{ج3.تفسير سورة الزمر من الاية 35. الي اخر
الاية 75.}اخر سورة الزمر تفسير الشيخ الشعراوي
قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣ -الزمر خواطر محمد متولي الشعراوي الإسراف هو تجاوز الحدّ، نقول: فلان مسرف يعني: يتجاوز الحدَّ في الإنفاق بما لا يتناسب مع دخله، وهؤلاء أسرفوا على أنفسهم ولم يقل: أسرفوا لأنفسهم. إنما أسرفوا عليها. مما يدلّ على أن هذا الإسراف يجر عليهم الوبال، فهو إسراف في المعاصي والذنوب والعياذ بالله. قلنا: الإسراف تجاوز الحدّ، الحد إنْ كان بعد أمر فلا تتجاوزه، وإنْ كان بعد نهي فقال لا تقربه مجرد القرب منه؛ لذلك يقول تعالى في الأوامر: { { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229] يعني: قفْ عندها. أما في النواهي فيقول سبحانه: { { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187] لأن قربك من الشيء يغريك به. وكما ورد في الحديث الشريف: "مَنْ حام حول الحِمَى يوشك أنْ يُواقعه" . لذلك حينما نهى الحق سبحانه سيدنا آدم عن الأكل من الشجرة لم يقل له: لا تأكل منها، إنما قال سبحانه: { { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [الأعراف: 19]. لذلك تجد أن لفظ الاجتناب أقوى من لفظ التحريم وأشدّ، وعجيبٌ أنْ نسمع من الذين يسرفون على أنفسهم يقولون: لم يردْ لفظ يحرم الخمر في كتاب الله، نقول: كيف وقد ورد ما هو أشدّ من التحريم وهو الاجتناب في قوله سبحانه: { { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91]. لأن معنى (فَاجْتَنِبُوهُ) يعني: ابتعدوا عنها بالكلية فجانبوا مجلسها، وجانبوا شاربها، وجانبوا بائعها، وجانبوا ناقلها .. إلخ فهذا أبلغ في التحريم من قولنا لا تشرب الخمر، بدليل أن القرآن استخدم لفظ الاجتناب في قمة الإيمان العقدي، فقال سبحانه: { { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } [الحج: 30]. فإذا تناولنا الإسراف في الإنفاق نجد أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن تسير حركة الحياة في المجتمع الإيماني حركة متوازنة متساوية تتوسط في الأمور، بمعنى أنك تعرف دخلك ورزقك الذي يسوقه الله إليك، والله لا يريد منك أن تقبض هذا الرزق وتمسكه فلا تنفق منه، ولا يريد منك أن تنفقه كله أو تسرف فيه بل يريد الوسطية، كما بيَّن سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67] فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم منهيٌّ عنه، فمَن اتخذ سبيلاً غير سبيل الوسط أضرَّ بنفسه وبالمجتمع، لأنه إنْ أمسك المال قلَّتْ قوة الشراء وقوة البيع في الأسواق، ويترتب على ذلك ركود في الحركة التجارية والصناعية وبوار للسلع وكساد في السوق. وإنْ أسرف وبذَّر فأنفق كل دَخْله لم يجد شيئاً يدخره لينمي به حياته ويُحسِّن من مستواه ويرتقي بحياته، وعندها يلوم نفسه لأنه يرى غيره يرتقي ويُرفّه حياته وهو لا يستطيع. وهذا المعنى أوضحه الحق سبحانه في قوله تعالى: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الإسراء: 29]. والمعنى: ملوماً حين تمسك وتضنّ، محسوراً حين تسرف وتبذر، لأنه سيجد أهل الوسطية يعيشون عيشة السعداء، لا لومَ ولا حسرة. والعاقل هو الذي يُخضِع مصرفه لدخله، لا أنْ يُخضع دخله لمصرفه، لأنك حين تخضع دخلك لمصرفك فلابدَّ أنْ تمتدَّ يدك للاقتراض من الناس، وهذا سيتعبك ويشقّ عليك، وسوف تُعييك الحيل، ويقبض الناس عنك نفوسهم، وتهون في أعينهم حتى تعيشَ بسبب ذلك في كرب. إذن: نقول: الإسراف تجاوز الحدّ فيما يعود عليك بالشر والضرر، لذلك قال تعالى: { أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] أما الإسراف الذي يعود عليك بالخير فهو إسراف لك لا عليك كالذي يدفع زكاة ماله عشرة بالمائة بدلاً من 2.5 بالمائة، لأنه أيقن أن هذا هو الباقي له والمدَّخر عند الله، فواحد يعمل لأمر دنياه فحسب، وواحد يعمل للدنيا وللآخرة. لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه: يا إمام أريد أنْ أعرف أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ قال: ليس عندي جواب هذا السؤال، إنما جوابه عندك أنت، قال: كيف؟ قال: إذا دخل عليك اثنان: واحد بهدية، والآخر يريد صدقة أو معونة، فانظر إلى أيِّهما تبشّ، وبأيهما ترحب، فإنْ رحبتَ بصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، لأنك تحب مَنْ يعمر لك دنياك، وإن كانت الأخرى فأنت من أهل الآخرة، لأنك تحب مَنْ يعمر لك آخرتك. وتعرفون قصة الشاة التي "أهديتْ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدقت بها السيدة عائشة ولم تبْق منها إلا كتفها، فلما سألها رسول الله: ماذا صنعتِ بالشاة؟ قالت: كلها ذهب إلا كتفها - وكان صلى الله عليه وسلم يحب من الشاة الكتف - فقال صلى الله عليه وسلم: بل بقيت كلها إلا كتفها" . إذن: الباقي هو ما تصدَّقنا به، والذاهب ما أكلناه، ويؤيد هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "يا ابن آدم، ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأبقيتَ" . ثم يفتح الحق سبحانه طاقةَ الأمل لمنْ أسرف على نفسه، فيقول لهم: { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّه } [الزمر: 53] القنوط هو اليأس من رحمة الله، لكن لماذا نيأس من رحمة الله؟ قالوا: لأنهم أسرفوا على أنفسهم وبالغوا في المعصية وتمادَوْا فيها، وحين يعود المسرف ويرجع يلوم نفسه ويؤنبها وتعظم ذنوبه في نظره، ولا يرى نفسه أهلاً للمغفرة ولا للرحمة فيداخله اليأس والعياذ بالله. والمتأمل يجد هذا اللوم للنفس وهذا اليأس من الرحمة هو من جهة أخرى ظاهرة صحية في الإيمان، لأن استعظامَ الذنوب وكوْن المسرف لا يرى نفسه أهْلاً للرحمة، هذا يدل على سلامة إيمانه وعلى خوفه من ربه. قوله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53]. قال عنها ابن عباس أنها أرْجَى آية في كتاب الله لأنها تعطي الأمل لكل مذنب مهما كانت ذنوبه. ولولا أن الله تعالى أعقبها بقوله: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } [الزمر: 54] لأورثتْ الناسَ التهاون وأطمعتهم في رحمة الله طمعاً يُنسيهم عذابه ونقمته، فالمؤمن يتقلًّب في حركة حياته بين الخوف والرجاء، ولا بدَّ له منهما معاً. نعم ربك غفور رحيم، لكن لا بدَّ لكي تكون موضعاً لهذه الرحمة ومُتعلِّقاً لهذه المغفرة، لا بُدَّ أنْ تنيب إلى الله، وأنْ ترجع إليه رجوعاً صادقاً مخلصاً، لأن الذي يذنب ويتوب، ثم يذنب ويتوب كالمستهزئ بربه، نعوذ بالله من هذا. لما قال ابن عباس عن هذه الآية أنها أرجى آية في كتاب الله قال أحد جلسائه: وأنا أرى أن أرجى آية في كتاب الله هي قوله تعالى { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد: 6] وأنا أنتقد العلماء الذين يفسرون { { عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد: 6] بمعنى: مع ظلمهم، وهذا لا يستقيم، ومعنى الآية بحيث نقول عنها أنها أرجى آية في كتاب الله، ونلاحظ هنا أن (مع) حرفان أما (على) فثلاثة حروف، فلا بدّ أن المعنى الذي تؤديه على لا تؤديه مع، لأنه ما دامت هنا مغفرة للذنب، والذنب يتطلب صفة القهار والجبار والمنتقم، لكن مغفرة الله تعلو على الذنب فتمحوه، وهذا المعنى لا تؤديه مع. وهنا وقفة للمستشرقين الذين يحاولون النَّيْل من أسلوب القرآن، وقد رأوْا تعارضاً بين قوله تعالى هنا: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53] وبين قوله سبحانه: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48]. ونقول لهؤلاء: جهلكم بلغة القرآن ومعطيات الأسلوب أوقعتكم في هذا الخطأ، لأن الذنب يعني ارتكاب جُرم جرَّمه الله وجعل له عقوبة، والشرك بالله ليس ذنباً بهذا المعنى، لأن الشرك يُخرِج صاحبه من الملة أصلاً، وعليه فليس بين الآيتين تعارض كما تظنون. قالوا: نزلت هذه الآية: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 53] نزلتْ في شأن وحشي قاتل سيدنا حمزة في أُحُد لما أخذت هندٌ كبد سيدنا حمزة ولاكتْها. ونقول: لقد قُتِل حمزة في أُحُد ولم يُسلم وحشي بعدها، إنما أسلم بعد فترة طويلة، لذلك قال الذين يريدون أنْ يُوفِّقوا بين الأقوال: لعل وحشياً لما قتل حمزة وتذكر مكانته في الإسلام، وأنه أسد الله قنطَ من رحمة الله، وهذا القنوط قد يدعوه إلى المزيد من الشر والفجور، وقابله أحد الصالحين وقال له: لا تقنط من رحمة الله، فقد قال الله تعالى: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53]. لما سمع وحشيٌّ هذا الكلام أسلم، فما منعه من الإسلام إلا الخوفُ مما فعل، فإذا كان أمر المغفرة على هذا النحو فلماذا لم يسلم، وقد ضمن له ربه المغفرة؟ إذن: الآية سابقة على هذه القصة، ولم تنزل في شأنه خاصة إنما نزلتْ قبله، لكنها قيلتْ له وقَرئت عليه، فكانت سبباً في إسلامه. وكلمة { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53] قصرت المغفرة والرحمة عليه سبحانه وتعالى، لأن كل ذنب من الذنوب حَقٌّ لله تعالى، وما دام الذنب حقاً من حقوق الله فهو وحده الذي يملك أن يغفره وأن يرحم صاحبه، وله سبحانه أنْ يُؤاخذ ويعاقب، لأن له سبحانه طلاقة القدرة، وليس معه سبحانه إله آخر يعترض عليه. وهذا المعنى واضح في قصة سيدنا عيسى عليه السلام في قوله تعالى: { { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 116-118]. نلحظ هنا في تذييل هذه الآية أنه لم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم فهو المناسب للمغفرة إنما قال: { { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118] فقوله (العزيز الحكيم) دلَّ على أن عيسى عليه السلام يرى أنهم يجب أن يجازوا في هذه الفرية، ولكن الحق سبحانه له طلاقة القدرة في أنْ يغفر أو يُعذب، ولو كان له سبحانه شريك في هذه المسألة ما قال ذلك، إنما هو سبحانه عزيز حكيم لا يُعقِّب أحدٌ على ما تصرَّف فيه، فهو سبحانه الذي يغفر لهم لا لأنه غفور رحيم، إنما هم يستحقون العقوبة، وإذا غفر الله لهم فلأنه عزيز حكيم. ======================== وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ٥٤ -الزمر.. خواطر محمد متولي الشعراوي الإنابة: هي التوبة والرجوع إلى ساحة الإيمان بالله إلهاً واحداً لا شريك له. والإسلام: أنْ تنفذ مطلوبَ الله منك في الأمر والنهي بافعل ولا تفعل. لكن هل تعني الإنابة أنهم كانوا مع الله ثم انصرفوا عنه إلى الكفر، فيطلب منهم العودة والرجوع إلى ساحة الإيمان مرة أخرى؟ نقول: لا بل معنى الإنابة هنا الرجوع إلى العهد الأول الذي أخذه الله على عباده وهم في عالم الذر، وهم في ظهر آدم عليه السلام، هذا العهد الذي قال الله فيه: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172]. فالمعنى { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ } [الزمر: 54] ارجعوا إلى إيمانكم به الإيمانَ الفطري الذي أخذ عليكم العهد به. هذا الإيمان الفطري هو الذي يصحب الإنسان فيستيقظ ضميره بعد المعصية فيتوب أو بعد الكفر فيؤمن، هذا الإيمان الفطري المستقر في قرار النفس البشرية هو الذي ينبهها إنْ غفلت، هذا الإيمان هو الذي نبَّه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، فآمنوا حينما رجعوا إلى العهد الأول والإيمان الفطري. { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [الزمر: 54] ما معنى النُّصرة هنا والكلام عن الآخرة؟ أي: لا يتناصر أهل الباطل ولا يدافع أحدٌ منهم عن الآخر لا التابع ولا المتبوع، كما قال سبحانه في موضع آخر: { { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } [الصافات: 25-30]. نعم، لا يتناصرون لأن الموقف هنا موقف خصومة ولوم، حيث يُلْقي كل منهم التبعة على الآخر، ويتبرأ كل منهم من الآخر؛ لذلك قال سبحانه: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]. =================== عرض وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ٥٥ -الزمر---------- وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ٥٥ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (أحسن) أفعل تفضيل يدلّ على المبالغة، ونفهم منه أن الأقل في الخير حسن، نقول: هذا حسن وهذا أحسن منه. والأمر هنا باتباع الأحسن، فمثلاً الحق سبحانه يُنزِّل من الأحكام ما يرضي النفس البشرية كي لا تمتلئ غيظاً وكرهاً للناس، فيقول سبحانه: { { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126]. يعني: إياك أنْ تتجاوز المثلية إنْ أردتَ أن تعاقب، فإنْ قدرتَ على هذه المثلية دون أن تتجاوزها فهذا حسن، لكن الأحسن منه أنْ تعفو كما قال سبحانه في آية أخرى: { { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ .. } [البقرة: 178]. وقال: { { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. هذا هو الأحسن ومن ذلك قوله تعالى في مسألة التبني: { { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5] تعرفون قصة تبنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة، وأن زيداً خُيِّر بين أهله وبين رسول الله فاختار البقاء مع رسول الله، وقال: ما كنتُ لأختار على رسول الله أحداً؛ لذلك كافأه رسول الله ونسبه إلى نفسه، فقال: زيد بن محمد. فلما أراد الحق سبحانه أن يحرم التبني وأنزل { { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } [الأحزاب: 5] أنصف سيدنا رسول الله وجعل فعله حسناً، لكن مراد الله أحسن وفعل رسول الله قِسْط، واختيار الله أقسط { { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5] والحكمة من { { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } [الأحزاب: 5] حتى لا تهدروا سبب الوجود وهو الأب، لأن إهدار سبب الوجود المباشر وهو الأب يُجرِّئك أن تنكر سببَ الوجود الأعلى سبحانه. أو نقول: معنى { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [الزمر: 55] أن القرآن نزل وفي القوم ديانتان اليهودية وكتابها التوراة، والنصرانية وكتابها الإنجيل، ولما نزلتْ هذه الكتب وغيرها كان لها أناس آمنوا بها، وآخرون كفروا وأشركوا، بل ومنهم ملاحدة. فالأمر في (وَاتَّبِعُوا) أمر للجميع يعني: يا مَنْ آمن بموسى، ويا مَنْ آمن بعيسى، لقد كان هذا الدين في وقته حسناً، أما الآن فقد جاء الإسلام الدين الخاتم المهيمن على كل الأديان، وأصبح هو الأحسن الواجب عليكم اتباعه. ومرة يكون أفعل التفضيل يعطي للواقع، لكنه لا ينظر إلى المقابل وهو الأقبح، إنما ينظر إلى المساوي في الصفة بالقلة، إلا في شيء واحد لاحظناه فيما يتعلق بالحق سبحانه وتعالى. فمن أسمائه الكبير وليس من أسمائه الأكبر، مع أنه كان المفروض حسب القاعدة أن نقول الأكبر لأنها مبالغة من الكبير, فلماذا إذن؟ نقول: كلمة أكبر وردتْ على أنها صفة للحق سبحانه نسمعها كل يوم في كل أذان وفي كل إقامة للصلاة، والصلاة عبادة لها خصوصيتها ومنزلتها في الدين، فهي العبادة التي تتكرر خمس مرات كل يوم، وهي العبادة التي لا تسقط بحال عن المؤمن ما دام فيه نفَسٌ يتردّد، وهي العبادة التي لم تُشرع بالوحي كباقي العبادات، إنما شُرعت بالمباشرة في رحلة المعراج، هذه العبادة حين ننادي لها نقول: الله أكبر ولم يقل: الله كبير. وهنا موضع العظمة مع أن أكبر أبلغ في المعنى من كبير، لأن التكاليف من الحق سبحانه لا تريد منك مجرد الصلاة والصيام والحج .. إلخ إنما تريد منك أنْ تؤدي كل حركة نافعة في الحياة مُعينة للتدين؛ لذلك قالوا في القواعد الشرعية: ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب. ولك أنْ تتأمل مثلاً فريضة الصلاة، كم من الأعمال لا بدّ منها لتؤدي هذه الفريضة؟ خُذْ مثلاً ستر العورة وهي واجب لا تتم الصلاة إلا به، لكي تستر عورتك لتصلي تحتاج إلى ثوب تلبسه، كيف يتوفر لك هذا الثوب؟ إنه يحتاج إلى خياط يخيطه، ويحتاج لتاجر التجزئة الذي تشتري منه القماش، ثم تاجر الجملة، ثم مصنع النسيج والغزل والصباغة والمحلج، ثم الفلاح الذي يزرع القطن ويجمعه. كل هذه العملية تحتاج إلى عُدَد وماكينات وآلات وأيدٍ عاملة، كذلك الحال في الطعام، الذي لا بُدَّ لك منه لتقوى على أداء الفرائض، كل هذه الحركة من أجلك، تخدمك وتعينك، فهذه الأعمال الدنيوية التي لا تقوم الديانة إلا بها هي واجبة لا يُستهان بها، بل ينبغي المحافظة عليها وتقديسها، لأنها في منزلة الواجب. وحين يأخذك ربك من هذه الأعمال إلى الصلاة مثلاً لا يأخذك من عمل تافه هيِّن لا قيمة له، إنما يأخذك من عمل هو في حَدِّ ذاته عبادة، لذلك جعله كبيراً أما الذي يناديك للصلاة فأكبر من هذا كله، لذلك لم يُنادِ الحق سبحانه المؤمن في صلاة إلا في صلاة الجمعة، حيث قال سبحانه: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ .. } [الجمعة: 9]. وخَصَّ البيع دون سائر الأعمال، لأنه ثمرة باقي الأعمال من تجارة وزراعة وصناعة، والإنسان أحرص على البيع منه على الشراء، لأن البيع هو الصفقة عاجلة الربح؛ لذلك نجد الإنسان حريصاً أن يبيع على خلاف المشتري، فالمشتري مثلاً حين لا يجد السلعة التي يريدها يقول (بركة يا جامع) لأنه سيدفع من جيبه، أما البائع فيأخذ ويربح. فإذا ما انتهتْ الصلاة ردَّك ربك إلى العمل الذي استدعاك منه وأعادك إلى دنياك: { { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ .. } [الجمعة: 10]. إذن: لا تستهنْ بعمل الدنيا ولا تظنه بعيداً عن الدين، بل هو جزء منه، وما لا يتم الواجب الديني إلا به فهو واجب، والذي يعصي في هذا مثل الذي يعصي في هذا، فحين نقول في النداء للصلاة: الله أكبر تذكَّر أن غيره كبيرٌ لا يُستهان به، لكن الذي يعطيك الطاقة أكبر من هذا الكبير، فلا تنشغل بالكبير عن الأكبر. والآن تتضح الحكمة من أن الله تعالى سمَّى نفسه الكبير لا الأكبر، فحين نقول: الله كبير هذا يعني أن ما عداه صغير، لكن لو قلنا أكبر فما عداه كبير. إذن: فحين تقف في أحكامه تعالى أمام (حسن) و (أحسن) فاتبع الأحسن مما أنزل: { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ .. } [الزمر: 55]. وقول الحق سبحانه وتعالى: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [الزمر: 55]. كلمة (بغتة) يعني فجأة، والعذاب لا يفاجىء إلا الغافلَ اللاهي الذي يعيش، وليس في باله هذه المسألة، وإلا لو كان في باله لاتقاه وتجنَّب أسبابه، وحين يأتي لا يكون بغتة. لكن كيف يفاجئه العذاب؟ نقول: ما الفارق بين أن يعيش الإنسانُ في حياته الدنيا وبين أنْ يلاقي العذاب؟ الفارق بينهما أن يموت، مجرد أن يموت وتخرج روحه ينتقل من سعة الدنيا إلى عذاب الآخرة إنْ كان من أهل العذاب والعياذ بالله. ومعلوم أن خروج الروح ليس له ميعاد ولا يعلمه أحد، لأن النفس ربما في أيِّ لحظة يدخل ولا يخرج، هذه المسألة ينبغي أن تكون على بال المؤمن لا يغفل عنها أبداً. ================== أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ ٥٦ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله، وأنْ تسلمَ له في أحكامه، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب. كلمة { يٰحَسْرَتَا } [الزمر: 56] هذا أسلوب نداء، فأيُّ شيء ينادي العبد؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول: يا حسرتي احضري تعالَيْ، فهذا أوانك، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق. ومعنى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [الزمر: 56] على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته، والتفريط هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض، كالتلميذ الذي يهمل دروسه ونراه يهتم مثلاً ليلة الامتحان. نقول له: يا بني (قبل الرِّماء تُملأ الكنائن) هذا مَثَلٌ يُضرب لمن لا يستعد للأمر قبل أوانه، فالصياد يخرج للصيد وقد أعدَّ له أدواته، حتى إذا ما وجد صيده بادره قبل أنْ يهرب، لأن الغزالة مثلاً لا تنتظر الصياد حتى يملأ كنانته أو يُعدّ سهمه. إذن: أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ .. } [الزمر: 54] { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ .. } [الزمر: 55] كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 56] فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر، ولا يرضى له ذلك، فحين يقول لنا: لا تقنطوا من رحمة الله، وأنيبوا، وأسلموا، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة. والحسرة أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر. وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56] يعني: الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله، فالذنب مُضَاعف، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36]. وكثيراً ما نسمع أهل الباطل يسخرون من أهل الحق: يقولون فلان هذا صُللي، يا عم خذنا على جناحك .. إلخ لكن يكفي أهل الإيمان أن الله هو الذي سيأخذ لهم حقهم في دار البقاء, فإنْ سخروا منكم في الدنيا الفانية فسوف تسخرون منهم في الباقية الدائمة، وإنْ ضحكوا منكم ضحكاً موقوتاً منقطعاً فسوف تضحكون منهم ضحكاً أزلياً باقياً. وفي هذه الآية ملحظ { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56] حين نتتبع كلمة النفس في القرآن الكرم نجد أنها تأتي دائما مؤنثة، كما في قوله تعالى: { { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53] وقوله: { { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7-8]. أما هنا فغلَّب التذكير، فقال حكاية عن النفس: { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [الزمر: 56] ولم يقل الساخرات، لماذا؟ قالوا: النفس مؤنثة، فإن أُريد بها الإنسان تُذكَّر. وبعد أن حذرنا الحق سبحانه من موقف التحسُّر والندامة في الآخرة يحذرنا من شيء آخر تتعرض له النفس حين ترى العذاب، فيقول سبحانه: { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي ... }. =============== أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ٥٧ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ٥٨. خواطر محمد متولي الشعراوي قوله تعالى: { أَوْ تَقُولَ } [الزمر: 57] أي: النفس { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] أي: في الدنيا { لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزمر: 57] وهذا عجيب، عجيبٌ أنْ تكذب حتى في الآخرة، لأن معنى { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] أنه سبحانه لم يهدك وهذا كذب. يقول الإنسان مدافعاً عن نفسه: إن عدم وجودي في صَفِّ المتقين أن الله لم يهدني، هذه كذبة لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك إلى طريق الخير وبيَّن لك الحلال والحرام، لكنك لم تتبع هَدْيه ولم تَسِر على منهجه { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } [الزمر: 58] يعني: عودة ورجعة إلى الدنيا مرة أخرى. كما قال سبحانه في موضع آخر: { { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } [المؤمنون: 99] هذه كلها أماني كاذبة فلا تُصدِّقوهم، فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه وكما كذبوا في الأولى { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] كذبوا في { فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 58]. والكذب قد يُتصوَّر من الإنسان في الدنيا، لكن عجيبٌ أنْ يكذب في الآخرة، وهو بين يدَيْ ربه عز وجل، لذلك سيقول الحق بعدها: { { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60]. والظاهر أن الكذب (علق) معهم وتعوَّدوا عليه حتى أخذوه معهم في الآخرة. ثم يردُّ الحق على هذا الكذب فيقول سبحانه: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ ... }. ================== أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ٥٧ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ٥٨ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي قوله تعالى: { أَوْ تَقُولَ } [الزمر: 57] أي: النفس { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] أي: في الدنيا { لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزمر: 57] وهذا عجيب، عجيبٌ أنْ تكذب حتى في الآخرة، لأن معنى { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] أنه سبحانه لم يهدك وهذا كذب. يقول الإنسان مدافعاً عن نفسه: إن عدم وجودي في صَفِّ المتقين أن الله لم يهدني، هذه كذبة لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك إلى طريق الخير وبيَّن لك الحلال والحرام، لكنك لم تتبع هَدْيه ولم تَسِر على منهجه { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } [الزمر: 58] يعني: عودة ورجعة إلى الدنيا مرة أخرى. كما قال سبحانه في موضع آخر: { { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } [المؤمنون: 99] هذه كلها أماني كاذبة فلا تُصدِّقوهم، فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه وكما كذبوا في الأولى { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] كذبوا في { فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 58]. والكذب قد يُتصوَّر من الإنسان في الدنيا، لكن عجيبٌ أنْ يكذب في الآخرة، وهو بين يدَيْ ربه عز وجل، لذلك سيقول الحق بعدها: { { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60]. والظاهر أن الكذب (علق) معهم وتعوَّدوا عليه حتى أخذوه معهم في الآخرة. ثم يردُّ الحق على هذا الكذب فيقول سبحانه: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ ... }. ================ بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ٥٩ - خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (بَلَى) حرف جواب لا يأتي إلا بعد نفي، فيفيد إثباتَ المعنى المنفي قبله، كما في قوله تعالى: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] فيأتي الجواب { { قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] يعني: لا، أنت ربنا، والقاعدة أن نفي النفي إثبات، ومثله: { { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } [التين: 8] على مَنْ يسمعها أن يقول: بلى يا رب، يعني: لا .. أنت أحكم الحاكمين. إذن: فأين النفي السابق على قوله هنا { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي } [الزمر: 59] قالوا: كَوْنه نفي الهداية في قوله: { { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] لذلك جاء الجواب (بلى) يعني: لا بل هديناك { قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا } [الزمر: 59] والآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الداعي إلى التأمل والتفكر للعقل وللبصيرة. والآيات كما ذكرنا على ثلاثة أنواع: آيات كونية تدل على قدرة المكوِّن سبحانه كقوله تعالى: { { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [فصلت: 37]. { { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } [الروم: 23]. وهذه الآيات الكونية التي تلفتنا إلى المكوِّن الأعلى هي الوسيلة الأولى للإيمان بالله، لذلك كلنا استنبط العلماء في الكون شيئاً جديداً أو اكتشفوا جديداً وجدنا له أصلاً في كتاب الله، قالها الحق سبحانه منذ أربعة عشر قرناً من الزمان. هذه الآيات الكونية يُظهرها الحق سبحانه حتى على أيدي الكافرين به، لذلك حذَّرنا أن يتدخل علماء الشرع والفقهاء في علوم الدنيا والكونيات؛ لأن الكونيات لها علماء اختصُّوا بها، وسوف يخدم هؤلاء الدين وقضية الإيمان بالله، وسيُظهرون لكم الأسانيد والأدلة على وجوب الإيمان بالله صاحب هذا الكون ومُكوِّنه. إذن: فهؤلاء العلماء يتعبون ويفكرون ويبحثون في الكونيات لخدمة المؤمن بالله وخدمة الدين، فهم - وإن كانوا كافرين بالله - جند من جنود الحق، وصدق الله تعالى: { { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53]. والعجيب أنهم سيُحرمون الأجر على هذا الجهد المبذول، لأنهم فعلوا ذلك وتوصَّلوا إلى ما توصَّلوا إليه، وليس في بالهم الحق سبحانه، إنما في بالهم خدمة الإنسانية، فليأخذوا أجورهم من الإنسانية، وفعلاً كرَّمتهم الإنسانية وصنعت لهم التماثيل، واحتفلت بهم؛ لذلك ليس لهم نصيب في الآخرة. وينطبق عليهم قوله تعالى: { { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]. وقوله: { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39]. يعني: فوجئ بأن للكون إلهاً خالقاً، فوجئ بالحساب والجزاء، وهذه أمور لم تكُنْ على باله في الدنيا. النوع الثاني من الآيات هي المعجزات التي تصاحب الرسالات، لتدلَّ على صدق الرسول في البلاغ عن ربه، ومنها قوله تعالى: { { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ .. } [الإسراء: 101]. أما النوع الأخير فهي الآيات القرآنية التي تحمل أحكام الدين، والتي قال الله فيها هنا: { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر: 59]. وقوله تعالى: { وَٱسْتَكْبَرْتَ } [الزمر: 59] استكبر يعني: طلب أنْ يكون كبيراً، يعني: لم يتكبر فحسب، إنما طلب ذلك وسعى إليه لكنه لم يُجِب لذلك؛ لأن الذي يستكبر لا بدَّ أن يكون في غنىً عمَّنْ استكبر عليه، وإذا كنتَ في مُلْك الله وتحت سلطانه وتأكل من رزقه وتعيش في خيره، فكيف تتكبر عليه؟ ثم إن المتكبر ينبغي أن يتكبر بشيء ذاتي فيه لا يسلب منه؛ لذلك الذين يتكبرون في الدنيا إنما ينازعون الله صفته؛ لأنهم يتكبّرون بلا رصيد، ومَنْ من الخلق عنده ذاتية لا تُسلب منه، لذلك نرى مَنْ يتكبر بعزٍّ يُذله الله، ومَنْ يتكبر بغنىً يُفقره الله، ومَنْ يتكبر بصحته وعافيته يُمرضه الله. إذن: التكبّر الحق أنْ تتكبر بشيء تملكه لا يُسلب منك، وشرُّ المتكبرين مَنْ يتكبر على ربه وخالقه والقادر على أن يسلب منه كل شيء، أما الذي يتكبر على الخلق فغافلٌ عن عظمة ربه وكبريائه؛ لأنه لو عرف عظمة ربه وكبرياءه لاستحى أن يتكبر وأنْ ينازع الله صفة من صفاته. ============== وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ٦٠ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ } [الزمر: 60] أي: في قولهم: { { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } [الزمر: 57] وفي غيرها؛ لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك حين بعث لك الرسل مُؤيَّدةً بالمعجزات، وأنزل لك الكتب وبيَّن لك الحلال والحرام، وكذبوا في غير ذلك كالذين قالوا: { { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181] وكالذين قالوا: { { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64] ومثلهم الذين ادعوا أن مع الله آلهة أخرى. كل هؤلاء كذبوا على الله؛ لذلك يأتون يوم القيامة { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [الزمر: 60] نعم مسودة لأنهم الآن يواجهون الحق الذي كذبوا عليه، فلابدَّ أنْ تكون وجوههم مُسْودة عليها غبرة ترهقها قترة مما فعلوه. وهذا ليس ذماً للسواد في ذاته، لأن السواد خَلْق من خَلْق الله لا يُذَمُّ في ذاته، فقد ترى الرجل أبيض اللون، لكن تعلوه قتامة وقتر، فتجد وجهه مظلماً والعياذ بالله، وهذا أثر المعاصي والذنوب على الوجه في الدنيا قبل الآخرة. وترى العبد الزنجي كأن وجهه زبيبة، لكن يعلوه ضياء وإِشراق، وتجد على وجهه علامات الصلاح، وكأن وجهه يتلألأ نوراً ولا تزهد أبداً في النظر إليه؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [عبس: 38-42]. إذن: الوصف لا يُمدح ولا يُذم لذاته، والسواد والبياض هنا ليس هو السواد كما نعرفه في الدنيا فهي عملية نسبية، وكنت أرى بعض الصالحين وكأن في وجهه كشافاً يُضيء، وتبدو الفرحة على وجهه وكأن نورَ اليقين وبشاشة الإيمان تعدَّتْ داخله ونضحَتْ على وجهه نوراً ونضارة، وهو صاحب بَشْرة سوداء مثل الأبنوس. ومثل هذا نجده في قوله تعالى: { { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 19] فهل يُذمّ صوت الحمير إنْ صدر منها؟ لا لأن الخالق خلقه على هذه الصورة، وعُلو صوت الحمار لحكمة لأنه قد يختفي مثلاً وراء جبل أو تَلٍّ عالٍ، فلا يهتدي إليه صاحبه إلا من خلال صوته، لكن يُذمُّ عُلو الصوت في الإنسان، فهو أنكر الأصوات إنْ صدر منه ما يشبه صوت الحمار. كذلك في: { { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5] فليس هذا ذماً للحمار، لأن الحمار في الحمل يؤدي مهمة وهي الحمل فحسْب، فهو يحمل حمله دون تبرُّم ودون اعتراض، لكن يُذمُّ الإنسان إنْ تشبَّه بالحمار فارتضى لنفسه أنْ يحمل فقط دون أنْ يعي ما يحمله، ودون أنْ يفهم، وأنْ يُطبق ما علم. وقوله: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر: 60] هذا استفهام منفي نجيب عليه فنقول: بلى يا رب، يعني: لا بل لهم مثوى في جهنم، والمعنى: ماذا يظنون؟ أيظنون أنه لا محلَّ لهم فيها ولا مكان، إن مكانهم جاهز ومُعَدٌّ بأسمائهم ينتظرهم ويشتاق إليهم، فليس في جهنم أزمة مساكن كما قلنا. فالحق سبحانه خلق أزلاً الخلق، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في الجنة على اعتبار أن الخلق جميعاً سيؤمنون بالله، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في النار على اعتبار أن الخلْق سيكفرون، فإذا ما دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهلُ النارِ النارَ وُزِّعَتْ أماكن أهل النار المعدة لهم لو آمنوا على أهل الجنة، كما قال سبحانه: { { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف: 72]. ومعنى (مَثْوَى) أي: مكان إيواء وإقامة دائمة { لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر: 60]. =================== وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦١ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هذا هو المقابل، فالكافرون مثواهم وإقامتهم في جهنم، أما المؤمنون فينجيهم ربهم { بِمَفَازَتِهِمْ } [الزمر: 61] أي: بفوزهم ونَيْلهم لمرادهم. ونعيم الآخرة يُنال بشكلين: إما أنْ يدخل المؤمنُ الجنةَ بدايةَ، وإما أنْ يكون من أهل النار لكن تتداركه رحمة الله فيُزحزح عنها إلى الجنة. كما قال سبحانه: { { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران: 185] نعم فاز الفوز الأكبر؛ لذلك يسمون الصحارى مفازةً مع أنها مُهلكة ينقطع فيها السائر، لكن سمَّوْهَا مفازة تيمناً أن ينجو سالكها، وكما يسمون اللديغ من الثعبان أو الحية يسمونه السليم، أملاً في أنْ يَسْلم من لدغتها. وإذا ما نجاهم الله وكتب لهم الفوز فقد سَلِموا من مجرد مَسِّ العذاب { لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الزمر: 61] لأن كل المشاهد التي يروْنها تفرحهم، ولا شيء يُحزنهم أبداً، كما قال سبحانه في موضع آخر: { { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103]. ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ٦٢ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي بعد أن ذكر الحق سبحانه وعده ووعيده وبيَّن عاقبة الكافرين وعاقبة المؤمنين عاد إلى قضية عقدية أخرى { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] وكأنه يقول: ما الذي صرفهم عن أنْ يؤمنوا بالله الإله الحق، وهو سبحانه خالق كل شيء؟ بعضهم أخذ هذه الآية { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] ونسب كل الأفعال إلى الله، فالله في نظرهم خالق كل شيء، خالق الإيمان وخالق الكفر، وخالق الطاعة وخالق المعصية، وبالتالي قالوا: فلم يعذب صاحبها؟ نقول: هناك مَنْ يتعصب لقدرة الحق فيقول: كل شيء بقدرته تعالى، وهناك مَنْ يتعصب للعدالة فيقول: إن الإنسان هو الذي يفعل وهو الذي يسعى لنفسه، لذلك يُثاب على الطاعة ويُعاقب على المعصية، وهذا خلاف ما كان ينبغي أنْ يُوجد بين علماء؛ لأن الطاعة أو المعصية فعلٌ، والفعل ما هو؟ الفعل أداء جارحة من الجسم لمهمتها. فالعين ترى، لكن الخالق سبحانه وضع للرؤية قانوناً، وجعل لها حدوداً، فالعين ترى ما أُحلَّ لها وتغضّ عما حُرِّم عليها، كذلك الأذن واليد والرِّجْل واللسان .. إلخ فإن وافقتَ في الفعل أمر الشرع فهو طاعة، وإنْ خالفتَ أمر الشرع فهي معصية. فمثلاً الرجل الذي يرفع يده ويضرب غيره، بالله هل هو الذي جعل جارحته تفعل أم أنه وجَّه الجارحة لما تصلح له؟ إنه مجرد مُوجِّه للجارحة، وإلا فهو لم يخلق فيها الفعل، بدليل أنه لا يعرف العضلات التي تحركتْ فيه، والأعصاب التي شاركتْ في هذه الضربة. إذن: نقول إن الفعل شيء، وتوجيه الجارحة إلى الفعل شيء آخر، فالفعل كله مخلوق لله، فهو سبحانه الذي أقدر الأيدي أنْ تضرب، وهو الذي أقدرها أنْ تمتد بالخير للآخرين، الخالق سبحانه هو الذي أقدر لسان المؤمن أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأقدر لسان الكافر أن ينطق بكلمة الكفر والعياذ بالله، العين في استطاعتك أنْ تنظر بها إلى الحلال، وفي استطاعتك أن تنظر بها إلى الحرام. إذن: أقدر الله كلَّ جارحة على المهمة التي تؤديها، فإنْ كانت هذه المهمة موافقة للشرع فهي طاعة، وإنْ كانت غير موافقة له فهي معصية، وعليه نقول: إن الله تعالى هو خالق الفعل على الحقيقة. إذن: ما فعل العبد في المعصية حتى يُعاقب عليها؟ وما فِعْله في الطاعة حتى يُثابَ عليها؟ إن فعل العبد ودوره هنا هو توجيه الطاقة التي خلقها الله فيه، هذه الطاقة التي جعلها الله صالحة لأنْ تفعل الشيء وضده، فالقدرة على الفعل ليستْ من عندك، إنما من عند الله، وعليك أنت توجيه الطاقة الفاعلة. فمَنْ نظر إلى الفعل فالفعل كله لله { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] ومَنْ نظر إلى التوجيه والاختيار فهو للعبد؛ لذلك نقول: إن العاصي لم يعْصِ غصْباً عن الله، والكافر لم يكفر بعيداً عن علم الله وإرادته، لأن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس جميعاً أمة واحدة على الطاعة والإيمان، لكن ترك لهم الاختيار وتوجيه الأفعال ليرى سبحانه - وهو أعلم بعباده - مَنْ يأتيه طواعية وباختياره. لذلك تأمل قوله سبحانه: { { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. فمن الخطأ أن نقول: إن الإنسان وحده هو المخيَّر، إنما الكون كله مُخيَّر أمام الحق سبحانه، لكن الفرق بين اختيار السماوات والأرض واختيار الإنسان أن السماوات والأرض لما خُيِّرت اختارت أن تتنازل عن مرادها لمراد خالقها سبحانه، فهي اختارتْ بالفعل، اختارت ألاَّ تكون مختارة، وأن تكون مقهورة لمراد ربها، أما الإنسان فقَبِلَ الأمانة واختار أن يكون مختاراً أمام خيارات متعددة. وسبق أن أوضحنا الفرق بين تحمُّل الأمانة وأداء الأمانة، وأن العبد قد يضمن نفسه عند التحمل، لكن لا يضمن نفسه عند الأداء، فهي إذن أمر ثقيل، لذلك وصف الحق سبحانه الإنسان في تحمله وتعرُّضه للأمانة بأنه ظلوم وجهول. إذن: إياك أن تدخل في متاهة فتفهم قوله تعالى: { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] على غير وجهه، فتقول: خالق كفر الكافر وعصيان العاصي، فلماذا يعذبهم؟ لأن الكافر هو الذي اختار الكفر ووجَّه طاقة الله لغير ما أراد الله، والعاصي كذلك وجَّه طاقة الله إلى خلاف ما أمر به الله. وهناك مَنْ يقول في { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] أن الكلية هنا إضافية، كما في قوله تعالى في قصة بلقيس: { { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] يعني: لم تُؤْتَ بكل شيء فمن هنا للتبعيض، والمعنى: أنهم يريدون أنْ يُخرِجوا فعل العباد من هذه المسألة، وهذا لا يجوز. وقوله تعالى: { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] خبر أخبر به الحق سبحانه يحتمل ويحتمل، لكن أدلة صدْق هذا الخبر نشأتْ حتى من الكافرين بالله، كما قال سبحانه: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87]. وقال سبحانه وتعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25]. إذن: فالظرف والمكان والمكين من خَلْق الله، والله قد أخبر هذا الخبر وبلَّغه رسول الله، وفي القوم مَنْ جحدوا الله وأنكروه وادَّعوْا له شركاء، ومع ذلك لم ينقض أحدٌ هذه الدعوى ولم يقُلْ أحد: إني خالق هذا الكون. والدعوى تَسْلم لصاحبها ما لم يقُمْ لها معارض، ومعلوم أن الإنسان يدَّعي ما ليس له، فلو كان له شيء من الخَلْق ما سكت عنه. ثم إن الإنسان طرأ على هذا الكون، فوجده كما هو الآن بسمائه وأرضه، فكيف يدَّعي أنه خالقه وهو أقدم منه، بل وخَلْقه أعظم من خلقه { { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 57]. فإذا ما جاءنا رسول نعلم صدقه يخبرنا بأن لهذا الكون خالقاً صفته كذا وكذا كان يجب علينا أنْ نرهف له الآذان لنسمع حَلَّ هذا اللغز، ومثَّلْنَا لذلك برجل انقطع في صحراء مُهلكة حتى شارف على الموت وفجأة وجد مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، بالله ماذا يفعل قبل أن تمتدَّ يده إلى الطعام؟ إنه لا بدَّ أنْ يسأل نفسه: من أين جاءت هذه المائدة؟ إذن: { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] خبر عليه دليل من الوجود، ودليل من المعاندين للخالق سبحانه، والحقيقة أنهم لا يعاندون الحقَّ من أجل مسألة الخلق، إنما يعاندونه اعتراضاً على شرعه وأحكامه، لأن هذه الأحكام ستقيد نفوسهم فلا تنطلق في شهواتها، والإيمان له تبعات ووراءه حساب وعقاب وجزاء، وإلا لماذا عبدوا الأصنام؟ عبدوها لأنها آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليف، فهي تُرضي فطرة التديُّن عندهم بأن يكون له معبود يعبده، وما أجملَ أن يكون هذا المعبود لا أمرَ له ولا نهيَ ولا تكاليف. إذن: قولهم: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] لفظ العبادة هنا لفظ خاطئ، لأن معنى العبادة: طاعة العابد لأمر معبوده ونَهْيه، وهذه الأصنام ليس لها أمر ولا نهي. وقوله سبحانه: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر: 62] الوكيل: هو الذي تُوكله أنت في العمل الذي لا تقدر عليه كما في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - لما قال له قومه: { { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] وهم ساعتها على حقٍّ لأن البحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، فكل الدلائل تؤيد قولهم { { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61]. لكن لموسى عليه السلام نظرة أخرى وشأن آخر، إنه موصولٌ بربه معتمد عليه ومتوكل عليه، يعلم علم اليقين أن الله وكيله فيما يعجز هو عنه؛ لذلك ردَّ عليهم وقال (كلا) لم يقلها من عندياته، إنما قالها برصيد من إيمانه بربه وثقته بنصره { { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62]. ويقول تعالى في التوكل عليه: { { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ .. } [النمل: 62]. وقال سبحانه: { { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 67] فالله وكيل لعباده جميعاً حتى الكافر منهم؛ لذلك نرى مَنْ كفر بالله حين لا تسعفه أسبابه أو تضيق عليه أموره، يقول: يا رب لأنه لا يخدع نفسه ولا يغش نفسه. فكما صدق الحق سبحانه في الإخبار بأنه { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] صدق في الإخبار بأنه { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر: 62] ألا ترى الزرع مثلاً يزرعه الفلاح ويرعاه، فتراه نَضِراً جميلاً لكن قبل الحصاد تجتاحه جائحة أو تحل به آفة فتهلكه، بالله من عند مَنْ هذه الآفة؟ من عند خصومك وأعدائك؟! لا .. بل هي من عند الله. وما دام أن الله تعالى هو خالق كل شيء وهو وكيل على كل شيء، فلا بدَّ أن يكون له مُلْك السماوات والأرض؛ لذلك قال بعدها: { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ... }. ==================== لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ٦٣ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي القرآن عربي نزل بلغات العرب المتداولة ساعة نزوله، ومع ذلك ففي القرآن كلماتٌ وألفاظ فارسية أو حبشية أو رومية وهذه الألفاظ لا تخرجه عن كونه عربياً، لأنها دخلتْ لغة العرب قبل نزول القرآن واستعملها العربي وعرفها، وصارت جزءاً من لغته. ومن هذه الكلمات (مقاليد) فلله { مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الزمر: 63] وهي جمع مِقلاد على وزن مفتاح، أو جمع مقليد، وفي لغة أخرى يقولون أقاليد جمع إقليد. ومعناها التملُّك والتصرف والحفظ والصيانة، فلله تعالى مُلْك السماوات والأرض، وله مُطلق التصرف في أمورهما، وله سبحانه حفظهما وتدبير شئونهما. وهذه هي القيومية التي لله تعالى ليظل كل شيء من خَلْقه في مهمته، فالحق سبحانه خلق من عدم، وأمدَّ من عُدم، وشرع الشرائع، وسَنَّ القوانين، ثم لم يترك الخَلْق هكذا يسير بهذه القوانين كما يدَّعي البعض، إنما هو سبحانه قائم على خلقه قيُّوم عليهم، لا يغفل عنهم لحظة واحدة، واقرأ: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ .. } [فاطر: 41]. ولو أن الكون يسير بالقوانين التي خلقها الله فيه - كما يقول الفلاسفة - لكانت الأمور تستقر على شيء واحد لا يتغير، بمعنى أنْ يظلَّ الصحيحُ صحيحاً، ويظلَّ العزيز عزيزاً، والغنيُّ غنياً .. إلخ لكن الأمر غير ذلك، لأن لله في خَلْقه قيومية وتصرُّفاً. وقد سأل سيدنا عثمان - رضي الله عنه - سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقاليد السماوات والأرض، فقال: "يا ابن عفان، ما سألني أحدٌ قبلك عنها، مقاليد السماوات والأرض هي: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله العظيم، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يُحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. تلك مقاليد السماوات والأرض" . هكذا فسَّر رسول الله كلمة مقاليد السماوات والأرض بأنها كلمات ذِكْر، كأن الكون كله قائم بهذه الكلمات العقائدية. فكلمة لا إله إلا الله تعني أن الله واحدٌ لا شريكَ له، فإذا قضى أمراً لا يعارضه معارضٌ، ولا يعترض عليه معترض، إنْ أعطى لا أحدَ يمنع عطاءه، وإنْ منع فلا مُعطي لما منع؛ لذلك يقول سبحانه: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } [الحج: 73] بل ما هو أيسر من عملية الخَلْق { { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [الحج: 73] وهل تستطيع أنْ تسترد من الذبابة ما أخذته من العسل مثلاً إنْ وقعتْ عليه { { ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]. لذلك هذه الكلمة (لا إله إلا الله) قالها الحق سبحانه أولاً وشهد بها لنفسه سبحانه شهادةَ الذات للذات، وهذه الشهادة تعني أنه لا يتأبى على الله شيء من الخَلْق أبداً؛ لذلك يقول للشيء: كن فيكون. ثم شهدتْ بذلك الملائكة شهادةَ المشاهدة، ثم شهد بها أولو العلم شهادة استدلال، قال تعالى: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18] فكلمة لا إله إلا الله مِقلاد من المقاليد التي لله تعالى. كذلك كلمة (الله أكبر) من مقاليد السماوات والأرض، وسبق أنْ بينَّا أن كلمة الله أكبر هي شعارنا في النداء للصلاة، مع أن أكبر ليس من أسمائه تعالى إنما من أسمائه تعالى الكبير، فلماذا لم يستخدم الاسم واستخدم في النداء للصلاة الصفة (أكبر). قلنا: إنها أفعل تفضيل من كبير؛ لأن ربك حين يستدعيك للصلاة يُخرجك من عمل الدنيا، هذا العمل ليس أمراً هيِّناً ولا تافهاً إنما هو عظيم وكبير، لأن به تقوم أمور الدنيا، وبه تستعين على أمور الدين، فهو وإن كان كبيراً فالله أكبر، فاترك العمل إلى الصلاة، أما الاسم الكبير لأن ما سواه صغير. وكلمة (سبحان والله وبحمده) من مقاليد السماوات والأرض، لأنك ستتعرض لأمور هي فوق إدراكك ولا يقدر عليها إلا الله، فإياك أنْ تقف أمامها لتقول: كيف؟ إنما حين يُنسب الفعل إلى الله فقُلْ سبحان الله، وهذه المسألة أوضحناها في قصة الإسراء؛ لذلك بدأت بهذه الكلمة { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [الإسراء: 1]. ولا غرابة في ذلك، لأن الفعل نُسب إلى الله ولم يقُل محمد صلى الله عليه وسلم: "سريتُ إنما قال: أُسْرِي بي" ومعلوم أن الفعل يتناسب وفاعله قوةً وزمناً، فإذا كان الفاعل هو الله فلا زمنَ يُذكر. ومثَّلنا لذلك قلنا: لو أنك تريد السفر إلى الإسكندرية مثلاً تركب حماراً أو جواداً أو سيارة أو طائرة أو صاروخاً، هل سيكون الزمنُ نفس الزمن؟ لا لأن الزمن يتناسب مع قوة الوسيلة، فكلما زادتْ القوة قلَّ الزمن، فإذا كان الفاعل في الإسراء هو قوة القوى وهو الله، فلا شكَّ أن الفعل لا يحتاج إلى زمن. حين تتأمل الدم يجري في الشرايين لا بدَّ أنْ يكون على درجة معينة من السيولة ليجري، فإنْ قلَّتْ هذه السيولة تجلَّط وتجمد في مجاريه، وقد تسد الشرايين فيموت الإنسان، لكن إذا سال الدمُ خارجَ الجسم يتجلَّط، أما في العروق فيظل على سيولته. تأمل حرارة الجسم تجد الحرارة الطبيعية 37 ْ سواء أكنتَ تعيش في بلاد الإسكيمو أو بجوار خط الاستواء حرارتك ثابتة عند 37 ْ، ومع ذلك ففي جسم الإنسان أعضاء تختلف في حرارتها وهي في الجسم الواحد، فالعين مثلاً حرارتها الطبيعية تسع درجات، والكبد أربعون درجة، ولو طغتْ حرارة الجسم على حرارة العين لفقد الإنسان بصره. ومن المعروف أن من خصائص الحرارة أو البرودة خاصية الاستطراق، فكيف لا تُستطرق الحرارة والبرودة داخلَ الجسم الإنساني؟ هذه كلها أمور يجب أن نقول فيها: سبحان الله صاحب هذه القدرة ومُبدعها. إذن: قُلْ دائماً سبحان الله في كل أمر مُستغرب؛ لذلك علَّمنا القرآن هذه الكلمة في كل فعل لا يقدر عليه إلا الله. قال سبحانه: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ } [الإسراء: 1] وقال: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36]. وكلمة (سبحان الله) ينبغي أنْ تُقرن بحمده سبحانه، فكأنك تحمد الله أنه مُنزَّه عن مماثلة الخَلْق أو مشابهة الخَلْق، الحمد لله أنه لا مثيل له ولا نظيرَ له ولا نِدَّ له، لأن هذا التنزيه تعود ثماره عليك أنت أيها المؤمن. وكلمة (أستغفر الله العظيم) من مقاليد السماوات والأرض، فإنْ غفلتَ عني فمن مقاليدي أنْ أغفر لك إن استغفرت حتى لا أحرمك من التوبة والإنابة إليَّ ومغفرة الدنيا مَحْوٌ للذنب، فهي مظهر من مظاهر رحمته تعالى بنا؛ لأن العبد إن أغلقنا في وجهه باب التوبة استشرى في العصيان، وتمادى في الاعتداء على الآخرين. إذن: فمشروعية التوبة رحمتْ البشر من شرور البشر. وكلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" هي أيضاً من مقاليد السماوات والأرض، فإذا أقبلت على شيء: فإياك أن تظن أنك تقبل عليه بحولك وقوتك، إنما لا حولَ ولا قوةَ لك إلا بالله، لأنه سبحانه هو الذي يستطيع أن يسلب منك الحول، وأن يسلب منك القوة. أما تفكرتَ في يدك .. كيف تحركها كيفما تشاء في يُسْر وسلاسة، وهي تنقاد لك وتطاوعك، وأنت لا تعرف حتى العضلات والأعصاب التي تشارك في هذه الحركة ولا تدري بها؟ إنها قدرة الله فيك، فإذا أراد سبحانه أن يسلب منك هذه القوة منع السيال الكهربي القادم من المخ إلى هذا العضو فتحاول رفعه فلا تستطيع. إذن: اجعل هذه المسألة دائماً في بالك كلما أقبلتَ على عمل، واعلم أنه لا يتم لك بقوتك إنما بقوة الله. وكلمة "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" من مقاليد السماوات والأرض، فهو سبحانه الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، كما قلنا في دعاء رمضان: يا أول لا قبل آخر، ويا آخر لا بعد أول، لكن ذاك في ذاك فقِفْ أيها العقل عند منتهاك. ومعنى: الظاهر أي الظاهر في مُلْك الله مما يقع تحت إدراك البصر، والباطن: أي الخفيّ في ملكوت الله الذي لا تراه، فلله تعالى مُلْك ظاهر وملكوت غير ظاهر لا يُطْلع عليه إلا مَنْ شاء من عباده في الوقت الذي يريده سبحانه. وكلمة "بيده الخير" هي أيضاً من المقاليد، وبعض العلماء قالوا: بيده الخير والشر ونظروا إلى قوله تعالى: { { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 26]. فلما جمعتْ الآية بين الشيء ونقيضه جرَّأتهم أنْ يقولوا بيده الخير والشر وهذا لا يجوز، نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بيده الخير" تأدباً مع الله ولم ينسب الشر لله، ونحن كذلك لا ننسب الشر إلى الله تعالى، لذلك أنا منذ عام 1928 وأنا نعترض على قولنا في الدعاء: "واكفنا شر ما قضيت" وقلت: لابد أنْ يُعدِّل هذا الدعاء، ثم هدانا الحق سبحانه لحلها فقلنا: إن شر ما قضيتَ ألاَّ ترضى بالقضاء. ولو تأملنا لفظ "بيده الخير" وفي الآية { { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } [آل عمران: 26] نجد أن الخير هنا مطلق بمعنى أن كل أفعال الحق سبحانه خير، ولا يأتي الشر إلا من الخَلْق، واقرأ: { { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء: 79]. فإنْ قلتَ: كيف نجمع بين مثل هذه الآية وبَيْن قوله تعالى: { { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [النساء: 78] نقول: سبق أن أوضحنا حلَّ هذه الفزورة وقلنا: نعم كُلٌّ من عند الله بمعنى أن الله تعالى هو خالق الفعل بمعنى خالق القوة والطاقة التي تفعل، لكن أنت توجه هذه الطاقة إما إلى الخير وإما إلى الشر، وعليه نقول: الخير من الله والشر منّا نحن. وقوله: "يحيي ويميت" أيضاً من المقاليد والموت والحياة هما أول ظاهرة في وجود الإنسان، والخالق سبحانه خلق الحياة وخلق الموت، ولما حدثنا عن ذلك قال تعالى: { { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [الملك: 2]. فذكر الموت أولاً حتى لا نستقبل الحياة بغرور البقاء، بل نستقبلها وفي الأذهان أننا سننتهي إلى الموت فنعمل لهذه النهاية { { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم: 50] يعني: يفعل ما تعجز أنت عن فعله، وله سبحانه القدرة المطلقة فلا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه شيء، لذلك حين تطلب من ربك الرزق اطلب أنْ يرزقك من حيث لا تحتسب، لأن لله تعالى أسباباً للرزق لا تعرفها أنت، لذلك قال أهل المعرفة: الأسباب ستر ليد الله في العطاء. إذن: فقوله تعالى { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الزمر: 63] أي: بقدرته الخالقة وبقيوميته الدائمة { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ } [الزمر: 63] سواء أكانت آيات كونية أو معجزات رسل، أو آيات الكتاب حاملة الأحكام، ومعنى كفروا بها أي: استعلوا على تنفيذها { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الزمر: 63] يعني: صفقتهم خاسرة، وتجارتهم بائرة، لأنهم آثروا الشهوة العاجلة على النعيم الدائم الذي لا يفوتك ولا تفوته. ثم يقول الحق سبحانه: { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ ... }. ======== قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ ٦٤ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي تذكرون ما كان من أمر كفار مكة لما عاندوا رسول الله وصادموه وتأبَّوْا على دين الله، ومع ذلك انتشر الإسلام وزاد أتباعه، فحاول الكفار مهادنة رسول الله فقالوا له: يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فردَّ الله عليهم (قُلْ) يا محمد رداً عليهم { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] والاستفهام هنا للتعجب والإنكار، أتريدون مني وأنا رسول الله وأمينه على وَحْيه ورسالته أنْ أعبد غيره، وكلمة (تأمرونِّي) ورد فيها عدة قراءات: تأمرونِّي بتشديد النون وتأمرونني، والنون هنا للوقاية يعني: تقي الفعل من الكسر، وتأمروني بياء واحدة. وكلمة (أعبدُ) أصلها أن أعبد فلما حُذِفَتْ (أنْ) جاء الفعل على طبيعته بالرفع، وهذه الكلمة دلَّتْ على أن عبادة الأصنام أو عبادة غير الله باطلة أصلاً في العقل، لأن العبادة كما ذكرنا طاعة العابد للمعبود، والأصنام لا منهجَ لها نطيعها أو نعصيها. لذلك وصف عابديها بالجهل { أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] ولابد أن نفرق بين الجاهل والأمي: الأميّ أفضل من الجاهل، لأنه خالي الذِّهْن ليست عنده قضية يتمسك بها، لذلك يسهل عليك إقناعه، أما الجاهل فليس خالي الذهن بل لديه قضية خاطئة مخالفة للواقع وهو متمسك بها؛ لذلك يحتاج إلى جهد مضاعف، أولاً لتُخرج من عنده القضية الخاطئة، ثم تُدخِل عليه القضية الصحيحة. لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: { { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب: 4]. وسبق أنْ تكلمنا في مسألة الحيز وأن الحيز الواحد لا يتسع إلا لشيء واحد، لذلك نلاحظ مثلاً حين نملأ القُلَّة بالماء تخرج فقاعات الهواء أولاً قبل أن يدخل الماء، كذلك القضية الفاسدة في قلب الجاهل لا بدَّ أنْ تخرج أولاً حتى يقبل الصواب، وكلما وافقتْ القضية هواه كان خروجها أصعب، ومن هنا كان الجاهل أشقَّ على المعلم من الأمي. ومسألة الحيز هذه قضية فطرية ينتهي إليها الفيلسوف والطفل وراعي الشاة، ألا ترى الطفل الصغير يجلس مثلاً بجوار والده فإنْ أراد أخوه أنْ يجلس مكانه قام له وأجلسه، لماذا؟ لأنه يعرف هذه القضية، وأن المكان الواحد لا يتسع إلا لشيء واحد. إذن: وصف الكفار بالجهل لأنهم مؤمنون بقضية خاطئة متمسكون بها، ومن الصعب زحزحتهم عنها وهي قضية الشرك بالله، وأيُّ جهل بعد عبادة الأصنام؟ ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ... }. ==================== وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ٦٥ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هذه الآية تبين علة الاستفهام والتعجب في: { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] يعني: كيف تأمرونني بذلك، وأنا الرسول المؤتَمن على الدين والوحي، وقد أوحى الله إليَّ وإلى الذين من قبلي { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65] هذه علَّة تجهيلهم في قولهم لرسول الله: نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة. ومعنى { وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الزمر: 65] أي: الرسل السابقين، لأن كل واحد منهم قُوبل بهذه القضية، لكن هل يُعقل من الرسل أنْ يشركوا بالله؟ قالوا: هذا فَرْض، يعني: لو فرضنا ذلك فسيكون هذا جزاءهم، فهي أشبه بقولهم: (إياك أعني واسمعي يا جارة) فإذا كان هذا الوعيد مُوجَّهاً إلى الرسل فهو مُوجَّه من باب أَوْلَى إلى العامة. قال بعض العلماء في هذه الآية { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الزمر: 65] أنت تتكلم هنا عن عصمة الرسل، لكن هذه العصمة بقدر الله، وقدر الله لا يملكه أحد، ألم يَقُلْ رسولٌ من الرسل: { { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً .. } [الأعراف: 89]. فالمعنى أنه أعطى للقدرة طلاقة أنْ تفعل ما تريده، وإنْ كان هذا لا يحدث. ومضمون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] لكن الآية جعلت الموحَى إليهم في جانب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب، فخصَّ اللهُ رسوله بالخطاب في { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } [الزمر: 65] والخطاب لرسول الله دلَّ على أنه مُوجَّه أيضاً إلى الرسل السابقين. ومعنى { لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] يفسد ويضيع بلا جدوى { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65] نعرف في التجارة أن الخسارة هي أنْ يقلَّ رأس المال ذاته، فالتاجر حين لا يربح زيادة على رأس المال لا يُسمَّى خاسراً ما دام سَلِم له رأس ماله. كذلك المؤمن، رأس ماله في تجارته مع الله إيمانه وعمله الصالح، فربُّك خلقك من عَدَم وأمدَّك من عُدم، وأرسل لك رسلاً وأنزل لك كتباً، فجعل لك بذلك صفقة رابحة معه سبحانه، وعليك أنت أيها المؤمن أنْ تستغلَّ هذه الفرصة لتربح مع الله، لأن العمل الذي تعمله في الدنيا عملٌ موقوت بحياتك وعمرك في الدنيا. أما الجزاء على العمل ففي الآخرة وهي غير موقوتة، بل دائمة باقية، وهنا تكمن مَيْزة التجارة مع الله؛ لذلك قال سبحانه: { { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64]. =============== بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ٦٦ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (بل) حرف يفيد الإضراب عن الكلام السابق وإثبات ما بعدها، يعني: اعرض عن دعوتهم لك أنْ تعبد آلهتهم، وإياك أن تميلَ إليهم { بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ } [الزمر: 66] وليؤكد عبادة الله وحده حتى جاء بهذا الأسلوب (بل الله فاعبد) وقدَّم المفعول به على الفعل، وهذا يُسمَّى أسلوبَ قصر. يعني: قصر العبادة على الله وحده دون سواه، كما في قوله تعالى: { { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة: 5]. فتقديم الضمير المنفصل العائد على الحق سبحانه على الفعل نعبد يعني: نعبدك أنت فقط لا نعبد غيرك، أما لو قُلْنا: نعبدك تحتمل ونعبد غيرك. وقوله: { وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [الزمر: 66] الشاكرين الله على الهداية والتوفيق، لأنْ تعبده وحده وتشكره على ما تقدم لك من النعم، وما هذه النعم إلا (عربون) للنعيم الدائم الذي ينتظرك. ومن عجائب لطفه تعالى بنا أنْ شرع لنا من الأحكام افعل ولا تفعل ما فيه الخير لنا في دنيانا، ثم يُثيبنا عليه في الآخرة إنْ أطعنا ويُخوِّفنا بالعذاب إنْ عصينا، فهو سبحانه لطيف بنا حريص على نجاتنا، مع أنه سبحانه لا ينتفع من ذلك بشيء، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. واقرأ الحديث القدسي عند رب العزة سبحانه: "يا عبادي .. لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِل البحر" . فاعلم أيها العبد أن ربك يحبك ويريد لك الفوز والنجاة فأنت عبده وأنت صنعته، والصانع يريد لصنعته أنْ تكون على أحسن حال. ============== وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٧ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي معنى { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67] يعني: ما قدروه وما عظَّموه التعظيم المناسب له سبحانه، يعني: ما عرفوا لله قيمته، ولذلك أشركوا به، والشرك في حَدِّ ذاته عدم تقدير الله حَقَّ قدره. وقد فعلوا ذلك والحال أن { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] إذن: كيف يحدث منكم ذلك؟ أغفلتم عن هذه الحقيقة؟ إنكم سوف تروْنَ عاقبة فعلكم في الآخرة. ومعنى { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الزمر: 67] نقول: هذا الأمر في يدي يعني: أنا مُتمكن منه تمكُّناً بحيث لا يفلت منِّي، وليس من الضروري بالنسبة لله تعالى أن يكون في المسألة قبضة أو يد، فهنا كناية عن القوة والتمكُّن، كما نقول مثلاً قبضنا على المجرم يعني: أصبح في حوزتنا ولم يَعُدْ مطلق السراح في الحياة يفعل ما يشاء. وسبق أنْ قلنا: إذا ذُكر للحق سبحانه وصفٌ له مثيل في عباده فخُذْه في إطار { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ومن ذلك صفة السمع والبصر واليد والعلم .. إلخ. وكلمة { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً } [الزمر: 67] أي: أرضنا التي نعيش عليها وأمثالها من الأراضين لأن الحق سبحانه قال: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12] هذا كله في مجموعتنا الشمسية، فما بالك بباقي المجموعات والمجرَّات التي تحوي الملايين مثل أرضنا: { { وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [الشورى: 29]. وقوله: { وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] يطويها بقدرته تعالى، واليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء وهي مصدر القوة؛ لذلك قال سبحانه: { { قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } [الصافات: 28] أي من جهة القوة، وفي موضع آخر قال الحق سبحانه وتعالى: { { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [الأنبياء: 104]. لكن أيّ أرض نعني في قوله تعالى: { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الزمر: 67] قالوا: هي أرض غير الأرض التي نعرفها، لأن الأرض ستُبدل في الآخرة، كما قال تعالى: { { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } [إبراهيم: 48] لأن أرض الدنيا أرضُ أسباب، نعيش عليها ونأكل من ثمرها ونزاول فيها حياتنا، أما في الآخرة فالحياة فيها بالمسبِّب سبحانه. أرض الآخرة لا زرعَ فيها ولا حرثَ ولا حصادَ، إنما تأكل وتشرب بمجرد إرادة الأكل أو الشرب، فما يخطر على بالك تجده بين يديْكَ لا بأسباب، إنما بقدرة المسبِّب سبحانه، كذلك السماء في الدنيا سماء أسباب ينزل منها المطر وتشرق فيها الشمس، ويُنوِّرها القمر، أما في الآخرة فلا شيء من ذلك لا مطرَ ولا شمسَ ولا قمر، إنما تُنوِّر الأرض بنور ربها. وقوله تعالى في ختام هذه الآية { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر: 67] أمر بأن نقول سبحان الله، وأنْ ننزِّهه تعالى عن مشابهة خَلْقه في مسألة القبضة وفي طَيِّ السماء، لأنه ليس كالطَّيِّ الذي نعرفه نحن، إنما ينبغي أن نأخذ هذه الصفات في إطار { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فنزه الله عما يقوله المشركون. ====================== وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ٦٨ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلَّم عن العقائد وذكر الوعد للطائعين والوعيد للعاصين، أراد سبحانه أنْ يُحدِّثنا عن الآخرة وهي دار الجزاء على الأعمال في الدنيا، والدنيا فيها أموات وفيها أحياء، ولن تقوم الساعة إلا إذا مات الجميع ليتحقق البعث، وإلاَّ فكيف يكون البعث في حَقِّ مَنْ لم يَمُتْ؟ لذلك يُحدِّثنا الحق سبحانه هنا عن النفْخ في الصور، هذه النفخة التي تُميت كل مَنْ هو حَيٌّ. الفعل (نُفِخ) جاء بصيغة الفعل المبني للمجهول، الذي لم يُسَمِّ فاعله، لكن السُّنة هي التي بيَّنت الفاعل وأنه إسرافيل، و (الصُّور) بوق مثل القربة ينفخ فيه إسرافيلُ النفخةَ الأولى التي تميتُ كلَّ الأحياء، لأن القيامة ستقوم وعلى الأرض أحياء لا بد أنْ يموتوا، ليكون لهم بعث كالذين ماتوا من لدن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة. والحق سبحانه يقول: { { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [العنكبوت: 57]. لكن: هل النفخة الأولى هي التي تُميت؟ أو النفخة الثانية هي التي تحيي الموتى؟ نقول: النفخة ذاتها لا تحيي ولا تميت، إنما هي إيذانٌ لمن بيده الأمر أنْ يبدأ عمله { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 67] كلمة صعق تأتي بمعنيين. صعق بمعنى هلك كما في قوله تعالى: { { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور: 45] يعني: يهلكون. وتأتي صعق بمعنى أُغمي عليه وفقد الوعي، كما حدث لسيدنا موسى عليه السلام حين تجلَّى ربُّه للجبل، فلما دعا موسى ربه قال: { { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143] وليس المعنى هنا أنني لا أُرى، إنما أنا أُرى لكنك في تكوينك الحالي لا تستطيع أنْ تراني، إذن: قد يتغيَّر الحال على صورة يمكنك فيها أنْ تراني. وإذا كان البشر قد توصَّلوا لطرق وأساليب وأسباب تُمكِّن من رؤية ما لم تقدر على رؤيته، فرأينا النظارة والنظارة المعظمة والتليسكوبات .. إلخ. إذن: فالحق سبحانه من باب أَوْلَى قادر على أنْ يجعلك ترى ما لم تكُنْ تراه من قبل. ثم يقول سبحانه في تمام هذه القصة: { { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143] الحق سبحانه يريد أنْ يؤكد لموسى عليه السلام هذه القضية لا بالقول إنما بالفعل { { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [الأعراف: 143]. وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه موسى: إذا كنت صُعِقْتَ - يعني: فقدتَ الوعي - من رؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل، فكيف بك إذا رأيتَ المتجلِّي سبحانه؟ وقوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [الزمر: 68] أي: شاء ألاَّ يُصعق، وهذه المشيئة مؤقتة لأن من لم يَمُتْ في هذه النفخة الأولى لابدَّ وأنْ يموت فيما بعد، وآخر مَنْ يموت هو ملك الموت حيث يقول له الحق سبحانه: مُتْ يا مَلَك الموت فيموت. بعدها يصير الخلود بلا انتهاء. قالوا: الذين استثناهم الله من هذه النفخة هم الملائكة الموكَّلون جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام فيمَنْ استثنى من هذه الصعقة، فقد ورد في الحديث أنْ الصَّعْقة حدثتْ وحصل للناس غَشْيَة، وكان رسول الله أول مَنْ أفاق منها فوجد أخاه موسى عليهما السلام ممسكاً بالعرش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدْر أَصُعِق موسى فيمن صُعِق وأفاق قبلي، أم لم يُصعق. وما دام أنه أفاق فوجد موسى بجوار العرش إذن هو لم يُصعق، ويدخل في هؤلاء الذين استثناهم الله في قوله { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [الزمر: 68] أو أنه صُعِق لكنه أفاق من الصَّعْق قبل غيره، وهنا قال العلماء: لماذا لم يُصعَق سيدنا موسى؟ أو لماذا قَصُرَتْ مدة صَعْقته عن مدة الآخرين؟ قالوا: لأنه عليه السلام سبق أنْ صُعِقَ في الدنيا لما تجلَّى ربُّه للجبل، فشاء الله أنْ تُحتسبَ له هذه الصعقة، وأنْ تُخفَّفَ عنه صَعْقةُ القيامة. وقوله { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } [الزمر: 68] أي: نفخة البعث، فالنفخة الأولى أماتت مَنْ لم يكُنْ قد مات، والنفخة الثانية هي البعث والخروج من القبور { { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس: 51] هذا تصوير لهيئة الصعقة، وكيفية الخروج من القبور { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68]. وكلمة (ينسلون) دلَّتْ على تفرُّق بعد اجتماع، كما نقول للقماش (نسِّل) يعني: بعد أنْ كانت خيوطه مُتضَامَّة متماسكة تفككتْ، وهذا تصوير دقيق وتعبير بليغ يُصوِّر الحالة التي كانت تُوجد في القبور حين يلتقي الأموات في باطن الأرض، لأن الناس في الدنيا وهم في سَعة الحياة دائماً ما يتخاصمون ويتشاجرون وتكثر بينهم العداوات والمنافسات. وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى فقال: رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مِرَاراً ضاَحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَّادِ فإذا ما ماتوا وضمتهم الأرض امتصَّتْ ما كان بينهم من أحقاد وعداوات، فخلصت عناصرهم خُلُوصاً مَكَّنهم من اللقاء والاجتماع، فيقولون: ما ألذَّ العناق قبل دقَّات الفراق. وكأنهم يفرحون بهذا الاجتماع وبهذا العناق لأنه يُعوِّضهم ما كان بينهم من شقاق في الدنيا، فإذا ما جاءتْ النفخة الثانية تفكَّك هذا الاجتماع وتفرَّق، هذا معنى { { يَنسِلُونَ } [يس: 51] أي: كُلٌّ على حدة بمفرده وشخصه كما (ينسلّ) الخيط من مكانه في النسيج؛ ذلك لأن الجزاء أمر شخصي وكُلٌّ مُرْتهن بعمله. ومعنى { يَنظُرُونَ } [الزمر: 68] أي: ينتظرون ما يقع بهم، أو ينظرون ما حولهم من أهوال تشخَصُ لها الأبصار، كما قال تعالى في آية أخرى حكايةً عنهم: { { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [السجدة: 12] قالوا: هذه هي الآية الوحيدة التي تقدم فيها البصر على السمع، لماذا؟ لأن الموقف هنا في الآخرة حين يُبعث الناس من القبور، وحين تحيط بهم الأهوال والكروب من كل ناحية، وهذه الحالة تسبق فيها الأبصار الأسماع فيبصرون قبل أنْ يسمعوا. وبنفخة البعث تبدأ أهوال القيامة ويشتد الكرب على الكافرين فيرتعدون، فإذا ما صَدَق اللهُ وعده ووعيده في قيام الساعة بأول مراحلها عندها يعلمون صدق ما كذبوه وكفروا به، هؤلاء الذين طالما كذَّبوا بالبعث وقالوا: { { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [الصافات: 16-17]. إذن: صدق الله في البعث وفي إحياء الموتى، وسيصدق سبحانه فيما يتلو ذلك من حساب وجزاء، والويل لكم أيها الكافرون المكذِّبون. ============= وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ٧٠ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هذه الآية تنقلنا إلى عالم آخر، إلى الآخرة حيث تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات، كنا في الدنيا نعيش على الأرض بنور الشمس نقول: أشرقت الشمس أما وقد انتقلنا إلى الآخرة فالأرض هي نفسها تشرق، { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا .. } [الزمر: 69] وكأن النور شيء ذاتي فيها، فليس هناك شمس تشرق عليها إنما هي التي تشرق بذاتها. ولم لا؟ وأنت الآن في عالم فيه ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى: { { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [الإنسان: 13] لأن الدنيا كانت بالأسباب، فالشمس تشرق لتنير الأرض بالنهار والقمر بالليل، أما في الآخرة فلا نعيش بالأسباب، إنما بالمسبِّب سبحانه حيث كل شيء فيها يكون بلا علاج، فلسنا - إذن - في حاجة إلى زراعة الأرض، ولا إلى الشمس تنير النهار، ولا إلى القمر ينير الليل. وكما تُبدَّل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات، كذلك أنتم تُبدَّلون على هيئة أخرى تناسب الآخرة، فستأكلون ولا تتغوطون، وتعيشون ولا تهرمون. وحين تشرق الأرضُ بنور ربها تراها مشرقةً دون أنْ ترى مصدر هذا الإشراق، وهذا ما رأينا شيئاً منه في الدنيا، ففي طرق الإضاءة الحديثة توضع الأنوار في أماكن تخفي مصدر الضوء فيأتي النور غير مباشر فلا يؤذي العين، كما يأتيك ضوء الشمس فينير لك الغرفة في حين لا ترى شعاع الشمس المباشر. وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً لتنويره للسماء والأرض، وذلك في سورة النور، حيث قال سبحانه: { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [النور: 35] أي: مُنوِّرهما، ولما أراد سبحانه أن يعطينا مثلاً لذلك أتى بمثل من المشاهد لنا المرئي الذي ندركه فقال: { { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ .. } [النور: 35] أي: كيفية تنويره وأثر نوره سبحانه حتى لا نظن أن هذا المثل يوضح لنا نور الله، لا بل يوضح كيفية تنويره لخلقه وإلا فنوره تعالى لا نعرفه ولا ندرك كُنْهه. والمشكاة هي الطاقة غير النافذة في الجدار يسمونها كُوَّة، وتوجد حتى الآن في المباني القديمة الفطرية، وهذه المشكاة هي التي يوضع فيها المصباح، وليست هي المصباح كما يظن السطحيون ويستعملونها بهذا المعنى. وميزة المشكاة أنها غير نافذة ومحدودة المساحة، بحيث تجمع ضوء المصباح فلا يتبدد إنما يتركز لتنوير الحجرة التي توجد فيها هذه المشكاة. ثم يصف المصباح بأنه ليس مصباحاً عادياً إنما { { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ .. } [النور: 35] والزجاجة تنقي ضوء المصباح وتمنع عنه الهواء الزائد فلا يحدث دخان يُكدِّر صَفْو ونقاء الضوء. ثم إن هذه الزجاجة هي أيضاً غير عادية إنما { { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .. } [النور: 35] والكوكب الدري هو الذي يضيء بنفسه، وهذا يعني أن ضوء هذا المصباح مضاعف. ثم إن الزيت الذي يُوقد به المصباح ليس زيتاً عادياً إنما زيت مأخوذ من شجرة معتدلة المزاج { { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ .. } [النور: 35]. البعض يعترض على هذا المثل ويقول: كيف يضرب الله مثلاً لنوره بمشكاة فيها مصباح؟ قلنا: إن المثَل هنا ليس مثلاً لنور الله إنما هو مثَل لتنويره للكون، وقد عبَّر الشاعر أبو تمام عن هذا المعنى في قوله مادحاً: إقْدَام عَمْرو فِي سَمَاحَةِ حَاتِم فِي حِلْم أحْنَفَ فِي ذَكاءِ إيَاسِ فاعترض عليه أحد جلساء الممدوح. وقال له: كيف تُسوِّي الأمير بأجلاف العرب، الأمير فوق مَنْ وصفت، فردَّ أبو تمام بعد أنْ أطرق هنيهة: لاَ تُنْكِروا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثلاً شَرُودًا فِي النَّدَى وَالبَاسِ فَاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لِنورِهِ مَثلاً مِنَ المشْكاة وَالنِّبْراسِ هكذا يُنوِّر الله للخَلْق النور الحسيّ الذي يصون مادتهم، ويحفظ سلامة حركتهم في الحياة، لأن الإنسان إنْ سار على غير هدى اصطدم بالأشياء من حوله، والصدام يعني أن يحطم القويُّ الضعيفَ، لذلك نحرص على وجود ضوء خافت (وناسة) مثلاً بالليل لتحمي حركتنا من الصدام. فإذا كان الخالق سبحانه جعل لنا النور الحسيَّ لحماية مادتنا من أن تحطم أو تتحطم، فلا بدَّ أنْ يجعل لنا نوراً معنوياً يحمي فينا القيم، فلا نحطم بظلم، ولا نحطم باضطهاد، وهذا هو نور الوحي والشرع الذي تحيا به القلوب، وينظم حركتنا المعنوية في رحلة الحياة. وكما بيَّن لنا الحق سبحانه النور الحسِّي بيَّن لنا النور المعنوي فقال خذوه من بيوت الله، فقال تعالى: { { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } [النور: 36-37]. إذن: خُذ النور المعنوي من بيوت الله ففيها تلتقي بالله تعالى، فهذا اللقاء يضفي عليك نوراً من نور الله يملأ قلبك ويهدي جوارحك ويصلحك، وبيَّن سبحانه أن نور القيم أعلى من نور المادة، بدليل أن الإنسان حين يكون مكفوف البصر يمكنه أن يمشي وأنْ يزاول أعماله في الدنيا، أما فاقد النور المعنوي، أو أعمى البصيرة كما يقولون فلا يمكن أبداً أنْ يُوفَّق في حركته للصواب؛ لذلك قال تعالى في ختام آية: { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [النور: 35] قال: { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ .. } [النور: 35]. وبعد أنْ أشرقت الأرضُ بنور ربها { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ .. } [الزمر: 69] وفي موضع آخر جاء تفصيل وشرح ذلك، فقال سبحانه: { { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49]. هكذا فصّل الحق سبحانه ما أجمل في { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ .. } [الزمر: 69] ومعلوم أن آيات القرآن الكريم تفسر بعضها بعضاً، والكتاب هنا كتاب خاص بكل إنسان على حدة، كما قال سبحانه: { { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 13-14]. وهذا الكتاب الذي يُحصي عليك أعمالك كتاب صدق، لأن كاتبه مَلَك موكَّل بك { { كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 11-12] وقال: { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]. فهذا الكتاب ليس في علم الله فحسب؛ لأن علم الله كلامٌ من عنده، إنما هذا كتاب بمعنى أنه مكتوب مقروء يقرؤه صاحبه ويطلع عليه، فيرى فيه عمله الصالح والطالح؛ لذلك ساعةَ يراه المجرمون يرتعدون خوفاً لأنه أحصى عليهم إجرامهم، ولم يترك منه كبيرة ولا صغيرة، عندها لا يملكون إلا أنْ يدعوا على أنفسهم بالويل والثبور. وبعد أنْ يأخذ كلٌّ كتابه يأتي الله بالرسل { وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ .. } [الزمر: 69] ليشهد كل نبي أنه بلَّغ أمته، يقول تعالى: { { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ .. } [المائدة: 109]. وبعد أن يشهد الرسل يشهد الشهداء وهم مَنْ حملوا العلم بعد الرسل، كما ورد: "يحمل هذا العلمَ من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". فهؤلاء العلماء أيضاً يشهدون أنهم بلَّغوا غيرهم؛ لذلك امتازت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعلمائها، لأنهم امتدادٌ لرسالته صلى الله عليه وسلم، لذلك فخيريتنا على الأمم بهذه المسألة. ويشهد أيضاً الشهداء الذين قُتِلوا في سبيل الله، وهؤلاء يشهدون أيضاً لمكانتهم عند الله، هذه المكانة التي نالوها بالشهادة، ويكفي أن الشهيد يدخل المعركة وهو يعرف أنه إنْ هُزم سيقتل، فهو يتقدم إما للنصر وإما للشهادة، فهو يعلم أنه سيدفع حياته ثمناً، ولولا أنه واثق كل الثقة بما وعده الله من الجزاء ما خرج. لذلك قال تعالى عن الشهداء: { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169]. وعجيبٌ أنْ نسمع مَنْ يقول على سبيل الإنكار: يعني لو أخرجنا الشهيد من قبره سنجده حياً؟ نقول: اقرأ الآية وتدبَّر معناها، فالله يقول: { { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ .. } [آل عمران: 169] لا عندك أنت، بدليل أنه جاء بعدها بمادة الطلب للحياة فقال: (يُرْزَقُونَ) ذلك لأن الشهيد لما ضحَّى بحياته ضمن له ربه حياة أخرى أفضل وأعظم وأبقى مما كان فيها في الدنيا؛ لذلك قال الشاعر في حق سيدنا حمزة سيد الشهداء: أَحمْزَةَ عَمَّ المصْطَفى أنتَ سَيِّدٌ عَلَى شُهَداء الأرْضِ أجمعهم طُرَّا وحَسْبُكَ مِنْ تلْكَ الشَّهادةِ عِصْمةٌ مِنَ الموْتِ، موصول الحياة إلى الأخرى المعنى: أنك قدمتَ حياتك وضحيت بها فعُصمْتَ من الموت، لأنك بعد أنْ متَّ صِرْتَ حياً فوصلتَ حياتك في الدنيا بحياتك في الآخرة، وهبتَ الحياة فوُصِلتْ الحياة. والشهادة على العبد يوم القيامة لا تنتهي عند هذا الحد، فبعد أنْ شهدت عليه الملائكة بالكتاب الذي سطّروه، وشهد عليه الأنبياء والشهداء ننقل الشهادة إلى ذاتك أنت، فهذا تدرّج في الشهادة من الملائكة وهم من جنس غير جنسك، إلى الأنبياء والشهداء وهم من جنسك، إلى جوارحك وهي قطعة منك: { { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65]. وقال سبحانه: { { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24]. وقال تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 20-21]. لكن كيف تشهد الأعضاء والجوارح على صاحبها وكانت في الدنيا هي أداة الفعل، فاللسان هو الذي قال، واليد هي التي بطشتْ، والرِّجْل هي التي سعتْ .. إلخ؟ قالوا: لأن الله تعالى خلق لعبده الجوارح وسخرها لمراده، وأمرها أنْ تطيعه فيما يريد، فاللسان مُسخَّر لخدمة صاحبه إنْ أراد أن يقول لا إله إلا الله قالها. وإنْ أراد أنْ ينطق بكلمة الكفر نطق بها، وهكذا بقية الجوارح. إذن: طالما الإنسان في الدنيا فالولاية على الجوارح لمراد الإنسان المخيَّر، والجوارح تابعة لمراده، فإذا ما بُعثنا وعُرضنا على الخالق سبحانه انحلَّتْ هذه الإرادة وسُلبت فلا إرادةَ لأحد إلا لله { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] وعندها تتحرر الأعضاء وتقف موقف الشاهد الصدق. وقوله تعالى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [الزمر: 69] أي: قضى اللهُ بين الناس وأهل المشهد وحكم بين الخلائق، والذي يقضي هو الله. إذن: فهو قضاء بالحق لا يُظلم فيه أحدٌ، فليس لأحد في هذا اليوم إرادة، وليس لأحد حكم ولا هوى، إنما الأمر كله لله إنْ شاء اقتصَّ للمظلوم من الظالم، وإنْ شاء أرضى المظلوم وعفا عن الظالم. ثم يقول سبحانه: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر: 70] أي: يجازيها بما عملت إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر. وهذه الآية وقف عندها المستشرقون يتهمون سياقها بعدم التناسق، فالتناسق في نظرهم أن نقول: ووُفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يعملون. وهم يقولون ذلك لأنهم لا يدركون الفرق بين الفعل والعمل، فالفعل مقابل القول، فاللسان وحده له مهمة القول وباقي الجوارح تفعل، العين ترى، والأذن تسمع، واليد تبطش، والرِّجْل تسعى .. إلخ. كل جارحة لها مهمة وهذه كلها أفعال، أما العمل فيشمل القول والفعل، كل منهما يُسمَّى عملاً، لذلك يقول تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 2]. لكن لماذا خصَّ اللسان بالشطر وباقي الجوارح بالشطر الآخر؟ قالوا: لأن القول يتم به البلاغ والتبليغ، فاستحق أنْ يكون عمدة الجوارح. فما نتيجة هذه التوفية للأعمال؟ نتيجة توفية الأعمال أن تنال كل نفس ما تستحقه على عملها في الدنيا، لذلك بعد أنْ تتم التوفية ويتم الحساب يُساق أهل الإيمان إلى الجنة، ويُساق أهل الكفر إلى النار: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً ... }. ========== معاد وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ٧٠ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هذه الآية تنقلنا إلى عالم آخر، إلى الآخرة حيث تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات، كنا في الدنيا نعيش على الأرض بنور الشمس نقول: أشرقت الشمس أما وقد انتقلنا إلى الآخرة فالأرض هي نفسها تشرق، { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا .. } [الزمر: 69] وكأن النور شيء ذاتي فيها، فليس هناك شمس تشرق عليها إنما هي التي تشرق بذاتها. ولم لا؟ وأنت الآن في عالم فيه ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى: { { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [الإنسان: 13] لأن الدنيا كانت بالأسباب، فالشمس تشرق لتنير الأرض بالنهار والقمر بالليل، أما في الآخرة فلا نعيش بالأسباب، إنما بالمسبِّب سبحانه حيث كل شيء فيها يكون بلا علاج، فلسنا - إذن - في حاجة إلى زراعة الأرض، ولا إلى الشمس تنير النهار، ولا إلى القمر ينير الليل. وكما تُبدَّل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات، كذلك أنتم تُبدَّلون على هيئة أخرى تناسب الآخرة، فستأكلون ولا تتغوطون، وتعيشون ولا تهرمون. وحين تشرق الأرضُ بنور ربها تراها مشرقةً دون أنْ ترى مصدر هذا الإشراق، وهذا ما رأينا شيئاً منه في الدنيا، ففي طرق الإضاءة الحديثة توضع الأنوار في أماكن تخفي مصدر الضوء فيأتي النور غير مباشر فلا يؤذي العين، كما يأتيك ضوء الشمس فينير لك الغرفة في حين لا ترى شعاع الشمس المباشر. وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً لتنويره للسماء والأرض، وذلك في سورة النور، حيث قال سبحانه: { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [النور: 35] أي: مُنوِّرهما، ولما أراد سبحانه أن يعطينا مثلاً لذلك أتى بمثل من المشاهد لنا المرئي الذي ندركه فقال: { { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ .. } [النور: 35] أي: كيفية تنويره وأثر نوره سبحانه حتى لا نظن أن هذا المثل يوضح لنا نور الله، لا بل يوضح كيفية تنويره لخلقه وإلا فنوره تعالى لا نعرفه ولا ندرك كُنْهه. والمشكاة هي الطاقة غير النافذة في الجدار يسمونها كُوَّة، وتوجد حتى الآن في المباني القديمة الفطرية، وهذه المشكاة هي التي يوضع فيها المصباح، وليست هي المصباح كما يظن السطحيون ويستعملونها بهذا المعنى. وميزة المشكاة أنها غير نافذة ومحدودة المساحة، بحيث تجمع ضوء المصباح فلا يتبدد إنما يتركز لتنوير الحجرة التي توجد فيها هذه المشكاة. ثم يصف المصباح بأنه ليس مصباحاً عادياً إنما { { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ .. } [النور: 35] والزجاجة تنقي ضوء المصباح وتمنع عنه الهواء الزائد فلا يحدث دخان يُكدِّر صَفْو ونقاء الضوء. ثم إن هذه الزجاجة هي أيضاً غير عادية إنما { { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .. } [النور: 35] والكوكب الدري هو الذي يضيء بنفسه، وهذا يعني أن ضوء هذا المصباح مضاعف. ثم إن الزيت الذي يُوقد به المصباح ليس زيتاً عادياً إنما زيت مأخوذ من شجرة معتدلة المزاج { { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ .. } [النور: 35]. البعض يعترض على هذا المثل ويقول: كيف يضرب الله مثلاً لنوره بمشكاة فيها مصباح؟ قلنا: إن المثَل هنا ليس مثلاً لنور الله إنما هو مثَل لتنويره للكون، وقد عبَّر الشاعر أبو تمام عن هذا المعنى في قوله مادحاً: إقْدَام عَمْرو فِي سَمَاحَةِ حَاتِم فِي حِلْم أحْنَفَ فِي ذَكاءِ إيَاسِ فاعترض عليه أحد جلساء الممدوح. وقال له: كيف تُسوِّي الأمير بأجلاف العرب، الأمير فوق مَنْ وصفت، فردَّ أبو تمام بعد أنْ أطرق هنيهة: لاَ تُنْكِروا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثلاً شَرُودًا فِي النَّدَى وَالبَاسِ فَاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لِنورِهِ مَثلاً مِنَ المشْكاة وَالنِّبْراسِ هكذا يُنوِّر الله للخَلْق النور الحسيّ الذي يصون مادتهم، ويحفظ سلامة حركتهم في الحياة، لأن الإنسان إنْ سار على غير هدى اصطدم بالأشياء من حوله، والصدام يعني أن يحطم القويُّ الضعيفَ، لذلك نحرص على وجود ضوء خافت (وناسة) مثلاً بالليل لتحمي حركتنا من الصدام. فإذا كان الخالق سبحانه جعل لنا النور الحسيَّ لحماية مادتنا من أن تحطم أو تتحطم، فلا بدَّ أنْ يجعل لنا نوراً معنوياً يحمي فينا القيم، فلا نحطم بظلم، ولا نحطم باضطهاد، وهذا هو نور الوحي والشرع الذي تحيا به القلوب، وينظم حركتنا المعنوية في رحلة الحياة. وكما بيَّن لنا الحق سبحانه النور الحسِّي بيَّن لنا النور المعنوي فقال خذوه من بيوت الله، فقال تعالى: { { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } [النور: 36-37]. إذن: خُذ النور المعنوي من بيوت الله ففيها تلتقي بالله تعالى، فهذا اللقاء يضفي عليك نوراً من نور الله يملأ قلبك ويهدي جوارحك ويصلحك، وبيَّن سبحانه أن نور القيم أعلى من نور المادة، بدليل أن الإنسان حين يكون مكفوف البصر يمكنه أن يمشي وأنْ يزاول أعماله في الدنيا، أما فاقد النور المعنوي، أو أعمى البصيرة كما يقولون فلا يمكن أبداً أنْ يُوفَّق في حركته للصواب؛ لذلك قال تعالى في ختام آية: { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [النور: 35] قال: { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ .. } [النور: 35]. وبعد أنْ أشرقت الأرضُ بنور ربها { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ .. } [الزمر: 69] وفي موضع آخر جاء تفصيل وشرح ذلك، فقال سبحانه: { { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49]. هكذا فصّل الحق سبحانه ما أجمل في { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ .. } [الزمر: 69] ومعلوم أن آيات القرآن الكريم تفسر بعضها بعضاً، والكتاب هنا كتاب خاص بكل إنسان على حدة، كما قال سبحانه: { { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 13-14]. وهذا الكتاب الذي يُحصي عليك أعمالك كتاب صدق، لأن كاتبه مَلَك موكَّل بك { { كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 11-12] وقال: { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]. فهذا الكتاب ليس في علم الله فحسب؛ لأن علم الله كلامٌ من عنده، إنما هذا كتاب بمعنى أنه مكتوب مقروء يقرؤه صاحبه ويطلع عليه، فيرى فيه عمله الصالح والطالح؛ لذلك ساعةَ يراه المجرمون يرتعدون خوفاً لأنه أحصى عليهم إجرامهم، ولم يترك منه كبيرة ولا صغيرة، عندها لا يملكون إلا أنْ يدعوا على أنفسهم بالويل والثبور. وبعد أنْ يأخذ كلٌّ كتابه يأتي الله بالرسل { وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ .. } [الزمر: 69] ليشهد كل نبي أنه بلَّغ أمته، يقول تعالى: { { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ .. } [المائدة: 109]. وبعد أن يشهد الرسل يشهد الشهداء وهم مَنْ حملوا العلم بعد الرسل، كما ورد: "يحمل هذا العلمَ من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". فهؤلاء العلماء أيضاً يشهدون أنهم بلَّغوا غيرهم؛ لذلك امتازت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعلمائها، لأنهم امتدادٌ لرسالته صلى الله عليه وسلم، لذلك فخيريتنا على الأمم بهذه المسألة. ويشهد أيضاً الشهداء الذين قُتِلوا في سبيل الله، وهؤلاء يشهدون أيضاً لمكانتهم عند الله، هذه المكانة التي نالوها بالشهادة، ويكفي أن الشهيد يدخل المعركة وهو يعرف أنه إنْ هُزم سيقتل، فهو يتقدم إما للنصر وإما للشهادة، فهو يعلم أنه سيدفع حياته ثمناً، ولولا أنه واثق كل الثقة بما وعده الله من الجزاء ما خرج. لذلك قال تعالى عن الشهداء: { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169]. وعجيبٌ أنْ نسمع مَنْ يقول على سبيل الإنكار: يعني لو أخرجنا الشهيد من قبره سنجده حياً؟ نقول: اقرأ الآية وتدبَّر معناها، فالله يقول: { { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ .. } [آل عمران: 169] لا عندك أنت، بدليل أنه جاء بعدها بمادة الطلب للحياة فقال: (يُرْزَقُونَ) ذلك لأن الشهيد لما ضحَّى بحياته ضمن له ربه حياة أخرى أفضل وأعظم وأبقى مما كان فيها في الدنيا؛ لذلك قال الشاعر في حق سيدنا حمزة سيد الشهداء: أَحمْزَةَ عَمَّ المصْطَفى أنتَ سَيِّدٌ عَلَى شُهَداء الأرْضِ أجمعهم طُرَّا وحَسْبُكَ مِنْ تلْكَ الشَّهادةِ عِصْمةٌ مِنَ الموْتِ، موصول الحياة إلى الأخرى المعنى: أنك قدمتَ حياتك وضحيت بها فعُصمْتَ من الموت، لأنك بعد أنْ متَّ صِرْتَ حياً فوصلتَ حياتك في الدنيا بحياتك في الآخرة، وهبتَ الحياة فوُصِلتْ الحياة. والشهادة على العبد يوم القيامة لا تنتهي عند هذا الحد، فبعد أنْ شهدت عليه الملائكة بالكتاب الذي سطّروه، وشهد عليه الأنبياء والشهداء ننقل الشهادة إلى ذاتك أنت، فهذا تدرّج في الشهادة من الملائكة وهم من جنس غير جنسك، إلى الأنبياء والشهداء وهم من جنسك، إلى جوارحك وهي قطعة منك: { { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65]. وقال سبحانه: { { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24]. وقال تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت: 20-21]. لكن كيف تشهد الأعضاء والجوارح على صاحبها وكانت في الدنيا هي أداة الفعل، فاللسان هو الذي قال، واليد هي التي بطشتْ، والرِّجْل هي التي سعتْ .. إلخ؟ قالوا: لأن الله تعالى خلق لعبده الجوارح وسخرها لمراده، وأمرها أنْ تطيعه فيما يريد، فاللسان مُسخَّر لخدمة صاحبه إنْ أراد أن يقول لا إله إلا الله قالها. وإنْ أراد أنْ ينطق بكلمة الكفر نطق بها، وهكذا بقية الجوارح. إذن: طالما الإنسان في الدنيا فالولاية على الجوارح لمراد الإنسان المخيَّر، والجوارح تابعة لمراده، فإذا ما بُعثنا وعُرضنا على الخالق سبحانه انحلَّتْ هذه الإرادة وسُلبت فلا إرادةَ لأحد إلا لله { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] وعندها تتحرر الأعضاء وتقف موقف الشاهد الصدق. وقوله تعالى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [الزمر: 69] أي: قضى اللهُ بين الناس وأهل المشهد وحكم بين الخلائق، والذي يقضي هو الله. إذن: فهو قضاء بالحق لا يُظلم فيه أحدٌ، فليس لأحد في هذا اليوم إرادة، وليس لأحد حكم ولا هوى، إنما الأمر كله لله إنْ شاء اقتصَّ للمظلوم من الظالم، وإنْ شاء أرضى المظلوم وعفا عن الظالم. ثم يقول سبحانه: { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر: 70] أي: يجازيها بما عملت إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر. وهذه الآية وقف عندها المستشرقون يتهمون سياقها بعدم التناسق، فالتناسق في نظرهم أن نقول: ووُفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يعملون. وهم يقولون ذلك لأنهم لا يدركون الفرق بين الفعل والعمل، فالفعل مقابل القول، فاللسان وحده له مهمة القول وباقي الجوارح تفعل، العين ترى، والأذن تسمع، واليد تبطش، والرِّجْل تسعى .. إلخ. كل جارحة لها مهمة وهذه كلها أفعال، أما العمل فيشمل القول والفعل، كل منهما يُسمَّى عملاً، لذلك يقول تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 2]. لكن لماذا خصَّ اللسان بالشطر وباقي الجوارح بالشطر الآخر؟ قالوا: لأن القول يتم به البلاغ والتبليغ، فاستحق أنْ يكون عمدة الجوارح. فما نتيجة هذه التوفية للأعمال؟ نتيجة توفية الأعمال أن تنال كل نفس ما تستحقه على عملها في الدنيا، لذلك بعد أنْ تتم التوفية ويتم الحساب يُساق أهل الإيمان إلى الجنة، ويُساق أهل الكفر إلى النار: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً ... }. ================== وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ٧١ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي نلحظ هنا أن الفعل (وَسِيقَ) جاء مبنياً لما لم يُسمَّ فاعله، وفي موضع آخر قال تعالى: { { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21] فمَن هو السائق؟ قالوا: هم الملائكة يسوقون أهل النار إلى جهنم والعياذ بالله، والسائق هو الذي يحثّ المسوق على الإسراع، كراكب الدابة الذي ينهرها ويحثُّها لتسرع به، كذلك تفعل الملائكة بالمجرمين وتحثهم إلى جهنم ليسرعوا إليها. وهذا يدل على أن الملائكة مغتاظون منهم، كارهون لهم، متضايقون من أعمالهم في الدنيا، لذلك يزجُّون بهم إلى جزائهم العادل في جهنم، بلا هوادة وبلا رحمة، أرأيتم رجال الشرطة حينما يمسكون بالمجرم ماذا يفعلون به؟ إنهم يضربونه ويُعذبونه ويهينونه لأنه عضو فاسد في المجتمع يريد الجميع التخلص منه، ومعلوم أن الملائكة عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. والقرآن يصور هذا الموقف في آية أخرى، فيقول سبحانه: { { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور: 13] يعني: يزجرونهم إليها ويدفعونهم فيها رغماً عنهم. ومعنى (زُمَراً) يعني: جماعات، فكل أصحاب مخالفة لمنهج الله معاً في جماعة، فالتاركون للصلاة جماعة، والتاركون للزكاة جماعة، والآكلون للربا جماعة وهكذا الظلمة والمرتشون والسارقون والزناة والمختلسون يجمع الله كل واحد منهم مع صاحبه، فيُحشرون معاً يتقدمهم كبيرهم. والفتوة فيهم كما قال سبحانه: { { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ .. } [الإسراء: 71] وقال سبحانه: { { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [مريم: 69]. وقال في حق فرعون: { { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98]. وكَوْن كبراء الضلال وقادة الكفر يتقدمون أتباعهم يدل ذلك على قطع أمل الآخرين في النجاة، فلو دخل التابع فلم يجد متبوعه لتعلق قلبه به، وظن أنه سيأتي ويُخلصه، لكن الحال أنه سيدخل فيجد أستاذه وقدوته في الضلال قد سبقه إلى جهنم. حتى إذا ما وصلوا إلى أبواب جهنم فتح لهم { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا .. } [الزمر: 71] لأن باب الغضب (مش مفندق) بل مغلق يُفتح للضرورة، على خلاف باب الرحمة فهو مفتوح دائماً، وهذا من رحمة الله، لأن رحمة الله سبقتْ غضبه. وهذه النهاية لتي انتهى إليها أهل النار كُتبتْ عليهم، وعلمها الحق سبحانه من بداية الحياة، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى: { { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 105-108]. أولاً: لا بدَّ لفهم هذه الآية أن تعرف أولاً معنى الخلود: الخلود هو المكث الطويل، وهذا المكث سُمِّي خلوداً لأن له بداية وليس له نهاية، والكلام هنا عن الذين سُعِدوا وهم أهل الجنة، والذين شقوا وهم أهل النار، لكن الحق سبحانه استثنى من هؤلاء ومن هؤلاء، والذين استثناهم الله ستنقص مدة خلودهم، كيف؟ الكافر بعد أنْ حُوسب وسيق إلى جهنم تُفتح له ويظل خالداً فيها خلوداً كاملاً من البداية إلى ما لا نهاية، كذلك المؤمن الذي تداركته رحمة ربه بعد أنْ يُحاسب يُساق إلى الجنة فيظل فيها خلوداً كاملاً من البداية إلى ما لا نهاية. أما الاستثناء فللمؤمن العاصي الذي لم يَتُبْ عن معاصيه أو تاب ولم تُقبل توبته، هذا لا بدَّ أن يأخذ جزاء هذه المعاصي، وأنْ تناله لفحة من لفحات النار والعياذ بالله، هذا في البداية، فيدخل النار ما يشاء الله له ثم يُخرجه إلى الجنة وبذلك تكون فترة خلوده في الجنة نقصتْ عن إخوانه المؤمنين، والنقص هنا من البداية، كذلك نقص خلود في النار عن أهل النار الخالدين فيها. وقوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ .. } [الزمر: 71] أي: خزنة النار قالوا لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا .. } [الزمر: 71] هذا الاستفهام ألزمهم الحجة وأفحمهم، فربهم عز وجل لم يأخذهم على غِرَّة، إنما أرسل لهم رسلاً، وهؤلاء الرسل (منكُمْ) من جنسكم ومن أوسطكم والأقرب إليكم لتسهل القدوة به. ومع هؤلاء الرسل حجج وبراهين ووَعْد ووعيد، لذلك لم يستطيعوا الإنكار { قَالُواْ بَلَىٰ .. } [الزمر: 71] يعني: حدث هذا، فأقرّوا على أنفسهم بإسقاط الحجة، وأن الله بعث لهم الرسل الذين أنذروهم هذا اليوم. إذن: الإنذارات التي تحدث للناس في حياتهم من تمام رحمة الله بالخلق، والإنذارات التي سبقت في الحياة بما سيكون بعدها من تمام رحمة الله بالخلق، أرأيتَ حين تُبصِّر ولدك بعاقبة الإهمال وتُخوِّفه من الرسوب آخر العام، فإنك تعينه على المذاكرة والاجتهاد حتى لا يلاقي العاقبة، وحتى لا يفاجأ بشيء غفل عنه. لذلك وقف المستشرقون عند سورة الرحمن وقالوا: قوله تعالى { { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 14-25] قالوا: نعم هذه نِعَم يناسبها { { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 25] لكن أيّ نعمة في قوله { { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 35-36]. نعم الإنذار بالشر قبل أن يقع والتحذير منه قبل أوانه نعمة، بل من أعظم نِعم الله على الإنسان ليحتاط للأمر، فالتهديد والوعيد والتبصير والتخويف إنما لنحذر المخوف منه فلا نقع فيه. وقوله: { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر: 71] يعني: وجبتْ لهم رغم الإنذار والتبصير، والكلمة التي حقَّتْ هي قوله تعالى: { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13] فماذا تنتظرون بعد ذلك؟ والعجيب أننا باختياراتنا الخائبة نساعد القدر ويمهد القدر لقدر. والكلمة قوْلٌ مفرد لا يؤدي إلا معنىً في ذاته، إنما لا يؤدي معنى إسنادياً، فكلمة السماء مثلاً لا تؤدي معنىً وحدها يحسنُ السكوت عليه، لكن حين تقول: السماء صافية تعطي معنى مفهوماً يحْسن السكوت عليه، قالوا: لكن قد تفيد الكلمة الواحدة، فلو قلت: مَنْ عندك؟ تقول: زيد. فأفادت: زيد عندي. ولولا تقدير كلمة عندي ما أفادتْ, فالكلمة - إذن - لا تؤدي معنىً يحسن السكوت عليه إلا بضميمة غيرها. وقد بيَّن علماء النحو ذلك حين قسَّموا الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وكل منها تُسمَّى كلمة، والفرق بينها أن الاسم يعطي في ذاته معنىً مستقلاً بالفهم، والفعل يعطي معنىً في ذاته، لكنه مرتبط بزمن أو الزمن جزء منه، تقول: أكل أي في الماضي. يأكل في المضارع. وكُلْ في المستقبل، أما الحرف فهو لا يعطي معنى مستقلاً بالفهم، إنما لا بدَّ من ضميمة تبين معناه. وتطلق الكلمة ويُراد بها الكلام تقول: ألقيت كلمة في الحفل والمراد خطبة، وقد استخدم القرآنُ الكلمة بهذا المعنى في قوله تعالى: { { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا .. } [المؤمنون: 100] والمراد بالكلمة قوله: { { رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ .. } [المؤمنون: 99-100]. وكذلك هنا: { حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر: 71] الكلمة هي { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]. ======================= قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ ٧٢ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (بئْسَ) للذم والمذموم { مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ } [الزمر: 72] أي: إقامتهم ونهايتهم، ووصفهم بالمتكبرين خاصة لأنهم ما وصلوا إلى هذه النهاية إلا بتكبرهم، تكبرهم على مَنْ؟ على ربهم وخالقهم، وعجيب من العبد أن يتكبر أول ما يتكبر على خالقه سبحانه الذي خلقه من عدم وأمده من عُدم. ونلحظ في هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمته تعالى حتى بالكافرين، وكأن الحق سبحانه يفتح لهم باب الأمل في النجاة، ويلمح لهم بإمكانية التوبة، ومهما كان منهم فالباب مفتوح، نفهم ذلك من قوله تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا .. } [الزمر: 72] ولم يقُلْ هنا أبداً كما قال مثلاً في قوله تعالى: { { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن: 23]. ولما أحصى العلماء لفظ الأبدية بالنسبة للكافرين وجدوه في آيتين (هما الأحزاب 65 - الجن 23)، إذن: ذكر كلمة أبداً في بعض الآيات وتركها في البعض الآخر، وفي هذا إطماع لمن لم يصل إلى الحقيقة التي تنجيه ربما تدارك الأمر وأنقذ نفسه وعاد إلى الجادة، أما حين يتكلم الحق سبحانه عن الجنة فتجد كلمة { { خَالِدِينَ فِيهَآ .. } [الجن: 23] غالباً مقرونة بالأبدية. ونلحظ أيضاً قوله تعالى: { ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ .. } [الزمر: 72] ولم يقل: ادخلوا جهنم. فما الفرق بين التعبيرين؟ قال تعالى: { ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ .. } [الزمر: 72] لأن العذاب يبادرهم ويسرع إليهم بمجرد أنْ يدخلوها فهو يستقبلهم على بابها. بعد ذلك ينتقل السياق إلى المقابل، إلى أهل الجنة، لكن لماذا بدأ بأهل النار فقال: { { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً .. } [الزمر: 71] قالوا: بدأ بهم لأنهم هم المنكرون المكذِّبون بالبعث والحساب، فبدأ بهم تعجيلات بعقابهم ومساءتهم، أما المتقون فهم مُصدِّقون بهذا اليوم مؤمنون به، وبما سيكون فيه من حساب وجزاء، ثم إن الختام بالوعد والبشارة فيه استبشارٌ وحُسْن ختام. يقول تعالى: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً ... }. ج======================\ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ ٧٣ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي هنا أيضاً ساقتهم الملائكة مع الفارق بين سَوْق الكافرين وسَوْق المتقين، فالكافرون ساقتهم الملائكة ليعجلوا لهم العذاب سَوْقاً فيه زجر وقسوة، أما المتقون فيُساقون سَوْق المحب لحبيبه ليعجلوا لهم النعيم. وقوله (زمراً) يعني: جماعات كل جماعة على حِدَة، فهؤلاء الزهاد وهؤلاء العلماء وهؤلاء المجاهدون وهؤلاء الأمناء { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا .. } [الزمر: 73] هناك قال (فًتِحَتْ) وهنا (وَفُتِحَتْ) قالوا في أهل النار (فُتِحَتْ) هي جواب الشرط، أما هنا (وَفَتِحَتْ) ليستْ جواباً للشرط، بل جواب الشرط في النعيم المذكور بعدها، لأن فتح الأبواب ليس هو الغاية، إنما الغاية ما يتبع ذلك من النعيم. فالواو هنا عاطفة وجملة { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا .. } [الزمر: 73] معطوفة على { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا .. } [الزمر: 73] ذلك لأن المؤمنين ما كانوا يشكّون في هذا اليوم، أما الكفّار فيشكونَ فيه لذلك جعل { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا .. } [الزمر: 71] جواباً للشرط قبلها. أما في المتقين فجواب الشرط أسمى من مجرد فتح الأبواب لهم، ففتحت هذه مداخل الرحمة التي سيذكرها بعد، ويذكر مكوناتها، وكيف أنها تتدرج بداية من تحية الملائكة لهم: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ .. } [الزمر: 73] لأنكم طهرتم أنفسكم من دنس المعاصي والشرك { فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73] إلى آخر السورة، حيث يروْنَ الملائكة حافّين من حول العرش، وهذا هو جواب الشرط الذي يليق بهم. جماعة أخرى من العلماء قالوا: إن جواب الشرط هو (وفتحت) والواو هذه واو الثمانية، فما المراد بواو الثمانية؟ قالوا: كان منتهى العدد عند العرب سبعة، فإذا جاء شيء بعد السبعة يعدُّونه كلاماً جديداً فيعطفونه بالواو، ومن ذلك قوله تعالى في أهل الكهف: { { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ .. } [الكهف: 22] فقبل الثامن يذكر الواو. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 112] فكلمة الناهون هي الثامنة لذلك سُبقت بالواو. وقال بعضهم: إن من ذلك قوله تعالى في سورة التحريم: { { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [التحريم: 5]. نعم كلمة (أبكاراً) هنا هي الثامنة، لكن الواو جاءت هنا للفصل بين الاثنين، فالثيبات لا يكُنَّ أبداً أبكاراً. إذن: فهذه الآية لا يُحتجّ بها في هذا الموضوع، إنما يُحتج بآية الكهف وآية التحريم، على أن العدد سبعة هو منتهى العدد عند العرب، وكذلك العدد ألف. لذلك لما وقعتْ ابنة كسرى في الأَسْر وذهبتْ لتفدي نفسها، فقالوا لمن أخذها في حصته: كم تطلب فيها؟ قال: ألف دينار، فقالوا له: إنها بنت كسرى. يعني: كان بإمكانك أن تزيد على ذلك فقال: والله لو كنتُ أعلم أن وراء الألف عدداً لقُلْته. ونحن لا نرى هذا الرأي، فكلمة (وَفُتِحَتْ) ليستْ هي جواب الشرط هنا، لأن جواب الشرط بالنسبة للمتقين أسمى من فتح الأبواب لهم وأسمى من قَوْل الملائكة لهم { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ .. } [الزمر: 73] وأسمى من { طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73] لأن الحق سبحانه سيقول بعد ذلك: { { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ .. } [الزمر: 75] فذكر العرش هنا والملائكة تطوف به مُسبِّحة بحمد ربهم فيه إِشارة إلى منتهى النعيم الذي سيلاقيه المتقون، حيث يروْنَ الحق سبحانه الذي استوى على هذا العرش، هذه هي الغاية التي يناسب أن تكون جواباً للشرط السابق. لكن لماذا أخفى اللهُ جوابَ الشرط هكذا؟ قالوا: لأنه لو قالها أي: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" لو قالها الآن لكانت قد سمعت، إنما أراد سبحانه أن تكون مفاجأة على أنها مما لا يخطر على قلب بشر، يعني: لا تأتي على البال. فمثلاً في فاكهة الجنة يأتي لي بالفاكهة التي أعرفها كالتفاح والمانجو مثلاً نحن نعرفها في الدنيا، لأنه لو أتى بفاكهة جديدة لم نعرفها في الدنيا لَقُلْنا: لو كانت في الدنيا لكانت مثل هذا شكلاً وطعماً، لذلك تأتي الفاكهة مما نعرفه في الدنيا، لكن بمواصفات أخرى يتحقق فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر. إذن: التفاضل يأتي من كَوْنها في الجنة، ثم لو جاءت لي الفاكهة في الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكيف لو جاءت للمرة الثانية؟ لا بد أنني سأكون قد رأيتها من قبل وخطرتْ على بالي، فحين أرى المانجو مثلاً أقول: أنا أكلتُها قبل ذلك. قالوا: لا بل ستكون على هيئة أخرى، ولون آخر، وطعم آخر غير الذي أكلتُه في المرة الأولى، وهكذا يتحقق في نعيم الجنة ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ ولا خطر على قلب بشر. لذلك يقول تعالى: { { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً .. } [البقرة: 25]. ================== وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ ٧٤ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي قولهم: { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ .. } [الزمر: 74] أهو حَمْد على صدق الله في الوعد، أم لأنكم بتوفيق الله صدقتم الله فيما وعدكم به؟ المعنى: الحمد لله الذي جعلنا أهلاً لأنْ يصدق وعده فينا لأننا صدَّقنا به، وإلا فوَعْد الله صادق صادق. { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ .. } [الزمر: 74] الإرث هنا له معنىً غير معناه الذي نعرفه بأنْ يرث شخصٌ غيره بعد موته .. فالميراث هنا في الجنة كما قال تعالى في آية أخرى: { { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43]. وبيانُ ذلك كما قلنا أن الحق سبحانه قضى أزلاً أنْ يخلق خلقاً، وأن يترك لهم الاختيار في أشياء، ويجبرهم في أشياء أخرى ليظلوا عبيداً له سبحانه رغم أنوفهم من ناحية وعبيداً فيما يختارون من ناحية. فإنْ آثروا جانب الله تعالى وآثروا مراده على ما وكل فيهم من الاختيار فازوا بمنزلة العبودية لله، وكانوا وقتها أفضل من الملائكة لأن الملائكة جُبلوا على الطاعة أمّا الإنسان فأعطى الاختيار يُطيع أو يعصي، فإنْ أطاع فله أنْ يزهوَ حتى على الملائكة. لذلك كان إبليسُ قبل أنْ يعصي يزهو على الملائكة، وكان يُسمَّى طاووس الملائكة لأنه مخلوق مختار، ومع ذلك أطاع كما أطاعتْ الملائكة فأصبح له مَيْزة عليهم إلى أنْ زلَّ الزلة الأخيرة فأُبعِد وطُرِد من رحمة الله. نقول: لما خلق الله الخَلْقَ مختارين، لهم أنْ يطيعوا، ولهم أنْ يعصوا أعدَّ لهم دار الجزاء في الجنة على اعتبار أنهم جميعاً سيطيعون، فلكل واحد منهم منزلة في الجنة، كذلك أعدَّ لهم في النار أماكن تسعهم جميعاً لو عصوا، فحين يذهب أهل النار إلى النار تخلو أماكنهم في الجنة فأين تذهب؟ يأخذها أهل الجنة أو يرثونها كما قال القرآن. وقوله تعالى: { نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ .. } [الزمر: 74] نقول: تبوأ المكان يعني: نزل به، ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: { { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } [يوسف: 56] فالمعنى: ننزل ونسكن، لكن المسألة ليست بالقوة، كل يذهب حيث يشاء، وليس فيها تعدياً على حقوق الآخرين، فالمعنى: نسكن ما نشاء، كل في جنته وما خصص له لا في جنة غيره، وهذا دليل على أن الجنة الخاصة به واسعة { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [الزمر: 74] نعم للمدح يعني: أجر كبير نالوه بأعمالهم الصالحة. ==================== وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ٧٥ -الزمر أضف للمقارنة خواطر محمد متولي الشعراوي قوله تعالى: { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ .. } [الزمر: 75] يعني: يطوفون حوله { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ .. } [الزمر: 75] فليس لهم عمل إلا التسبيح بحمد ربهم { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ .. } [الزمر: 75] أي: قضى الله بينهم، بين مَنْ؟ بين الملائكة لأنهم أقسام: منهم العالون، وهم المهيمون في الحق سبحانه، وهم لا يدرون شيئاً عن دنيانا ولا عن آدم وذريته. ومنهم المسخرون لخدمة الإنسان وهم الملائكة الحافظون، الذين قال الله عنهم: { { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ .. } [الرعد: 11] وهؤلاء الذين أمرهم الله بالسجود لآدم لا كل الملائكة، فكأن هذا السجود دليلُ خضوع وطاعة لهذا المخلوق الذي ستكونون في خدمته. ومن الملائكة الكرام الكاتبون: { { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10-12]. فمعنى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ .. } [الزمر: 75] يعني: أخذ كلٌّ منهم منزلته والجزاء الذي يستحقه. { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الزمر: 75] مَن القائل؟ قالوا: قالها المؤمنون من البشر، وقالوا: قالها جميع الخلائق، وقالوا: قالها الحق سبحانه، فهي ثناء من الله تعالى على ذاته سبحانه، كما شهد سبحانه لنفسه بأنه { { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ .. } [آل عمران: 18]. فالحق سبحانه حمد نفسه على أنه رب العالمين، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: " ..... لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فهذا ثناء من الله على الله، اللهم اجعلنا دائماً من القائلين الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق