيردّ عليهم الحق سبحانه: { { قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [السجدة: 29] يعني: لو جاءكم هذا اليوم فلن ترجعوا بعده مرة أخرى لتجدوا إيماناً ولا توبة.

ونلحظ هنا أن القرآن استعمل كلمة (عباد) للدلالة على الفريقين: المؤمنين، والكافرين، والغالب أن تستخدم كلمة العباد في الطائعين الملتزمين بالمنهج كما في قوله سبحانه: { { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63].

فهل يُقال للكافرين وللعاصين أيضاً عباد؟

قالوا: نعم: لأن الإنسان له وضعان بالنسبة لربه تعالى: وَضْع له فيه اختيار، وهي قوة الاختيار التي خلقها الله في الإنسان بحيث يفعل ما يشاء، حتى إنه يفعل لما لا يريده منه ربه سبحانه. وهناك وَضْع آخر ليس له فيه اختيار، وهي الأمور القهرية التي لا اختيارَ للعبد فيها.

فالإنسان مثلاً قد يتمرد على منهج ربه، وقد يخالفه ويشذ عنه، فنقول له: ما دُمت قد ألفتَ التمرد فتمرد على كل شيء، تمرد على المرض تمرد على الموت .. إنه لا يستطيع، لأنها أمور قهرية لا اختيار له فيها. إذن: فهو في هذا الوضع محكوم بالعبودية قهراً، فهو لا يخرج عن عبوديته لله حتى لو كان كافراً، وحين نقول للكافرين (عباد) فلأنهم في شق من تصرفاتهم لا يتأبَّوْنَ فيه على الله، بل هم فيه مقهورون.

لذلك قال تعالى عنهم في الآخرة: { { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } [الفرقان: 17].

هذا خطاب للمضلِّين فسمَّى الضالين عباداً، لماذا؟ لأن الكلام هنا في الآخرة حيث يستوي الجميع، فالكل هناك طائع صالح مؤمن، كلهم في الآخرة عباد وعبيد. أما في الدنيا فكلهم عبيد وبعضهم عباد.

 

============

 

 

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ

٤٧

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي تذكرون أننا قلنا في الحديث عن الشفاعة أن المذْنب يُعرض على ربه عز وجل أن يدفع الفدية ليغفر له فلا يُقبل منه عدل، فيأتي بمَنْ يشفع له فتُردّ شفاعته، فلنفرض أن عنده الدنيا بحذافيرها يملكها ويقدمها عدلاً لسيئاته، بل أكثر من ذلك، عنده ما في الأرض جميعاً { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [الزمر: 47] مع أن هذه الحالة لم تحدث لأحد، لكن على فرض أنها حدثت وقدَّم العاصي ذلك كله ليفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة فلن يُتقبل منه.

وقوله سبحانه: { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 47] يدل على أن الإنسان قبل أن يُؤمِّنَ لنفسه النعيم يريد أنْ ينجوَ من العذاب فهذا هو الأهم؛ لذلك الرجل المغرور صاحب الجنتين في سورة الكهف لما اغترَّ بعمله وظنَّه صالحاً قال: { { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36] يعني: سيعطيني أفضلَ مما كان عندي، وهذا غرور والعياذ بالله.

لذلك تجد الغني حين يُصيبه مرض شديد والعياذ بالله يقول: خذوا كلَّ ما أملك وأعيدوا إليَّ عافيتي، يريد أن يتخلص مما هو فيه من المرض أولاً، كذلك حال أهل المعاصي في الآخرة.

ومعنى { مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ } [الزمر: 47] أي: من العذاب السيء { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 47] ثم يُفاجئهم ما لم يكُنْ في حسبانهم { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [الزمر: 47] بدا يعني: ظهر لهم؛ لأن الإنسان مهما تخيل في الدنيا فلن يتسع تخيُّله لما يأتي الله به في الآخرة.

لذلك سيدنا محمد بن المنكدر قال: لقد خوَّفتني هذه الآية لأنني أخشى حين أموت أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب ذلك لأن الإنسان كثيراً ما يفعل سيئات دون أن يشعر بها، أو دون أن يعلمَ أنها سيئات، أو قد يفعلها وينساها، وهذه التي قال الله فيها { { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة: 6].

وقد يُزيِّن لك الشيطانُ السوءَ فتراه حسناً وما هو بحسن، كل هذا ستُفاجأ به في الآخرة.

وأول ما يفاجئ الكافرين يوم القيامة أنهم لن يجدوا الآلهة التي عبدوها من دون الله ولن تشفع لهم، حتى سادتُهم وقادتهم الذين أضلوهم سيتبرأون منهم: { { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة: 166].

بل إن السادة المضلين سيسبقون الأتباع إلى النار كما حكاه القرآن: { { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ } [ص: 59-61].

ولو دخل التابع قبل سيده لتعلَّق فكره به وظنَّ أنه سيأتيه ويُخلِّصه، لكنه سيدخل فيجده قد سبقه، وعندها تنقطع منهم الآمال، وتكتمل الحسرة والندامة.

ثم يقول الحق سبحانه:

{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ ... }.

========

 

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

٤٨

 

 

 

 

أضف للمقارنة

 

خواطر محمد متولي الشعراوي قوله { وَبَدَا لَهُمْ } أي: ظهر لهم وبَانَ لهم (سَيِّئَاتُ) هل الذي يظهر لهم في الآخرة السيئات، أم عقوبة السيئات؟ قالوا: الذي يروْنَه في الآخرة هو عقوبة السيئات، لكن قال { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ } [الزمر: 48] لأن الجزاء من جنس العمل، فالعقوبة هي أيضاً سيئات، كما قال سبحانه: { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا .. } [الشورى: 40] لأن معنى السيئة هو الأمر الذي يسوء، فكما أساء هو في العمل في الدنيا نُسِيئه في الآخرة.

وكلمة { مَا كَـسَبُواْ } [الزمر: 48] سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة وقُلْنا: إن القرآن يستخدم كسب في الخير واكتسب في الشر؛ لأن الخير يأتي من الإنسان طبيعياً لا تكلُّفَ فيه ولا احتيال، فيأتي على وزن (فعل). أما الشر فيحتاج من فاعله إلى تكلّف وسَتْر واحتيال، فعبَّر عنه بما يدل على الافتعال وهو (افتعل) أو اكتسب.

ومثَّلْنا لذلك بالإنسان حين ينظر إلى أهل بيته أو محارمه وفيهن الجميلات مثلاً، فهو ينظر نظرةً طبيعية لا يسترها، ولا يخاف فيها شيئاً، أما إنْ أراد أنْ ينظر إلى امرأة أجنبية عنه فإنه يُخفِي هذه النظرة، ويحتال لذلك بكل وسيلة.

إذن: لماذا استخدم القرآن هنا لفظ كسب في مجال السيئات، وهي كما أوضحنا اكتساب؟ ومثله قوله تعالى: { { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ .. } [البقرة: 81].

قالوا: استخدم القرآنُ كسب في السيئات لأن صاحبَ السيئة قد يتعوَّد عليها حتى تصبح طبْعاً فيه وعادة ودُرْبة، بل وتصبح بالنسبة له مهارة تصل إلى حَدِّ التباهي بها والعياذ بالله، وهؤلاء يفعلون السيئة دون تكلّف ودون سَتْر، فهي في حقه كسبٌ لا اكتساب، ومثال ذلك المجرمون الذين اعتادوا الجريمة وتمرَّسوا بها، فهي بالنسبة لهم عملية طبيعية، وساعة يعمل السيئة يعدّها مكسباً له.

وقوله: { وَحَاقَ بِهِم } [الزمر: 48] أي: نزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الزمر: 48] هذا المعنى أوضحه الحق سبحانه وتعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36].

نعم .. كثيراً ما نرى ونسمع استهزاء أهل الباطل من أهل الحق وسخريتهم منهم وتندّرهم عليهم، ويصل الأمر إلى أنْ يتهموهم بأنهم على ضلال، سبحان الله؟ لكن عزاء أهل الحق أن هذا الاستهزاء في الدنيا الفانية، وإنْ صبروا عليه كان لهم الأجر، وسوف يُرد هذا الاستهزاء وهذه السخرية في الآخرة الباقية، حيث يسخر أهل الحق من أهل الباطل ويضحكون منهم، بل ويخاطبهم الحق سبحانه ليطيب خاطرهم: { { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 36] يعني: هل قدرنا أنْ نُجازيهم بما يستحقون؟

قالوا: استهزاء الشرير بالخيِّر، وسخريته منه ثأر من طيبته لشريرته، لأنه لا يستطيع ولا يقدر أنْ يكون مثله فيسخر منه ويستهزئ به لعله ينصرف عَمَّا هو فيه من الخير ويذهب إلى الشر، لكن العاقل يفهم هذه المسألة ويعلم أن هذا الاستهزاء غيظ وحقد وحسد فيصبر عليه وهو يعلم أنَّ له بكل سخرية وبكل استهزاء منزلة عند الله، وله على ذلك عِوَض.

 

=======

49.

فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

٤٩ قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

٥٠ .

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي رأينا المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى وقالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلْفى .. إذا ما طرأ لهم طارئ أو جَدَّ في حياتهم شيء فوق طاقة أسبابهم لا يلجئون الأصنام، ولا إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله، إنما يلجئون إلى الله ويضرعون إليه سبحانه ليكشف عنهم ما هم فيه، وليرفع عنهم البلاء، لماذا؟

لأن هذه هي الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، والعهد الذي أخذه الله علينا جميعاً ونحن في عالم الذرِّ حين قال سبحانه: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] والإنسان لا يخدع نفسه ولا يسلمها، فإذا أحاط به شر لا تنهض الأسباب لدفعه قال: يا رب وعندها ينسى كبرياءه، وينسى عناده، وينسى تكذيبه للرسل ولا يجد إلا ربه وخالقه وإلهه الحق.

وصدق الله: { { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } [الإسراء: 67].

ونلحظ أيضاً أن الإنسان حينما يقع في كرب لا يقدر على دفعه بنفسه ينادي مَنْ حوله، فإذا لم يُجِبْه أحدٌ يقول يا هوه، ومعناها: يا هو يا مَنْ ليس هناك غيره، والمراد الله سبحانه وتعالى.

وقوله { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ } [الزمر: 49] أي: أعطيناه { نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] يعني: إنْ أعطيناه نعمة بعد هذا الضر الذي مسَّه سرعان ما ينسى ويعود إلى صَلَفه وغروره الحياتي، لأنه يخاف أن مسألة رفع الضر عنه تُقربه من ربه الذي دعاه، وأن هذا الجميل الذي ساقه إليه ربُّه يعيده إلى الجادة وإلى الاستقامة.

فالاستقامة تكاليف ومسئولية هو يكرهها، ولا يريد أنْ يُقيّد نفسه بها، لأن التكليف معناه مَنْع النفس عن شهواتها، وحملها على الطاعات فهو يخاف أن تأسره هذه المسألة، أو تقيد حريته في الشهوات، لذلك قال الحق سبحانه عن الصلاة: { { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [البقرة: 45].

وقوله: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] لها وجهان: إما على علم من الله أنِّي أستحق هذا الخير وإلا ما أعطاني - هذا إنْ كان يعتقد أن الله هو الذي يعطي - أو على علم مني، لأن عندي دقَّةً في التعامل ويقظة، وعندي تجربة ودراية بالأمور ودراسة للنتائج.

وهنا يصحح له ربه { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ .. } [الزمر: 49] يعني: هذه النعمة فتنة من الله، فلا هي لعلم الله أنك تستحق، ولا هي نتيجة لعلمك ومهارتك { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ .. } [الزمر: 49] يعني: ابتلاء واختبار. كما قال سبحانه: { { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] نبلو بالشر لنرى مَنْ يصبر، ونبلو بالخير لنرى مَنْ يشكر ومَنْ يطغى.

وفي موضع آخر قال تعالى: { { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [الفرقان: 20].

يعني: كلُّ بعض منا فتنة للبعض الآخر، فالغني فتنةٌ للفقير، والقويُّ فتنة للضعيف، والعكس صحيح ليختبر الحق سبحانه خَلْقه: مَنْ يصبر ومَنْ يجزع، مَنْ يشكر ومَنْ يكفر، مَنْ يرضى ومَنْ ينقم.

إذن: ينبغي على الإنسان أنْ يقوم في حركة حياته ما أقامه الله، فكل ما يُجْريه عليه خير، فإذا رأيتَ نعمة عند غيرك وليست عندك فاعلم أن الله ما فضّل هذا عليك، وأنت بصبرك على ما قُدِّر لك وعدم حقدك على أخيك تستطيع أنْ تكون أفضل منه.

وتختم الآية بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 49] أي: هذه الحقائق التي ذُكِرتْ لا يعلمها الكثيرون، وهذا يعني أن القلة تعلم.

ثم يوضح الحق سبحانه أن هذه المسألة ليست كلمة نظرية، إنما هي حقيقة لها واقعٌ في تاريخ السابقين، فيقول: { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الزمر: 50] نعم قالها قارون { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78].

ونقول: ما دمتَ قد أوتيته على علم، سواء علم من الله أنك أهلٌ لهذا الخير أو علم عندك ومهارة في العمل والتناول، فها هي النعمة بين يديك، وما عليك إلا أنْ تحفظها، وحِفْظ الشيء الموجود بين يديك أيسَرُ من إيجاده من العدم، فهل تستطيع؟

والمعنى أنني لا أقول لكم كلاماً نظرياً، بل هو واقع يؤيده التاريخ، فقد قالها قارون واغترَّ بها، ثم خسفنا به وبداره الأرض وهنا نشأتْ قضية: إذا كنتَ قد أوتيته على علم فاحفظه أيضاً على علم، لكن ما دام الأمر قد تخلَّى عنك في الحفظ وهو يسير، فأنت في الإيجاد أشدّ تخيلاً.

نعم { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الزمر: 50] لأن الله خسف بقارون وبداره أيضاً، فلم تذهب النعمة والثروة فحسب، بل طال الانتقام حتى الأرض والمكان الذي يعيش عليه ويبيت فيه ويستريح عليه.

 

=====معاد هكذا في الاصل

 

فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

٤٩ قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

٥٠ -

 

خواطر محمد متولي الشعراوي رأينا المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى وقالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلْفى .. إذا ما طرأ لهم طارئ أو جَدَّ في حياتهم شيء فوق طاقة أسبابهم لا يلجئون الأصنام، ولا إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله، إنما يلجئون إلى الله ويضرعون إليه سبحانه ليكشف عنهم ما هم فيه، وليرفع عنهم البلاء، لماذا؟

لأن هذه هي الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، والعهد الذي أخذه الله علينا جميعاً ونحن في عالم الذرِّ حين قال سبحانه: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] والإنسان لا يخدع نفسه ولا يسلمها، فإذا أحاط به شر لا تنهض الأسباب لدفعه قال: يا رب وعندها ينسى كبرياءه، وينسى عناده، وينسى تكذيبه للرسل ولا يجد إلا ربه وخالقه وإلهه الحق.

وصدق الله: { { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } [الإسراء: 67].

ونلحظ أيضاً أن الإنسان حينما يقع في كرب لا يقدر على دفعه بنفسه ينادي مَنْ حوله، فإذا لم يُجِبْه أحدٌ يقول يا هوه، ومعناها: يا هو يا مَنْ ليس هناك غيره، والمراد الله سبحانه وتعالى.

وقوله { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ } [الزمر: 49] أي: أعطيناه { نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] يعني: إنْ أعطيناه نعمة بعد هذا الضر الذي مسَّه سرعان ما ينسى ويعود إلى صَلَفه وغروره الحياتي، لأنه يخاف أن مسألة رفع الضر عنه تُقربه من ربه الذي دعاه، وأن هذا الجميل الذي ساقه إليه ربُّه يعيده إلى الجادة وإلى الاستقامة.

فالاستقامة تكاليف ومسئولية هو يكرهها، ولا يريد أنْ يُقيّد نفسه بها، لأن التكليف معناه مَنْع النفس عن شهواتها، وحملها على الطاعات فهو يخاف أن تأسره هذه المسألة، أو تقيد حريته في الشهوات، لذلك قال الحق سبحانه عن الصلاة: { { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [البقرة: 45].

وقوله: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] لها وجهان: إما على علم من الله أنِّي أستحق هذا الخير وإلا ما أعطاني - هذا إنْ كان يعتقد أن الله هو الذي يعطي - أو على علم مني، لأن عندي دقَّةً في التعامل ويقظة، وعندي تجربة ودراية بالأمور ودراسة للنتائج.

وهنا يصحح له ربه { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ .. } [الزمر: 49] يعني: هذه النعمة فتنة من الله، فلا هي لعلم الله أنك تستحق، ولا هي نتيجة لعلمك ومهارتك { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ .. } [الزمر: 49] يعني: ابتلاء واختبار. كما قال سبحانه: { { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] نبلو بالشر لنرى مَنْ يصبر، ونبلو بالخير لنرى مَنْ يشكر ومَنْ يطغى.

وفي موضع آخر قال تعالى: { { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [الفرقان: 20].

يعني: كلُّ بعض منا فتنة للبعض الآخر، فالغني فتنةٌ للفقير، والقويُّ فتنة للضعيف، والعكس صحيح ليختبر الحق سبحانه خَلْقه: مَنْ يصبر ومَنْ يجزع، مَنْ يشكر ومَنْ يكفر، مَنْ يرضى ومَنْ ينقم.

إذن: ينبغي على الإنسان أنْ يقوم في حركة حياته ما أقامه الله، فكل ما يُجْريه عليه خير، فإذا رأيتَ نعمة عند غيرك وليست عندك فاعلم أن الله ما فضّل هذا عليك، وأنت بصبرك على ما قُدِّر لك وعدم حقدك على أخيك تستطيع أنْ تكون أفضل منه.

وتختم الآية بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 49] أي: هذه الحقائق التي ذُكِرتْ لا يعلمها الكثيرون، وهذا يعني أن القلة تعلم.

ثم يوضح الحق سبحانه أن هذه المسألة ليست كلمة نظرية، إنما هي حقيقة لها واقعٌ في تاريخ السابقين، فيقول: { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الزمر: 50] نعم قالها قارون { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78].

ونقول: ما دمتَ قد أوتيته على علم، سواء علم من الله أنك أهلٌ لهذا الخير أو علم عندك ومهارة في العمل والتناول، فها هي النعمة بين يديك، وما عليك إلا أنْ تحفظها، وحِفْظ الشيء الموجود بين يديك أيسَرُ من إيجاده من العدم، فهل تستطيع؟

والمعنى أنني لا أقول لكم كلاماً نظرياً، بل هو واقع يؤيده التاريخ، فقد قالها قارون واغترَّ بها، ثم خسفنا به وبداره الأرض وهنا نشأتْ قضية: إذا كنتَ قد أوتيته على علم فاحفظه أيضاً على علم، لكن ما دام الأمر قد تخلَّى عنك في الحفظ وهو يسير، فأنت في الإيجاد أشدّ تخيلاً.

نعم { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الزمر: 50] لأن الله خسف بقارون وبداره أيضاً، فلم تذهب النعمة والثروة فحسب، بل طال الانتقام حتى الأرض والمكان الذي يعيش عليه ويبيت فيه ويستريح عليه.

.=============

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ

٥١

 

 

خواطر محمد متولي الشعراوي قوله تعالى: { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } [الزمر: 51] أي: السابقون الذين قالوا هذه الكلمة من قبل، أصابهم ونزل بهم ما كسبوا من السيئات، يعني: هم فعلوه بأنفسهم، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون { وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ } [الزمر: 51] أي: المعاصرين { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [الزمر: 51].

والمعجز هو الذي يعمل عملاً يتحداك به، وتعجز أنت عن الإتيان بمثله؛ لذلك نسمي آية صدق الرسل في البلاغ عن الله معجزةً، لأنها أعجزتْ المكابر المكذِّب، أما الذي آمن بمجرد البلاغ وصدَّق به فلا يحتاج إلى معجزة، والمعجزة يُشترط لها أن تكون مقرونة بالتحدي، لماذا؟

قالوا: لأنك حين تتحدَّاه وتخبره أنك ستعمل عملاً لا يقدر هو عليه فإنك بذلك تشحن مواهبه ليستعدَّ للمواجهة، وعندها تستطيع أن تقيم عليه الحجة، أما إنْ فاجأته بالتحدي فله أنْ يقول لك: والله لو فكرت في المسألة، أو لو كانت في بالي لفعلتُ. إذن: معجز يعني يصيب الغير بالعجز عن مجاراته.

وقلنا في المعجزة: إنها ينبغي أن تكون من جنس ما نبغ فيه القومُ، ومناسبة للعصر الذي نتحدى فيه، لأنك لو تحديتَ قوماً بشيء لا علمَ لهم به ولا دُرْبة لكان لهم أنْ يقولوا: لو كنا نعلم هذا لفعلناه، وإلا لما كان للتحدي موضع.

وقد أعطانا القرآن الكريم نموذجاً للتحدي حينما تحدّى العرب وهم أهْلُ اللغة وأرباب الفصاحة والبيان، تحدَّاهم أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، وحين نتأمل هذا التحدي نجده يتدرج تنازلياً، وكلما تنازل في تحدّيه يعلو في إعجازه، لأنه لأول ما تحدَّاهم تحدَّاهم بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة من مثله.

ليس هذا وفقط، إنما يُخرِج التحدي من الإنس إلى الجن؛ لأن العرب وإنْ كانوا أمة كلام وفصاحة إلا أنهم نسبوا للجن قدرةً أعلى على الفصاحة والبلاغة، بدليل أنهم إذا نبغ منهم شاعر وأجاد قالوا: إن الجن يُوحى إليه بهذه المعاني، واعتقدوا أن هذا الجن يسكن وادي عبقر كما يقولون.

لذلك أخرج القرآن التحدِّي من دائرة الإنس إلى دائرة الجن، فقال سبحانه: { { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88] أي: معيناً ومساعداً.

لذلك كانت معجزة سيدنا موسى عليه السلام نوعاً من السحر، لأن قومه نبغوا فيه، وكانت معجزة سيدنا عيسى أنْ يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، لأن قومه نبغوا في الطب.

وكلمة { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [الزمر: 51] أي: في الهرب والإفلات من العقوبة، لأنهم فعلوا أشياء تستحق العقوبة، فإذا أخذناهم للعقاب فلن يُعجزونا. يعني: لن يفلتوا منا؛ لأن المسألة بالنسبة لنا قد يكون غريمك في يدك وفي نفس مكانك، وقد يهرب منك إلى مكان آخر، لكن بالنسبة للحق سبحانه فهو في كل مكان، وإلا فدلَّني على مكان ليس فيه الله سبحانه وتعالى، إذن: كيف الهرب؟ وإلى أين؟! فإنْ تواجدتم معه فلن يعجز عنكم، وإنْ هربتم فلن يعجز عن الإتيان بكم.

==============

 

أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

٥٢..

خواطر محمد متولي الشعراوي لأن قارون اغترَّ بماله وجاهه، وما كان فيه من غنى وزَهْوة في قومه، حتى قال { { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78] فأراد الحق سبحانه أنْ يُصحح له المسألة ولمَنْ كان على شاكلته، فقال سبحانه: { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الزمر: 52] يبسط يعني: يُوسِّع على مَنْ يشاء، ويقدر يعني: يُضيق على مَنْ يشاء ويقبض، وكما نقول: يعطي مَنْ لا حيلَةَ له ليتعجب مَنْ له حيلة.

إذن: المسألة في الرزق والعطاء ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء، إنما هي قدر قدَّره الرازق سبحانه.

وقد ورد في الحديث القدسي قوله تعالى: "يا ابن آدم .. خلقتُك للعبادة فلا تلعب، وقسمتُ لك رِزقك فلا تتعب، فإنْ أنت رضيتَ بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك وكنتَ عندي محموداً، وإنْ لم ترْضَ بما قسمتُه لك فوعزّتي وجلالي لأُسلِطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركْضَ الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمتُه لك وكنتَ عندي مذموماً" .

فالرزق قسمه الرازق سبحانه، ولا يُشترط له مهارة ولا رجاحة عقل وحُسْن تفكير، لذلك قال أبو العتاهية:

يُرزَقُ الأحْمَقُ رزْقاً واسعاً وَتَرى ذَا اللُّبِّ محرُوماً نَكِد والحق سبحانه وتعالى يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب، لذلك يُحكى أن رجلاً راعياً وهو يسير في الطريق إذ عثرتَ رِجْله بحجر، فوجد عنده بئراً فجعل يتحسَّس ما في البئر، فوجد شيئاً له صوت (شخشخة) كصوت الذهب والفضة، فبحث عنه فوجدها غرارة مملوءة بالذهب والفضة فأخذ منها ما يملأ جيوبه وما يستطيع حمله، وترك الباقي في مكان يعلمه ليعود إليه حين الحاجة.

وبعد فترة نفد ما معه من المال، فجاء إلى نفس المكان ليأخذ من هذا المال فوجد شخصاً آخر قد سبقه إليه وأخذ ما تبقّى منه، فلما رآه يحمله على ظهره نظر إليه. فقال الرجل: رزقني الله ما ظننته أنه لك، لكن هو لي.

لكن نلحظ في مسألة الرزق أن الناس يُخطئون حين يظنون ويُحجِّمون الرزق في المال وحده، فالرزق عندهم هو الغِنَى وكثرة المال، لكن الصواب أن نقول: الرزق هو كل شيء يُنتفع به وتستفيد منه، وعليه فالعلم رزق، والحلم رزق، والأمانة رزق، والصحة رزق .. إلخ.

لذلك ينبغي على الغني الذي رُزِق المال الوفير أنْ يسأل نفسه حين يرى فقيراً: يا ترَى ما رزق هذا الفقير؟ وبم تميَّز عني؟ ربما كان رزقه في عقله أو في أدبه أو في حلمه أو في سمعته الطيبة بين الناس أو في عافيته.

وسبق أنْ قلنا: إن مجموع المواهب عند أيِّ إنسان تساوي مجموع المواهب عند الآخر، فهذا عنده المال بنسبة عشرة على عشرة، لكنه حُرِم نعمة الولد بنسبة صفر على عشرة وهكذا؛ لأن الخَلْق جميعاً عيال الله، ولا يوجد منهم مَنْ هو ابن الله أو بينه وبين الله نسب.

إذن: علام يوجد التمييز بين واحد وآخر؟ نقول: الرزق يحتاج إلى جهات متعددة؛ لذلك يوزع الرازق سبحانه الأسباب فلا تستقيم الحياة إنْ كان الناس جميعاً أغنياء، أو كان الناسُ جميعاً عقلاء أو علماء؛ لأن العقل الواحد مثلاً يحتاج إلى أكثر من جارحة من الجوارح تخدم تفكيره، فالمهندس مثلاً حين يرسم تصميماً لعمارة سكنية، هو مهندس واحد لكن يحتاج إلى كم عامل لتنفيذ هذا العمل، ولخدمة هذه الفكرة الهندسية، فالعامل البسيط الذي يحفر الأرض لوضْع الأساس عنده من المواهب ما ليس عند المهندس، وهكذا تُوزَّع المواهب وتُوزَّع الأرزاق.

والرزق قد يكون بزيادة الدخل، وقد يكون سلباً بنقص المنصرف، فنجد مثلاً رجلاً راتبه الشهري مائة جنيه ويتعجب الناس كيف يعيش بهذا المبلغ، ونسوا أن المهم في الرزق أن يكون من الحلال، فالله يبارك في القليل منه، حتى يحلّ محل الكثير، فتجد هذا الرجل مثلاً إذا مرض ولده يكفيه قرص أسبرين والأم تعد له كوب شاي ويُشفى الولد بإذن الله.

بينما نجد آخر يحصل على أضعاف هذا المبلغ، لكنه لا يتحرَّى الحلال في كسبه، فإذا مرض ولده ذهب به إلى الطبيب، وأجرى التحاليل وأوهم نفسه أن المرض خطير، حتى يصرف على الولد مبالغ كبيرة.

لذلك ورد في الحديث الشريف: "مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر".

إذن: رزق الإيجاب أنْ يزيد المورد، ورزق السلب أنْ يقلَّ المنصرف، لذلك نلحظ مثلاً موظفاً من أصحاب الرواتب العالية وزميله له راتب متواضع يذهبان إلى السوق، الأول يشتري الرومي أو السمك الكيلو بعشرة جنيهات، أما الآخر فيشتري السمك العادي الكيلو مثلا بأربعة جنيهات، ذهب كل منهما إلى بيته وأكل كل منهما سمكاً، لكن الأول صرف أضعاف أضعاف الآخر، وربما النتيجة واحدة، وكل منهما راضٍ بما أخذ وبما أكل، هذا نسميه رزق السلب.

والمؤمن ينبغي له دائماً أنْ يضع مسألة الاقتصاد في النفقات في باله، وأنْ يعلم أن رزق السلب أوسع من رزق الإيجاب، لأن رزق السلب منع ألماً، أمَّا رزق الإيجاب فقد يأتي بالألم.

وقوله سبحانه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الزمر: 52] أي: يؤمنون بالرازق الذي سمَّى نفسه الباسط، وسمى نفسه القابض، وما دام الحق سبحانه سمَّى نفسه الباسط وسمى نفسه القابض فلا بدَّ أنْ يكون لكل صفة متعلق، ولا بدَّ أنْ يوجد في الخَلْق مَنْ يبسط الله له الرزقَ، ومَنْ يقبض عنه ويُضيِّق عليه، وهذا وذاك بحكمته تعالى وقدره سبحانه.

فمَنْ وسَّع الله له رزقه، وبسط له عليه أنْ يشكر، ومن قُدِر عليه رزقه وضُيِّق عليه يجب أن يصبر وأنْ يرضى، وأنْ يسير في حركة حياته على قدر رزقه، ولا يفتح على نفسه أبواب المسألة، فمَنْ رضي بقدره أعطاه الله على قدره سبحانه؛ لذلك تجد عظماء العالم وأصحاب الكلمة والصِّيت لو نظرت إليهم في أوليات حياتهم لوجدتهم رَضُوا بقدر الله فيهم وعاشوا في مستوى دخولهم، فتحقق فيهم قوله: "مَنْ رضي بقَدَري أعطيته على قَدْري".

ثم يقول الحق سبحانه:

{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ... }.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق