82. ب نو+المقحمات

** ب نوشيرك 8.

 الثانوية العامة ٣ثانوي. /عقوبة من قتل نفسه؟وصف الجنة والحور العين /المدونة التعليمبة الثانية أسماء صلاح ٣.ثانوي عام /الفتن ونهاية العالم /المقحمات ا. /قانون الحق الإلهي اا /القرانيون الفئة الضالة اوه /قواعد وثوابت قرانية /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها اوهو /المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة /مدونة  /الصفحات المقتوحة /الخوف من الله الواحد؟ /قانون ثبات سنة الله في الخلق /اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين /السيرة النبوية /مدونة {استكمال} مدونة قانون الحق الإلهي /مدونة الحائرين الملتاعين. /الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها /عياذا بالله الواحد./  لابثين فيها أحقابا /المدونة المفتوحة /نفحات من سورة الزمر/  /أمَاهُ عافاكِ الله ووالدي ورضي عنكما ورحمكما /ترجمة معان القران /مصنفات اللغة العربية /كتاب الفتن علامات القيامة لابن كثير /قانون العدل الإلهي /الفهرست /جامعة المصاحف /قانون الحق الإلهي /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /تعلم للتفوق بالثانوية العامة /مدونات لاشين /الرافضة /قانون الحق الألهي ٣ /قانون الحق الإلهي٤. /حدود التعاملات /العقائدية بين المسلمين /المقحمات اا. /منصة الصلاة اا /مدونة تخفيف

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

بقية الشروط المانعة للحكم بتكفير المسلمين تتلخص العلاقة بالحكم بالاسلام أو بالكفر علي الناس في طريقن اثنين لا ثالث لهما ۱.أولا العلاقة بين العبد والعبد ۲.ثانيا العلاقة بين العبد وربه

بقية الشروط المانعة للحكم بتكفير المسلمين
تتلخص العلاقة بالحكم بالاسلام أو بالكفر علي الناس في طريقن اثنين لا ثالث لهما
۱.أولا العلاقة بين العبد والعبد
۲.ثانيا العلاقة بين العبد
وربه



أما أولا بين العبد والعبد
الروابط
🌘 قلت المدون: إن دخول المسلمين في دين الله يتم بمقتضي عقدٍ بين المسلم وبين رسوله أو خليفة رسول الله أو كل من ولي أمر المسلمين في دولة الإسلام هذا العقد بين الله وبين عبده قد استوفاه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد تضمن هذا العقد أن يشهد الداخل إلي الإسلام:  
1.أن لا إله إلا الله   
2.وأن محمدا رسول الله   
3.وأن يقيم الصلاة
4.وأن يؤتي الزكاة  
5.وأن يصوم رمضان
6.وأن يحج البيت إن استطاع إلي ذلك سبيلا
7.ثم آخر شرط في عقد الاسلام وهو أن لا ينقض حق ذلك وإلا فنقض حق ذلك سيهدم العقد علي رأس صاحبه لكن ......تري ما هي هذه النواقض للاسلام وهل من السهل علي أمة الاسلام أن ينقض فيها مسلم إسلامه بهذه السهولة ؟؟؟
🌘هل ينقض العقد بمعصية كما فعل الخوارج؟
🌘أو هل ينقض عقد الاسلام مجرد حمل السلاح علي المسلمين من صاحب عقد الاسلام  ،أو من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم أو من غشنا لقول رسول الله من غشنا فليس منا أو.. كل نصوص نفي الايمان
🌘أو هل يكفي تصور أصحاب التكفير بتصوراتهم إخراج المسلمين من نطاق الاسلام  بمحرد تصوراتهم ؟
🌘أم ان الإسلام كما وضع شروطاً للبيعة وصياغة عقد الاسلام بين المسلم وبين ربه قد شدد علي عدم إخراج المسلمين من كيان الاسلام المُشَيَدَ في نفوسهم قبل واقعهم  وفي حالهم قبل كيانهم ؟
والواقع أن دخول الاسلام كما يبدو سهلاً كما هو كذلك سهل ويكفي فيه الإعلان ابتداءا قبول عقد التسليم لله الواحد علي أن يقوم المسلم بأداء فرائض الاسلام كلها ويمتنع عن نقض أحدها فكلما جد وحان وقت فروضها (كل الفروض) وجب أداء الفرض الذي جد وقته وحان تطبيقه، لكن الله تعالي الحكيم الخبير العلي العظيم الرحمن الرحيم قد تَرَّس متاريساً حول إخراج المسلم من حيِّز إسلامه  بشروطٍ قد يبدو للناظرين قسوة تنفيذها في أكثر الأحيان فمن هذه الشروط :
     1.أن يكون المسلم عالما بما هو مقدم عليه من وشوكه علي نقد العقد الاسلامي بينه وبين الله
     2.وأن يكون القائم علي الحكم علي المسلم  بالتكفير بنفس علم صاحب العقد  بما هو مقدم عليه لا يقل علمه عنه شيئا وهو مالا يمكن تحقيقه إلا بتصريح المتعاقد علي الاسلام {يعني المسلم} بما ينوي عليه من جنوح آتٍ محققا لنقضه للاسلام طواعية وعمدا وتصميماً  وهو مالا يحدث اليوم إلا في أضيق الظروف.

     3.أن يتأكد المتعاقد علي الاسلام{يعني المسلم} بكل شروط نقض الاسلام حتي يُقدِّم المعاقِب منتهي اعذاره للمسلم موضوع العقد ومنتهي إعذار الذي سيحكم بإخراجه من دائرة الإسلام وما لم يحدث ذلك لا يحدث الحكم بالخروج من الاسلام مطلقا، ولا يستطيع أحدٌ من الناس إخراجه منه.
     4.التأكد التام بأن الرجل موضوع الحكم  من أنه يعلم تماما خطورة اقدامه علي نقض الاسلام بقدر الذرة إلي نهاية علمه  وحجمه وقدره ولو كان عظيماً وهذا مالا يمكن للشخص المتعاقد علي التسليم .... ولا مفر للحاكم عليه أن يعلم بنفس القدر أنه يعلم ذلك  دون أن يكون واقعاً في  قيود أو تحت إكراه أو اضطرار أو جهالة  فإذا وارب الأمر ذرة شك فلا تكفير لأن الحكم علي المسلم إذن هو تمزيق كامل لعقد اسلامه الذي أبرمه هو مع ربه 
     5.كما يجب العلم المتبادل بينهما بتوافر :
 أ).كل ظروف العلم التام بالاسلام ونواقضه ب).والاسلام وفروضه 
ج).والاسلام المُبَرِر للمضطرين ارتكاب المخالفة تحت وطأة الضرورة... وجودها من عدمها
د).والاسلام المبيح للمكرهين فعل الباطل تحت وطأة إكراههم هل هو مكره أو غير مكره...وهكذا فلن يتم تعرية الإسلام عن المسلم بغير هذه الشروط جيعا والتي يكاد يكون مستحيلا توفيرها بين الحاكم بنقض الاسلام وبين المحكوم لذلك يكون من أصعب الأمور تحقيق هذا.
     6.تجلية نفس المسلم المضطر بحقيقة الاضطرار أمام الناس وأنه لو كان في اضطرارٍ ولو بقدرٍ فلا يمكن تكفيره قط.
    7. أو قد تكون المخالفة مناورة قصد بها المسلم المخالف إفادة الاسلام كدين أو المسلمين ككيان بتطويع نفسه للباطل حينا دون أن يعرف بذلك أحد من الناس  حتي يستطيع تطويع الواقع حوله للاسلام من باب أوسع وظروف أدعم لدينه وكيانه ودولته وهذا الذي يحدث مع القائمين بمهام رفيعة المستوي لخدمة الدولة ودين الله  فكيف يُطلق عليه التكفير وهو في حقيقة الأمر من أرفع المسلمين شأنا وأجلهم حالا ومألا
     8.وأن لا يكون صفة المخالفة البواح في الفعل والمجاهرة بالمعصية وأن يكون للحكم عليه عند من يكفرونه برهانا من الله علي كفره هذا وهو معني[عنده فيه من الله برهان]والبرهان هو الدليل المجرد عن الاهواء والعصبيات والتأويلات والمذاهب ومناهج الفرق علي اختلاف مذاهبهم  أي هو دليل لكي يتصدر دعم الحكم عليه بالكفر إذن لابد أن يتوفر فيه:     
         أ ) الشيوع  
        ب)سطوع البرهان
        ج)البواح في الإعلان
      د )هذا كله مع تطبيق شروط نقد العقد السابق بيانها في الاسطر السابقة الصفوف من( 1 الي 8 )
9.توافر شرط الاستقرار الدال علي منتهي علم المتعاقد علي الاسلام بالرفض أو القبول لدين الاسلام مع منتهي العلم بحقيقة أعذاره واضطراره أو مدي إكراهه علي المخالفة أو هل هناك غاية تدعوه إلي ذلك من خدمة لدين الله ودولة الاسلام القائم فيها وهل استقر أمره نهائيا علي وضعة سلبا أو ايجابا... ولا يصلح غير ذلك وقد رأي النبي صلي الله عليه وسلم رجلا يصلي ثم بعد أن صلي قال له ارجع فصل فإنك لم تُصل فرجع الرجل وصلي ورجع فقال له النبي مثلما قال حتي ثلاث مرات ثم لما رجع فقال له الرجل والله ما تقن غير هذا فذهب رسول الله يعلمه الاستقرار في أداء الفرض....وهكذا فكل فرض لا يصلح دون أن يستقر عليه صاحبه حتي يتقنه وكذلك نهاية الحكم علي المتعاقد علي الاسلام هل استقر علي الرفض للاسلام أو لم يتحقق هذا الاستقرار بالرفض؟!! 
   إن المتعاقد علي التسليم لله في منهج الاسلام لا يُخرجه من الاسلام إلا رب الإسلام في هذه الظروف وهذه الأيام ولا يمكن شيئا بعد هذا لأن كلمة الله ودينه أولي بالعذر من مناهج البشر وحماية المسلم تكليف لمحمد صلي الله عليه وسلم فوق أي تكليف آخر ....ألم تر كيف عاتب الله تعالي محمدا صلي الله عليه وسلم لمجرد أنه أعرض عن مسلم جاءه يريد أن يَذَّكي أو يَذَّكر فتنفعه الذكري كما جاء العتاب القاسي للنبي صلي الله عليه وسلم  في شأن عبد الله بن أم مكتوم الأعمي.
اما حديث المسيئ صلاته :
باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة
760 حدثنا مسدد قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها .
قلت المدون وهكذا فالحكم علي مسلمٍ بالكفر أهم من فريضة الصلاة ولا يصلح الحكم عليه بالكفر حتي يستقر في منظوره ومنظور الناس جميعا كفره وما لم يحدث الإستقرار المحقق لغاية الخروج من الاسلام فلا يمكن الجكم بالكفر علي صاحب العقد والمستحوذ علي الحكم بالاسلام قبلا..وهذا كما لم يصلح قبول صلاة المسيئ صلاته لعدم استيفائها شرط الاستقرار المحقق لقبول الفريضة .
.....................
قلت المدون وهذا الأمر بضوابطه يعني فقط حفظ عرض ومال ونفس المسلم المتعاقد علي الاسلام أي في ظاهر الأمر بين العبد ومجتمعه يعني بتوصيف العلاقة البينية التي هي بين العبد والعبد وقد يكون هذا المسلم محفوظ القيمة والقدر كمسلم بين المسلمين وبينه لكنه منحط القدر بينه وبين الله الواحد وقد رأينا عبد الله بن سلول كبير المنافقين وقد حفظ النبي صلي الله عليه وسلم ماله وعرضه ودمه وأبي أن يخرجه من الاسلام بينما قد كرهه الله تعالي وحكم هو سبحانه عليه بالكفر ومات علي كفره القلبي وعلَّم الله نبيَّه أن لا يؤاخذ الناس إلا بضوابط الاسلام الظاهر بين العبد والعبد أما مابين الله والعبد فله معاير أخري المثقال من الذرة فيها قاضٍ علي صاحبها أمام الله تعالي بفرق أمره يوم القيامة كما تفرق الشعرة حد الشيئ. وليس أدل علي ذلك في قسمة العلاقة البشرية إلي قسمين الأولي  بين العبد   والعبد  والثانية بين العبد   وربه مما فعله النبي صلي الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب في شأنه مع عبد الله بن أبي بن سلول حين قال دعني أضرب عنقه يا رسول الله فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).} 
ونورد منهجا كاملا لسلوك المسلمين لغيرهم من المنافقين والذي يختلف بحكم الواقع عن سلوك الله رب العالمين معهم  فنقول: إن خطر المنافق على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد، ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} (النساء:145). وقد حذر الإسلام من خطورة النفاق والمنافقين‏ علي المجتمع‏ الإسلامي,‏ وأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم سورة سميت بسورة "المنافقون"‏, وفيها ذكر لبعض صفاتهم، قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون:4:1).

فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ودخول كثير من أهلها في الإسلام، أصبح للمسلمين دولة، واجه النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى جانب عداء ومكر اليهود الذين كانوا يقيممون فيها، عداءً من نوع جديد، لم يكن للمسلمين عهد به في مكة، وهو النفاق والمنافقون، إذ أن معسكر المنافقين لم يتكون إلا بعد الانتصار الكبير للمسلمين في غزوة بدر، وقتل صناديد كفار قريش، وكان على رأس هؤلاء المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، الذي لم تطاوعه نفسه أن يُسْلِم لله عز وجل بسبب حقده وحسده، وضياع مكانته التي كان يتطلع إليها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة. قال ابن هشام في السيرة النبوية: "قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيّد أهلها عبد الله بن أبيّ بن سلول العوفيّ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه، ثمّ يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام، ضغن (حقد)، ورأى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلمّا رأى قومه قد أبوا إلّا الإسلام دخل فيه كارها، مصرّا على نفاق وضغن".

ومع أن المنافقين ـ الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر ـ أشد كفراً وأكثر خطراً من المشركين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم, مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته صلوات الله وسلامه عليه معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: "أما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين, فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم, ويكِل (يترك) سرائرهم إلى الله, وأن يُجاهدهم بالعلم والحجة".
وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم{
لا لشيئ إلا أنهم حافظوا علي الشرط الظاهر لاستيفاء فروض الاسلام ولو بالكذب والنفاق}، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه صلى الله عليه وسلم إلى الحد الذي يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يطالبونه بقتلهم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان متمسكاً بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، والأمثلة والمواقف الدالة على ذلك من السيرة النبوية كثيرة، منها:

ـ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية (كساء غليظ منسوب إلى فَدَك)، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج (منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة) قبل وقعة بدر، قال حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط (أنواع وجماعات)، من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة (غبار) الدابة خمَّر (غطى) عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم (يسكتهم) حتي سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب (عبد الله بن أُبَيّ)، قال كذا وكذا؟ قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة (المدينة المنورة) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (يجعلوه سيدا عليهم)، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ (حقد) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت (من فعله وقوله القبيح)، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذي. قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (آل عمران: 186)، وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 109)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول صلى الله عليه وسلم بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد تُوجِّه (ظهر فلا مطمع في إزالته)، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإِسلام فأسلموا).

ـ وعن جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منه ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل،
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) رواه مسلم.

ـ وروى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم،
فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عقاب المنافقين لمصلحة تأليف القلوب، وإخماد الفتن، ولعدم تنفير الناس عن الإسلام، فقد كان المجتمع الخارجي المحيط بالمسلمين في المدينة المنورة، ينظر إلى هذا الدين الجديد ـ الإسلام ـ، وهذه الدولة الوليدة في المدينة المنورة، بنظرة حذر وترقب وترصد لقرارات قائدها، وتعاملاته وأخلاقه، بل وصل الحد بهم إلى أن بحثوا وسألوا في سيرة هذا النبي الجديد، وفي نسبه ومولده، ونشأته وأخلاقه، كما جاء في الحوار المشهور الذي دار بين أبي سفيان زعيم قريش ـ قبل إسلامه ـ وهرقل ملك الروم. قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل: ما قامت عليهم بينة، بل قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)". وقال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه".
 
🌑 وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم، قال القاضي: واختلف العلماء هل بقي حكم الإغضاء عنهم وترك قتالهم، أو نُسِخَ ذلك عند ظهور الإسلام ونزول قوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} (التوبة:73)، وأنها ناسخة لما قبلها. وقيل قول ثالث: أنه إنما كان العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم فإذا أظهروه قُتِلُوا".

🌑 ومن الدروس المستفادة من السيرة النبوية بيان أسلوب وطريقة وحكمة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، مع بيان خطورتهم، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين والمحاربين، لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون من كفر، ويعملون ويكيدون في الخفاء، ولهذا قال الله عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (المنافقون: 4)
 ...................... 
التعليق الأخلاقي لتعامل المسلمين مع المسلمين:
من المعلوم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أسوة لنا في أقواله وأفعاله، وكان صلوات الله وسلامه عليه يعلم أصحابه العبادة تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بهما معا، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحج: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم، وقال في الوضوء: (من توضأ نحو وضوئي هذا ..) رواه مسلم، وقال في الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، قال المباركفوري: "قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي في مراعاة الشروط والأركان والسنن والآداب".

وكان صلى الله عليه وسلم في تعليمه وتربيته لأصحابه أرفق الناس، وأبعدهم عن الفظاظة والغلظة، وهذا ما نوَّه به القرآن الكريم عند الإشارة إلى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)، قال ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم، مُمْتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألَاَن به قلبه على أمته .. وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به.. قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الفظ: الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: (إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه البخاري".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم. وقال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: "بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه".

والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف التربوية المضيئة، التي ترشد إلى هديه صلى الله عليه وسلم وطريقته في تعليمه لمن جهل أو أخطأ، ومن هذه المواقف ما رواه البخاري ومسلم في الحديث المشهور ـ المسيء صلاته ـ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ (خلاد بن رافع) فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنك لم تُصَلّ ، فرجع فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره، فعلمني، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري. قال ابن الجوزي: "وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع منهما".

وفي هذا الموقف النبوي مع المسيء صلاته فوائد كثيرة، منها:
ـ ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو يراقب أفعالهم ليعلمهم ويرشدههم.
ـ من قام عن قوم لحاجته، ثم عاد إليهم فإنه يسلم عليهم وإن لم يكن قد غاب عنهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ خلاد بن رافع (المسيء في صلاته) على إلقائه السلام حين رجع فصارت سنة تقريرية، ومن المعلوم كذلك أن من السنة أن يسلم الأخ على أخيه وهو معه إذا حال بينهما حجر أو شجر أو جدار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه) رواه أبو داود.

ـ ومن الفوائد أيضاً كما قال ابن حجر: "وجوب الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة .. وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه، وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال .. وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه، وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ".
-----------------------

بقية الشروط المانعة للحكم بتكفير المسلمين تتلخص العلاقة بالحكم بالاسلام أو بالكفر علي الناس في طريقن اثنين لا ثالث لهما ۱.أولا العلاقة بين العبد والعبد ۲.ثانيا العلاقة بين العبد وربه

بقية الشروط المانعة للحكم بتكفير المسلمين
تتلخص العلاقة بالحكم بالاسلام أو بالكفر علي الناس في طريقن اثنين لا ثالث لهما
۱.أولا العلاقة بين العبد والعبد
۲.ثانيا العلاقة بين العبد
وربه



أما أولا بين العبد والعبد
الروابط
🌘 قلت المدون: إن دخول المسلمين في دين الله يتم بمقتضي عقدٍ بين المسلم وبين رسوله أو خليفة رسول الله أو كل من ولي أمر المسلمين في دولة الإسلام هذا العقد بين الله وبين عبده قد استوفاه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد تضمن هذا العقد أن يشهد الداخل إلي الإسلام:  
1.أن لا إله إلا الله   
2.وأن محمدا رسول الله   
3.وأن يقيم الصلاة
4.وأن يؤتي الزكاة  
5.وأن يصوم رمضان
6.وأن يحج البيت إن استطاع إلي ذلك سبيلا
7.ثم آخر شرط في عقد الاسلام وهو أن لا ينقض حق ذلك وإلا فنقض حق ذلك سيهدم العقد علي رأس صاحبه لكن ......تري ما هي هذه النواقض للاسلام وهل من السهل علي أمة الاسلام أن ينقض فيها مسلم إسلامه بهذه السهولة ؟؟؟
🌘هل ينقض العقد بمعصية كما فعل الخوارج؟
🌘أو هل ينقض عقد الاسلام مجرد حمل السلاح علي المسلمين من صاحب عقد الاسلام  ،أو من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم أو من غشنا لقول رسول الله من غشنا فليس منا أو.. كل نصوص نفي الايمان
🌘أو هل يكفي تصور أصحاب التكفير بتصوراتهم إخراج المسلمين من نطاق الاسلام  بمحرد تصوراتهم ؟
🌘أم ان الإسلام كما وضع شروطاً للبيعة وصياغة عقد الاسلام بين المسلم وبين ربه قد شدد علي عدم إخراج المسلمين من كيان الاسلام المُشَيَدَ في نفوسهم قبل واقعهم  وفي حالهم قبل كيانهم ؟
والواقع أن دخول الاسلام كما يبدو سهلاً كما هو كذلك سهل ويكفي فيه الإعلان ابتداءا قبول عقد التسليم لله الواحد علي أن يقوم المسلم بأداء فرائض الاسلام كلها ويمتنع عن نقض أحدها فكلما جد وحان وقت فروضها (كل الفروض) وجب أداء الفرض الذي جد وقته وحان تطبيقه، لكن الله تعالي الحكيم الخبير العلي العظيم الرحمن الرحيم قد تَرَّس متاريساً حول إخراج المسلم من حيِّز إسلامه  بشروطٍ قد يبدو للناظرين قسوة تنفيذها في أكثر الأحيان فمن هذه الشروط :
     1.أن يكون المسلم عالما بما هو مقدم عليه من وشوكه علي نقد العقد الاسلامي بينه وبين الله
     2.وأن يكون القائم علي الحكم علي المسلم  بالتكفير بنفس علم صاحب العقد  بما هو مقدم عليه لا يقل علمه عنه شيئا وهو مالا يمكن تحقيقه إلا بتصريح المتعاقد علي الاسلام {يعني المسلم} بما ينوي عليه من جنوح آتٍ محققا لنقضه للاسلام طواعية وعمدا وتصميماً  وهو مالا يحدث اليوم إلا في أضيق الظروف.

     3.أن يتأكد المتعاقد علي الاسلام{يعني المسلم} بكل شروط نقض الاسلام حتي يُقدِّم المعاقِب منتهي اعذاره للمسلم موضوع العقد ومنتهي إعذار الذي سيحكم بإخراجه من دائرة الإسلام وما لم يحدث ذلك لا يحدث الحكم بالخروج من الاسلام مطلقا، ولا يستطيع أحدٌ من الناس إخراجه منه.
     4.التأكد التام بأن الرجل موضوع الحكم  من أنه يعلم تماما خطورة اقدامه علي نقض الاسلام بقدر الذرة إلي نهاية علمه  وحجمه وقدره ولو كان عظيماً وهذا مالا يمكن للشخص المتعاقد علي التسليم .... ولا مفر للحاكم عليه أن يعلم بنفس القدر أنه يعلم ذلك  دون أن يكون واقعاً في  قيود أو تحت إكراه أو اضطرار أو جهالة  فإذا وارب الأمر ذرة شك فلا تكفير لأن الحكم علي المسلم إذن هو تمزيق كامل لعقد اسلامه الذي أبرمه هو مع ربه 
     5.كما يجب العلم المتبادل بينهما بتوافر :
 أ).كل ظروف العلم التام بالاسلام ونواقضه ب).والاسلام وفروضه 
ج).والاسلام المُبَرِر للمضطرين ارتكاب المخالفة تحت وطأة الضرورة... وجودها من عدمها
د).والاسلام المبيح للمكرهين فعل الباطل تحت وطأة إكراههم هل هو مكره أو غير مكره...وهكذا فلن يتم تعرية الإسلام عن المسلم بغير هذه الشروط جيعا والتي يكاد يكون مستحيلا توفيرها بين الحاكم بنقض الاسلام وبين المحكوم لذلك يكون من أصعب الأمور تحقيق هذا.
     6.تجلية نفس المسلم المضطر بحقيقة الاضطرار أمام الناس وأنه لو كان في اضطرارٍ ولو بقدرٍ فلا يمكن تكفيره قط.
    7. أو قد تكون المخالفة مناورة قصد بها المسلم المخالف إفادة الاسلام كدين أو المسلمين ككيان بتطويع نفسه للباطل حينا دون أن يعرف بذلك أحد من الناس  حتي يستطيع تطويع الواقع حوله للاسلام من باب أوسع وظروف أدعم لدينه وكيانه ودولته وهذا الذي يحدث مع القائمين بمهام رفيعة المستوي لخدمة الدولة ودين الله  فكيف يُطلق عليه التكفير وهو في حقيقة الأمر من أرفع المسلمين شأنا وأجلهم حالا ومألا
     8.وأن لا يكون صفة المخالفة البواح في الفعل والمجاهرة بالمعصية وأن يكون للحكم عليه عند من يكفرونه برهانا من الله علي كفره هذا وهو معني[عنده فيه من الله برهان]والبرهان هو الدليل المجرد عن الاهواء والعصبيات والتأويلات والمذاهب ومناهج الفرق علي اختلاف مذاهبهم  أي هو دليل لكي يتصدر دعم الحكم عليه بالكفر إذن لابد أن يتوفر فيه:     
         أ ) الشيوع  
        ب)سطوع البرهان
        ج)البواح في الإعلان
      د )هذا كله مع تطبيق شروط نقد العقد السابق بيانها في الاسطر السابقة الصفوف من( 1 الي 8 )
9.توافر شرط الاستقرار الدال علي منتهي علم المتعاقد علي الاسلام بالرفض أو القبول لدين الاسلام مع منتهي العلم بحقيقة أعذاره واضطراره أو مدي إكراهه علي المخالفة أو هل هناك غاية تدعوه إلي ذلك من خدمة لدين الله ودولة الاسلام القائم فيها وهل استقر أمره نهائيا علي وضعة سلبا أو ايجابا... ولا يصلح غير ذلك وقد رأي النبي صلي الله عليه وسلم رجلا يصلي ثم بعد أن صلي قال له ارجع فصل فإنك لم تُصل فرجع الرجل وصلي ورجع فقال له النبي مثلما قال حتي ثلاث مرات ثم لما رجع فقال له الرجل والله ما تقن غير هذا فذهب رسول الله يعلمه الاستقرار في أداء الفرض....وهكذا فكل فرض لا يصلح دون أن يستقر عليه صاحبه حتي يتقنه وكذلك نهاية الحكم علي المتعاقد علي الاسلام هل استقر علي الرفض للاسلام أو لم يتحقق هذا الاستقرار بالرفض؟!! 
   إن المتعاقد علي التسليم لله في منهج الاسلام لا يُخرجه من الاسلام إلا رب الإسلام في هذه الظروف وهذه الأيام ولا يمكن شيئا بعد هذا لأن كلمة الله ودينه أولي بالعذر من مناهج البشر وحماية المسلم تكليف لمحمد صلي الله عليه وسلم فوق أي تكليف آخر ....ألم تر كيف عاتب الله تعالي محمدا صلي الله عليه وسلم لمجرد أنه أعرض عن مسلم جاءه يريد أن يَذَّكي أو يَذَّكر فتنفعه الذكري كما جاء العتاب القاسي للنبي صلي الله عليه وسلم  في شأن عبد الله بن أم مكتوم الأعمي.
اما حديث المسيئ صلاته :
باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة
760 حدثنا مسدد قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها .
قلت المدون وهكذا فالحكم علي مسلمٍ بالكفر أهم من فريضة الصلاة ولا يصلح الحكم عليه بالكفر حتي يستقر في منظوره ومنظور الناس جميعا كفره وما لم يحدث الإستقرار المحقق لغاية الخروج من الاسلام فلا يمكن الجكم بالكفر علي صاحب العقد والمستحوذ علي الحكم بالاسلام قبلا..وهذا كما لم يصلح قبول صلاة المسيئ صلاته لعدم استيفائها شرط الاستقرار المحقق لقبول الفريضة .
.....................
قلت المدون وهذا الأمر بضوابطه يعني فقط حفظ عرض ومال ونفس المسلم المتعاقد علي الاسلام أي في ظاهر الأمر بين العبد ومجتمعه يعني بتوصيف العلاقة البينية التي هي بين العبد والعبد وقد يكون هذا المسلم محفوظ القيمة والقدر كمسلم بين المسلمين وبينه لكنه منحط القدر بينه وبين الله الواحد وقد رأينا عبد الله بن سلول كبير المنافقين وقد حفظ النبي صلي الله عليه وسلم ماله وعرضه ودمه وأبي أن يخرجه من الاسلام بينما قد كرهه الله تعالي وحكم هو سبحانه عليه بالكفر ومات علي كفره القلبي وعلَّم الله نبيَّه أن لا يؤاخذ الناس إلا بضوابط الاسلام الظاهر بين العبد والعبد أما مابين الله والعبد فله معاير أخري المثقال من الذرة فيها قاضٍ علي صاحبها أمام الله تعالي بفرق أمره يوم القيامة كما تفرق الشعرة حد الشيئ. وليس أدل علي ذلك في قسمة العلاقة البشرية إلي قسمين الأولي  بين العبد   والعبد  والثانية بين العبد   وربه مما فعله النبي صلي الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب في شأنه مع عبد الله بن أبي بن سلول حين قال دعني أضرب عنقه يا رسول الله فيما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).} 
ونورد منهجا كاملا لسلوك المسلمين لغيرهم من المنافقين والذي يختلف بحكم الواقع عن سلوك الله رب العالمين معهم  فنقول: إن خطر المنافق على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد، ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} (النساء:145). وقد حذر الإسلام من خطورة النفاق والمنافقين‏ علي المجتمع‏ الإسلامي,‏ وأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم سورة سميت بسورة "المنافقون"‏, وفيها ذكر لبعض صفاتهم، قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون:4:1).

فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ودخول كثير من أهلها في الإسلام، أصبح للمسلمين دولة، واجه النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى جانب عداء ومكر اليهود الذين كانوا يقيممون فيها، عداءً من نوع جديد، لم يكن للمسلمين عهد به في مكة، وهو النفاق والمنافقون، إذ أن معسكر المنافقين لم يتكون إلا بعد الانتصار الكبير للمسلمين في غزوة بدر، وقتل صناديد كفار قريش، وكان على رأس هؤلاء المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، الذي لم تطاوعه نفسه أن يُسْلِم لله عز وجل بسبب حقده وحسده، وضياع مكانته التي كان يتطلع إليها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة. قال ابن هشام في السيرة النبوية: "قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيّد أهلها عبد الله بن أبيّ بن سلول العوفيّ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه، ثمّ يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام، ضغن (حقد)، ورأى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلمّا رأى قومه قد أبوا إلّا الإسلام دخل فيه كارها، مصرّا على نفاق وضغن".

ومع أن المنافقين ـ الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر ـ أشد كفراً وأكثر خطراً من المشركين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم, مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته صلوات الله وسلامه عليه معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: "أما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين, فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم, ويكِل (يترك) سرائرهم إلى الله, وأن يُجاهدهم بالعلم والحجة".
وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم{
لا لشيئ إلا أنهم حافظوا علي الشرط الظاهر لاستيفاء فروض الاسلام ولو بالكذب والنفاق}، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه صلى الله عليه وسلم إلى الحد الذي يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يطالبونه بقتلهم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان متمسكاً بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، والأمثلة والمواقف الدالة على ذلك من السيرة النبوية كثيرة، منها:

ـ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية (كساء غليظ منسوب إلى فَدَك)، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج (منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة) قبل وقعة بدر، قال حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط (أنواع وجماعات)، من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة (غبار) الدابة خمَّر (غطى) عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم (يسكتهم) حتي سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب (عبد الله بن أُبَيّ)، قال كذا وكذا؟ قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة (المدينة المنورة) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (يجعلوه سيدا عليهم)، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ (حقد) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت (من فعله وقوله القبيح)، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذي. قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (آل عمران: 186)، وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 109)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول صلى الله عليه وسلم بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد تُوجِّه (ظهر فلا مطمع في إزالته)، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإِسلام فأسلموا).

ـ وعن جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منه ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل،
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) رواه مسلم.

ـ وروى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة (بني المصطلق) فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم،
فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عقاب المنافقين لمصلحة تأليف القلوب، وإخماد الفتن، ولعدم تنفير الناس عن الإسلام، فقد كان المجتمع الخارجي المحيط بالمسلمين في المدينة المنورة، ينظر إلى هذا الدين الجديد ـ الإسلام ـ، وهذه الدولة الوليدة في المدينة المنورة، بنظرة حذر وترقب وترصد لقرارات قائدها، وتعاملاته وأخلاقه، بل وصل الحد بهم إلى أن بحثوا وسألوا في سيرة هذا النبي الجديد، وفي نسبه ومولده، ونشأته وأخلاقه، كما جاء في الحوار المشهور الذي دار بين أبي سفيان زعيم قريش ـ قبل إسلامه ـ وهرقل ملك الروم. قال ابن القيم: "والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل: ما قامت عليهم بينة، بل قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)". وقال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه".
 
🌑 وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معه من عشائرهم، قال القاضي: واختلف العلماء هل بقي حكم الإغضاء عنهم وترك قتالهم، أو نُسِخَ ذلك عند ظهور الإسلام ونزول قوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} (التوبة:73)، وأنها ناسخة لما قبلها. وقيل قول ثالث: أنه إنما كان العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم فإذا أظهروه قُتِلُوا".

🌑 ومن الدروس المستفادة من السيرة النبوية بيان أسلوب وطريقة وحكمة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، مع بيان خطورتهم، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين والمحاربين، لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون من كفر، ويعملون ويكيدون في الخفاء، ولهذا قال الله عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (المنافقون: 4)
 ...................... 
التعليق الأخلاقي لتعامل المسلمين مع المسلمين:
من المعلوم أن النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أسوة لنا في أقواله وأفعاله، وكان صلوات الله وسلامه عليه يعلم أصحابه العبادة تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بهما معا، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحج: (خذوا عني مناسككم) رواه مسلم، وقال في الوضوء: (من توضأ نحو وضوئي هذا ..) رواه مسلم، وقال في الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، قال المباركفوري: "قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي في مراعاة الشروط والأركان والسنن والآداب".

وكان صلى الله عليه وسلم في تعليمه وتربيته لأصحابه أرفق الناس، وأبعدهم عن الفظاظة والغلظة، وهذا ما نوَّه به القرآن الكريم عند الإشارة إلى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)، قال ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم، مُمْتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألَاَن به قلبه على أمته .. وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به.. قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الفظ: الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: (إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه البخاري".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم. وقال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: "بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه".

والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف التربوية المضيئة، التي ترشد إلى هديه صلى الله عليه وسلم وطريقته في تعليمه لمن جهل أو أخطأ، ومن هذه المواقف ما رواه البخاري ومسلم في الحديث المشهور ـ المسيء صلاته ـ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ (خلاد بن رافع) فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنك لم تُصَلّ ، فرجع فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجِعْ فصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره، فعلمني، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري. قال ابن الجوزي: "وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع منهما".

وفي هذا الموقف النبوي مع المسيء صلاته فوائد كثيرة، منها:
ـ ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو يراقب أفعالهم ليعلمهم ويرشدههم.
ـ من قام عن قوم لحاجته، ثم عاد إليهم فإنه يسلم عليهم وإن لم يكن قد غاب عنهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ خلاد بن رافع (المسيء في صلاته) على إلقائه السلام حين رجع فصارت سنة تقريرية، ومن المعلوم كذلك أن من السنة أن يسلم الأخ على أخيه وهو معه إذا حال بينهما حجر أو شجر أو جدار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه) رواه أبو داود.

ـ ومن الفوائد أيضاً كما قال ابن حجر: "وجوب الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة .. وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه، وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال .. وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه، وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ".
-----------------------

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

فضائل مصر المحروسة


فضائل مصر المحروسة

بسم الله الرحمن الرحيم
وبالله التوفيق والإعانة
أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد المعدل المعروف بابن النحاس أخبرنا عمر بن أبي محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري رحمه الله، قال: هذا كتاب أمر بجمعه وحض على تأليفه أبو المسك كافور، يذكر فيه مصر وما خصها الله به من الفضل والبركات والخيرات، على سائر البلدان، فزاد الله الأستاذ رغبة في العلم، ولأهله محبة، وعليه مثابرة وشهوة، فمثله رغب في مثله، وحث على جمعه. إذ كان أردشير زمانه في السياسة والعمارة، وواحد دهره في عدله ورأفته، ورفقه برعيته، فلا أزال الله عنا ظله، وأمتعنا ببقائه، ودوام أيامه، وجعل ما خصه به من الفضل في دنياه، موصولا بأخراه.
فجمعت ما أمر به من كتب شيوخ المصريين وغيرهم من أهل العلم والخبرة، والبحث والذكاء والفطنة، والتفتيش والرحلة والطلب.
فمن مشهوريهم: يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر. وبعدهما: الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة.
وبعدهما: سعيد بن كثير بن عفير، وعثمان بن صالح السهمي.
وبعدهما: خلف بن ربيعة، وعبد الرحمن بن ميسرة، وأحمد بن يحيى بن الوزير، وأبو خيثمة علي بن عمرو بن خالد.
وبعد هذه الطبقة: يحيى بن عثمان بن صالح، وعبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير.
وبعدهما: علي بن الحسن بن خلف بن قديد، ومحمد بن الربيع ابن سليمان الجيزي.
وبعدهما: أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى فأعلمت نفسي فيما تأدى إلى من الأخبار لمن ذكرتهم ورواياتهم، وألفته واختصرت المتون، وأسقطت الأسانيد؛ لتتسق أخباره، ويسهل استماعه، وتقرب فائدته، على اسم الله وعونه والصلاة على نبينا محمد وعلى آله.
فضل مصر على غيرها
فأقول: فضل الله مصر على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضل على ضربين: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعا، وقد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه بالكرم وعظم المنزلة وذكرها باسمها وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم، تنبئ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيداً، ومع ذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في مصر وفي عجمها خاصة وذكره لقرابته ورحمهم ومباركته عليهم وعلى بلدهم وحثه على برهم ما لم يرو عنه في قوم من العجم غيرهم، وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه مع ما خصها الله به من الخصب والفضل وما أنزل فيها من البركات وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب بما لم يخصص الله به بلداً غيرها، ولا أرضا سواها، فإن ثرب علينا مثرب بذكر الحرمين، أو شنع مشنع، فللحرمين فضلهما الذي لا يدفع، وما خصهما الله به مما لا ينكر من موضع بيته الحرام، وقبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس ما فضلهما الله به بباخس فضل مصر ولا بناقص منزلتها، وإن منافعها في الحرمين لبينة لأنها تميرهما بطعامها وخصبها وكسوتها وسائر مرافقها، فلها بذلك فضل كبير، ومع ذلك فإنها تطعم أهل الدنيا ممن يرد إليها من الحاج طول مقامهم يأكلون ويتزودون من طعامها من أقصى جنوب الأرض وشمالها ممن كان من المسلمين في بلاد الهند والأندلس وما بينهما، لا ينكر هذا منكر، ولا يدفعه دافع، وكفى بذلك فضلا وبركة في دين ودنيا.
ذكر ما ورد في فضل مصر
فأما ما ذكره الله عز وجل في كتابه مما اختصرناه من ذكر مصر. فقول الله تعالى: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة " وما ذكره الله عز وجل حكاية عن قول يوسف: " ادخلوا مصر إن شاء الله أمنين " وقال عز وجل: " اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم " وقال تعالى: " وجعلنا ابن مريم وأمه أيةً وأوينهما إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين " قال بعض المفسرين: هي مصر. وقال بعض علماء مصر: هي البهنسا. وقبط مصر مجمعون على أن المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام كانا بالبهنسا وانتقلا عنها إلى القدس.
وقال بعض المفسرين: الربوة دمشق، والله أعلم.
وقال تعالى: " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه " .

وقال تعالى: " وقال نسوة في المدينة أمرأت العزيز تراود فتها عن نفسه " والمدينة: منف، والعزيز ملك مصر حينئذ.
وقال تعالى: ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها " هي منف، مدينة فرعون.
وقال تعالى: " وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى " هي منف أيضاً.  وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: " يأيها العزيز " وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو " فجعل الشام بدوا، وقال تعالى حكاية عن فرعون وافتخاره بمصر: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي " وقال تعالى حين وصف مصر وما كان فيه آل فرعون من النعمة والملك بما لم يصف به مشرقا ولا مغربا، ولا سهلا ولا جبلا، ولا برا ولا بحرا: " كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين " فهل يعلم أن بلداً من البلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب بمثل هذا الثناء، أو وصفه بمثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر؟ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لكم منهم صهرا وذمة " .
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما " .
فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها: أم العرب.
وأما الذمة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم، تسرى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرية نحو الصعيد، يقال لها حفن من كورة أنصنا، فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهة أمهم مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم.
وصارت العرب كافة من مصر، بأمهم هاجر؛ لأنها أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وهو أبو العرب.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستكونون أجنادا، وخير أجنادكم الجند الغربي، فاتقوا الله في القبط: لا تأكلوهم اكل الخضر " .
وروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض " .
قال أبو رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول؟ قال: " لأنهم في رباط إلى يوم القيامة " .
دعاء الأنبياء لمصر وأهلها
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من الملوك منهم هرقل، فما أجابه أحد منهم، وكتب إلى المقوقس صاحب مصر فأجابه عن كتابه جواباً جميلا، وأهدى إليه ثياباً وكراعاً وجارتين من القبط؛ مارية وأختها وأهدى إليه عسلا فقبل هديته، وتسرى مارية، فأولدها ابنة إبراهيم، وأهدى أختها لحسان ابن ثابت فأولدها عبد الرحمن بن حسان.
وسأل عليه الصلاة والسلام عن العسل الذي أهدى إليه، فقال من أين هذا؟ فقيل له من قرية بمصر يقال لها بنها، فقال: " اللهم بارك في بنها وفي عسلها " فعسلها إلى يومنا هذا خير عسل مصر.
وروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: دعا نوح عليه السلام ربه، لولده وولد ولده: مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سميت مصر، وهو أبو القيط فقال: اللهم بارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الروض، وذللها لهم، وقوهم عليها.
والكعبة: البيت الحرام، وهو بيت هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام اللذين كانا يسكنانه، وروى أن البيت هدم في الجاهلية فولت قريش بناءه رجلا من القبط يقال له: بقوم، فأدركه افسلام وهو على ذلك البناء.
من صاهر القبط من الأنبياء
وصاهر القبط من الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، بتسريه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام.
ويوسف بتزوجه بنت صاحب عين شمس التي ذكرها الله في كتابه، فقال تعالى: " وغلقت الأبواب وقالت هيت لك " ومحمد صلى الله عليه وسلم بتسريه مارية.
من ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر
وممن ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر، رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه.
قال تعالى: " وقال رجل مؤمن من أل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .


ومنهم قارون، وكان ابن عم موسى: قال الله تعالى: " وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة " .
وقال عز وجل: " فخرج على قومه في زينته " .
وكان قارون أيسر أهل الدنيا.
ومنهم: هامان، قال تعالى: " وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً " .
ومنهم فيما يقال: الخضر عليه السلام، وروى بعض أهل العلم أنه ابن فرعون موسى لصلبه، وكان آمن بموسى، وجاز البحر معه، وكان مقدما عنده، وكان نبياً.
ومنهم: وزراء فرعون وجلساؤه، ذكر الله تعالى عنهم في كتابه حسن المحضر ورجاحة العقل، قال تعالى حكاية عن فرعون: " قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحارٍ عليم " .
فهل في الدنيا جلساء ملك أرجح عقلا واحسن محضرا منهم؟ حيث أنصفوا، وأمروا أن يمتحن بمثل ما وقع لهم أنه يشبه ما جاء به، ولم يكونوا في المنزلة وقبح المحضر كوزراء نمرود، حين شاورهم في إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى حكاية عنهم: " قالوا حرقوه وانصروا ألهتكم إن كنتم فاعلين " .
ذكر الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه العزيز.
ومنهم: السحرة الذين تجمعوا لموسى حين رأوا آيات موسى لم يصروا على الكفر، ولم يلبثوا أن آمنوا وسجدوا لله عز وجل.
قال تعالى في كتابه: فألقى السحرة ساجدين قالوا أمنا برب العالمين رب موسى وهارون وفي آيات كثيرة كرر ذكرهم وأثنى عليهم.
" فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا " .
وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبئي، وبكر بن عمر والخولاني، ويزيد بن أبي حبيب، قالوا: كان عدد السحرة اثنى عشر ساحراً تحت يدي كل ساحر منهم عشرون عريفا. تحت يدي كل عريف منهم ألف من السحرة فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء والعرفاء.
وأجمعت الرواة على أنه لا يعلم جماعة أسلمت في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وروى أنه لم يفتتن رجل واحد منهم كما افتتن بنو إسرائيل بعبادة العجل.
وروى أن عبد الله بن عمر وقال: القبط أكرم الأعاجم محتداً، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب كافة، وبقريش خاصة.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مصر أطيب الأرضين ترابا، وعجمها أكرم العجم أنسابا " .
وقال بعض أهل العلم: لم يبق من العجم أمة إلا وقد اختلطت بغيرها إلا قبط مصر.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مات ابنه إبراهيم: " لو عاش كان صديقا نبيا، وإن له لمرضعتين في الجنة، ولو عاش لعتقت القبط وما استرق أحد منهم أبدا " .
ذكر من أظهرته مصر من الحكماء
منهم: نيروز أبو بختنصر من أهل قرية يقال لها: سيسرو من كورة أرمنت وكان رجلا من أهل العلم فنظر في علمه فإذا به يخرج من صلبه رجل يخرب مصر فأعطى الله عز وجل موثقا أنه لا ينكح امرأة أبداً. وخرج إلى الشام ثم إلى العراق، فأقام بفارس بقرية يقال لها نفر وكان لملك تلك القرية ابنة بها لمم، فوصف المصري لها دواء لعلاجها.
فلما رآها شاهد حسنا بارعا وخطبها من أبيها فدخل عليها فجرت بينهما أسباب حتى حملت منه، فوضعت بختنصر فجرى خراب الدنيا على يديه.
ومنهم: الإسكندر ذو القرنين، من أهل قرية نحو الإسكندرية يقال لها لوبية، ملك الأرض بأسرها، وذكره الله في كتابه العزيز باسمه، فقال تعالى: " ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً إنا مكنا له في الأرض وأتيناه من شيءٍ سببا فأتبع سبباً حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عينٍ حمئةٍ ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " .
وبنى سد يأجوج ومأجوج، قال الله تبارك وتعالى: " قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوةٍ أجعل بينكم وبينهم ردماً أتوني زبر الحديد " وبنى الإسكندرية ويروى أنها: " إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " .


وبنى الإسكندرية ببلاد الخزر وبنى مدينة سمرقند وبنى الأبراج والمناظر ببلد البسكس على بحيرة طابس في آخر العمارة التي بالشمال، وفعل بالعراق الأفاعيل العجيبة، غضباً لما فعل بختنصر بمصر، فقتل دارا بن دارا، وخرب العراق.
وكتب إلى معلمه بمصر أرسطاطاليس يشاوره في قتل من بقي منهم.
فكتب إليه: لا تفعل، ولكن ول كل رئيس منهم ناحية من بلده، فإنهم يتنافسون في الرياسة، ولا يجمعهم ملك أبداً، ففعل فلبثوا على ذلك زماناً طويلاً، فلما قام أردشير واجتمعوا عليه، بعد تعب عظيم وحروب ومشقة قال: إن كلمة فرقتنا أربعمائة سنة لكلمة مشئومة.
ومنهم: هرمس، المثلث بالنعمة: نبي، وملك، وحكيم، وهو الذي صير الرصاص ذهباً بصاصا.
ومنهم أغاثيمون، وفيثاغورس، تلميذا هرمس من أصحاب الصابئة، ولهما من العلوم صنعة الكيمياء والنجوم والسحر وعلم الروحانيات والطلسمات والبرابي وأسرار الطبيعة وقد أودعت البرابي ذلك.
ومنهم أوسيلا وسيزوارس وبندقليس أصحاب الكهانة والزجر.
ومنهم سقراط صاحب الكلام على البارئ عز وجل، والحكمة والبلاغة.
ومنهم أفلاطون صاحب السياسة والنواميس والكلام على المدن والملوك.
ومنهم أرسطاطاليس صاحب النطق والآثار العلوية، والحس والمحسوس والكون والفساد، والسماء والعالم، وسمع الكيان والسماع الطبيعي، ورسالة نبت الذهب، ورسالة الغراء فيما بعد الطبيعة. حتى إن يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب له أكثر من ألف كتاب في كل معنى، كلها فصول من كتب أرسطاطاليس.
ومنهم بطلميوس القلوذى صاحب الرصد والحساب، وهو صاحب كتاب المجسطى في تركيب الأفلاك وحركة الشمس والقمر والكواكب المتحركة والثابتة وصورة فلك البروج، وكتاب جغرافيا في مساحة الأرض وأقاليمها، والجبال والبحار وألوانها، والأنهار والعيون وابتدائها وانتهائها، وصفة الأمم الذين يعمرون الأرض، وكتاب الثمرة في أحكام النجوم، وكتاب تسطيح الكرة.
ومنهم أراطس صاحب البيضة ذات الثمانية والأربعين صورة في تشكيل صورة الفلك. والألف كوكب، واثنين وعشرين كوكباً من الكواكب الثابتة، والزيج العلوي.
ومنهم إبرخس صاحب الرصد والالة المعروفة بذات الحلق.
ومنهم ثاون صاحب الزيج المنسوب إليه.
ومنهم دامانيوس، وواليس، وأصطفن أصحاب كتب أحكام النجوم.
ومنهم إيرن، وله الهندسة والمقادير، وكتاب جر الأثقال، والحيل الروحانية وعمل البنكامات والآلات لقياس الساعات.
ومنهم فيلون البرنطي، وله عمل الدواليب والأرحية والحركات بالحيل اللطيفة.
ومنهم أرشميدس، صاحب الحيل والهندسة، والمرايا، والمرايا المحرقة، وعمل المجانيق ورمي الحصون، والحيل على الجيوش والعساكر براً وبحراً.
ومنهم مارية وقلبطرة، ولهم الطلسمات، والخواص للطبائع.
ومنهم أبلونيوس، وله كتاب المخروطات، وكتاب قطع الخطوط.
ومنهم تابوشيش، وله كتاب الأكر، ومنهم ذيوفنطس، وله كتاب الحساب. ومنهم أوطوقيوس، وله كتاب الكرة والأسطوانة.
ودخلها جالينوس، وديسقوريدس صاحب الحشائش، وديوجانس، وأركاغانس، وأوريباسيوس، وفريقونوس، وروفس ولهم الطب اليوناني.
فكل هؤلاء سكنوا مصر في الدهور الخالية والأيام السالفة، فما غيرت ذهن واحد منهم ولا أضرت بعقله.
من كان بمصر من الأنبياء
وأما من كان بها من الأنبياء عليهم السلام، فإبراهيم الخليل، وإسماعيل ويعقوب، ويوسف. واثنا عشر نبياً من ولد يعقوب وهم الأسباط وموسى وهارون ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم، ودانيال، عليهم الصلاة والسلام. فهذا ما ذكر: من كان بها قبل الإسلام.
من كان بمصر في الإسلام من الصحابة
وأما من كان بها في الإسلام من الصحابة والفقهاء والعلماء والأحبار والزهاد ومن دخلها من الملوك والخلفاء وأهل العلم والشعر والنحو والخطابة، وكل من برع على أهل زمانه، أو نجم على أهل عصره، فيتسع ذلك علينا، ولكن نختصر من ذلك على المشهورين.


ذكر أهل العلم والمعرفة والرواية أنه دخل مصر في فتحها ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل ونيف. وقال يزيد بن أبي حبيب: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر وأبو ذر ومحمية بن جزء ونبيه بن صؤاب، ورافع بن مالك، وربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وسعد بن أبي وقاص وعمرو ابن علقمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن مسلمة، ومسلمة بن مخلد، وأبو أيوب ورويفع بن ثابت، وهبيب بن مغفل، وكعب بن ضنة، ومعاوية بن حديج، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة وغيرهم.
من كان بمصر من الفقهاء والعلماء
وأما من كان بها من الفقهاء والعلماء، فمنهم: يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وله مذهب انفرد به. وهو الذي أخرج الرشيد من يمينه التي عجز عنها فقهاء الدنيا، ومنهم عبد الله بن وهب يفوق بتصنيفه جماعة من الفقهاء المصنفين، وله من تصنيفه نحو مائة جزء، ومنهم عبد الله بن لهيعة، له منزلة في الفقه والحديث والأخبار، ومنهم أشهب، وابن القاسم وعبد الله بن عبد الحكم، وأسد بن موسى، ومحمد بن عبد الحكم، والمزنى، والربيع المؤذن، وأحمد بن سلامة الطحاوي، وكل واحد منهم قد برع في مذهبه، ونجم على أهل عصره، ولكل واحد منهم من الكتب المصنفة ما يعجز عن نظيرها أهل النيا. ومنهم سعيد بن عفير، ويحيى بن عثمان، وابن قديد، ومحمد بن يوسف الكندي، والميسرى، وابن أبي خيثمة، وكل واحد منهم قد فاق أهل عصره وبرز عليهم في الفقه والعلم والأخبار وأيام الناس والافتنان في سائر العلوم.
من كان بمصر من الزهاد
وكان بها من الزهاد، حيوة بن شريح، وسليم بن عتر، وسليمان بن القاسم، وأبو الربيع الزبدي، وسعيد الأدم، وإدريس الخولاني وذو النون المصري وغير من ذكرناهم، ونشأ بينهم هانئ ابن المنذر. وشاعرهم: حبيب بن أوس الطائي. وفارسهم: مالك بن ناعمة، فارس الشقر. ومتكلمهم: غيلان أبو مروان، رئيس الغيلانية.
من ولد بمصر من الخلفاء
وولد بها من الخلفاء، عمر بن عبد العزيز، وجعفر المتوكل على الله.
من دخل مصر من الفقهاء وغيرهم
وأما من دخلها من الفقهاء وغيرهم، فالشعبي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومحمد بن إسماعيل بن علية، والشافعي، وحفص الفرد وإبراهيم بن أدهم، ومنصور بن عمار المتكلم.
من دخل مصر من الخلفاء
ودخلها من الخلفاء معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ومروان بن محمد، والسفاح، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، والواثق.
من دخل مصر من الشعراء
ودخلها من الشعراء، نصيب، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعبيد الله بن قيس الرقيات، والأحوص وعبد الله بن الزبير، وأبو ذؤيب، ومعلى الطائي، وأبو نواس، ودعبل بن علي الخزاعي، والغيداق، وزبدة، وأبو صعصعة، وأبو حجلة وأبو نجاد، وابن حذار، والحسين الجمل، وغير من ذكرناهم.
ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار
وأما ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار وما خصت به وأوثرت به على غيرها، فروى أبو بصرة الغفاري قال: مصر خزانة الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام.
" قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " .
ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد من جميع الأرض.


وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس والسابع، فطاب هواؤها، ونقي جوها وضعف حرها، وخف بردها، وسلم أهلها من مشاتي الجبال، ومصائف عمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرب اليمن، وطواعين الشام، وغيلان العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين، وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكائد الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزقها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال سعيد بن أبي هلال: مصر أم البلاد، وغوث العباد. وذكر أن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها.
وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة.
وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها، ولا يسافرون إلى بلد سواها، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا.
ورى عن حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، حديث، يرفعه إلى الله عز وجل يقول يوم القيامة لساكني مصر فيما يعدد عليهم من نعمته ألم أسكنكم مصر، فكنتم تشبعون من خبزها وتروون من مائها، أمسكوا على أفواهكم.
وقال يحيى بن سعيد: جلت البلاد فما رأيت الورع ببلد من البلدان أعرفه إلا بالمدينة وبمصر. وقال خالد بن يزيد: كان كعب الأحبار يقول: لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر؛ فقيل: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلك يعافون، ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وروى عن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.
وذكر أهل العلم أنه مكتوب في التوراة: بلد مصر خزانة الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله.
وقال أبو الربيع السائح: نعم البلد مصر، يحج منها بدينارين، ويغزى منها بدرهمين. يريد الحج في بحر القلزم، والغزو إلى الإسكندرية وسائر سواحل مصر.
وذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن عبد الكريم، قال: جلت الدنيا، ورأيت أهلها، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت بناء كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس وتدمر، والأردن، وما بنته الشياطين بتدبير النبوة، فلم أر مثل برابي مصر على حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها.
كور مصر
وبمصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها طرائف وعجائب من أصناف البر والأبنية والنتاج والشراب والطعام والفاكهة وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، يعرف كل صنف من كورته، وينسب كل لون إلى كورته، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرط والدوم والعشر، وأسفل أرضها شامي تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين والموز والجوز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين، ويقع به الثلج.
ومنها كورة لوبية ومراقية برابى وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد إبل وماشية، ونتاج وعسل ولبن وفي كل كورة من مصر مدينة، قال تعالى " وابعث في المدائن حاشرين " .
وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلك المدن كلها تأتي من السفن تحمل الطعام والمتاع والآلات إلى الفسطاط تحمل السفينة الواحدة ما يحمله خمسمائة بعير.


ومنها: الإسكندرية في أبنيتها وعجائبها وآثارها، وأجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات غيرها، ولما دخلها عبد العزيز بن مروان وهو إذ ذاك أمير مصر، قال لعاملها حين رأى آثارها وعجائبها: أخبرني كم كان عدد أهلها في أيام الروم؟ قال: والله أيها الأمير ما أدرك علم هذا أحد من الملوك قط، ولكن أخبرك كم كان فيها من اليهود، فإن ملك الروم أمر بإحصائهم فكانوا ستمائة ألف. قال: فما هذا الخراب الذي في أطرافها؟ قال: بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر، أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية، فأتاه كبراء أهلها وعلماؤهم، وقالوا: أيها الملك لا تتعب، فإن ذا القرنين الإسكندر أقام على بنائها ثلاثمائة سنة. ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهاراً إلا بخرق سود في أيديهم، خوفاً على أبصارهم من شدة بياضها.
ومن فضائلها ما قاله المفسرون من أهل العلم: إنها المدينة التي وصفها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال: " إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " .
وقال أحمد بن صالح: قال لي سفيان بن عيينة: يا مصري، أين تسكن؟ قلت: أسكن الفسطاط، قال: أتأتي الإسكندرية؟ قلت: نعم، قال لي: تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه.
وقال عبد الله بن مرزوق الصدفي: لما نعى إلي ابن عمي خالد بن يزيد وكان توفي بالإسكندرية لقيني موسى بن علي بن رباح، وعبد الله بن لهيعة والليث بن سعد متفرقين، كلهم يقولون: أليس مات بالإسكندرية! فأقول: بلى فيقولون: هو حي عند الله يرزق، ويجري عليه أجر رباطه ما قامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك.
ومن عجائبها المنارة، وطولها مائتان وثمانون ذراعاً، وكان لها مرآة ترى فيها من يمر بالقسطنطينية.
وفيها الملعب الذي كانوا يجتمعون فيه، لا يرى أحدهم شيئاً دون صاحبه ولا يتظالمون، ينظر وجه كل واحد منهم تلقاء وجه صاحبه، إن عمل أحدهم شيئاً أو تكلم أو قرأ كتاباً أو لعب لوناً من الألوان سمعه الباقون، ونظر إليه القريب والبعيد سواء.
وفيه كانوا يترامون بالكرة، فمن دخلت كمه ولي مصر، وكان عمرو بن العاص قد دخل تاجراً في الجاهلية بالأدم والقطن، فشهد هذا الملعب فيمن ينظر، فدخلت الكرة كمه، فأنكروا ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط! أنى لهذا الأعرابي بولاية مصر! فأعادوها، فعادت الكرة إلى كمه مرات فتعجبوا من ذلك، إلى أن جاء الله بالإسلام، وكان من أمره ما كان.
وبها السواري والمسلتان، وعجائبهما وآثارهما أكثر من أن تحصى، حتى إن خليجها مبلط بالرخام من أوله إلى آخره يوجد كذلك إلى اليوم.
وقال الذين ينظرون في الأعمار والأهوية والبلدان بمريوط من كورة الإسكندرية، ووادي فرغانة.
وذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندية حتى غلب عليه البحر، فصارت في جوفه، ترى الأبنية والأساسات في البحر عياناً إلى يوم القيامة.
ومنها كورة الفيوم: وهي ثلاثمائة وستون قرية، دبرت على عدد أيام السنة لا تقصر عن الري، فإن قصر النيل سنة من السنين مارت كل قرية منها مصر يوماً واحداً.
وليس في الدنيا بلد بني بالوحى غير هذه الكورة، ولا بالدنيا بلد أنفس منه ولا أخصب ولا أكثر خيراً ولا أغزر أنهاراً.
ولو قايسنا بأنهار الفيوم أنهار البصرة ودمشق، لكان لنا بذلك الفضل. ولقد عد جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافقها وخيرها فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك وعدوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحد من مسلم ولا معاهد يستعين به القوي والضعيف فإذا هو فوق السبعين صنفاً.
ومنها مدينة منف، وأبنيتها وعجائبها وأصنامها ودفائنها وكنوزها أكثر من أن تحصى، لا يدفع ذلك دافع، ولا ينكره منكر، من آثار الملوك والحكماء والأنبياء.
قال إبراهيم بن منقذ الخولاني: خرجنا إلى منف، فإذا بعثمان بن صالح جالس على باب الكنيسة فسلمنا عليه، فقال أتدرون ما مكتوب على باب الكنيسة؟ قلنا: ما هو؟ قال: مكتوب عليه، أنا فلان بن فلان، لا تلموني على صغر هذه الكنيسة، فإني اشتريت كل ذراع منها بمائة دينار، فقلنا: إن لهذه قصة، فقال: ها هنا وكز موسى عليه السلام الرجل فقتله.


ومنها مدينة عين شمس، وهي هيكل الشمس، وبها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما ولا من شأنهما، فإنهما محمولان على وجه الأرض ليس لهما أساس، وطولهما في السماء نحو خمسين ذراعاً، فيهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين، من نحاس، فإذا جرى النيل قطر من رأسهما ماء، وتستبينه وتراه منهما واضحاً ينبع.
ومنها. الفرما، وهي أكثر عجائب وأقدم آثاراً، ويذكر أهل مصر أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البر، فغلب عليها البحر.
ويقولون: غلب البحر على مقطع الرخام الأبلق، وأن مقطع الأبيض بلوبية.
قال يحيى بن عثمان: كنت أرابط بالفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم، يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله.
وقال ابن قديد: توجه ابن المدبر وكان بتنيس إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقي الحصن احتاج أن يعمل منها جيرا. فلما قلع منها حجراً أو حجرين خرج إليه أهل الفرما بالسلاح فمنعوه من قلعها، وقالوا هذه الأبواب التي قال الله عز وجل فيها على لسان يعقوب: " وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة " .
وبالفرما نخلها العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من ثائر الدنيا، فيبتدئ هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجيء البلح في الربيع. ولا يوجد ذلك في بلد من البلدان، لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان. ويكون هذا في البسرمازون البسرة منه عشرون درهماً وأكثر. وفيه ما يكون طول البسرة منه قريباً من فتر.
وقال ابن التختكان: أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها ولا تحت السماء لها نظير، كورة الفيوم، وكورة أتريب، وكورة سمنود، وكورة صا.
خراج مصر
وأما خراجها فجباها عمرو بن العاص أول سنة فتحها عشرة آلاف ألف دينار، وكتب إليه عمر بن الخطاب يعجز رأيه ويقول: جبيت للروم عشرين ألف ألف دينار، فلما كان في العام المقبل جباها اثني عشر ألف ألف دينار، فلما عزل عثمان عمراً منها، وولي عبد الله بن أبي سرح، زاد على القبط في الخراج والمؤن، فبلغت أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو. درت اللقحة، فقال عمرو: وأضررتم بالفصيل، فأدبرت منه يومئذ، ولم تزل تنقص إلى اليوم. فما جبيت في أيام بني أمية وبني العباس إلا دون الثلاثة الآلاف ألف دينار غير ولاية أمير المؤمنين هشام، فإنها جباها ابن الحبحاب أربعة آلاف ألف، وولاية بني طولون بالغوا في عمارتها فجباها أبو الجيش أربعة آلالف ألف دينار.
وولي خراجها ابن الحبحاب لأمير المؤمنين هشام، فخرج بنفسه فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل فوجد فيها ثلاثين ألف ألف فدان.
وقال الليث بن سعد: ولي الخراج الوليد بن رفاعة لأمير المؤمنين هشام، فخرج لإحصاء الجماجم والقرى، فأقام ستة أشهر بالصعيد، وبأسفل الأرض ثلاثة أشهر، فأحصى فوق عشرة آلاف قرية، أصغر قرية فيها خمسمائة جمجمة من القبط، تكون جملة ذلك خمسة آلاف ألف.
وولي الخراج أسامة بن يزيد لأمير المؤمنين سليمان، فكتب إليه أن احلب الدر حتى ينقطع، واحلب الدم حتى ينصرم. فذلك أول شدة أصابت أهل مصر، فقال سليمان يوماً وقد أعجبه ما فعل أسامة: أسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنا أدلك على من هو شر من أسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً؛ قال: من هو؟ قال: عدو الله إبليس، فغضب سليمان وقام من مجلسه، فلما توفي أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وولي عمر بن عبد العزيز وجه في عزل أسامة قبل دفن سليمان وولي حيان بن شريح، وأمره أن يحبس أسامة في كل جند ستة أشهر، وأسامة بنى المقياس القديم.
وكتب المنصور إلى محمد بن سعيد: وكان يلي خراج مصر يستحثه بالخراج، فكتب إليه يشكو اختلالها، وأنها تحتاج إلى إنفاق فإنها ترد أضعاف ما ينفق فوافق ذلك خروج بن الحسن فكتب إليه:
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
فزاد ذلك في انكسارها واختلالها.


وذكر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال للمقوقس: ويحك إنك قد وليت هذا المصر ثلاثين سنة، فبم تكون عمارتها؟ قال: بخصال؛ منها أن تحفر خلجها وتسد جسورها وترعها، ولا يؤخذ خراجها إلا من غلتها، ولا يقبل مطل أهلها، ويوفى لهم بالشروط، وتدر الأرزاق على العمال، لئلا يكون تأخيرها سبباً للارتشاء، ويرفع عن أهلها المعاون والهدايا، ليكون ذلك لهم قوة، فبذلك تعمر ويرجى خراجها.
مناظر مصر وجمالها
وأما ما يعجب من رونق منظرها، فذكر عن كعب الأحبار أنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة، فلينظر إلى مصر إذا أخرفت وغذا أزهرت، وإذا اطردت أنهارها، وتدلت ثمارها، وفاض خيرها، وغنت طيرها.
وعن عبد الله بن عمرو قال: من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها وتغنى أطيارها.
وقال المأمون لإبراهيم بن تميم: صف لي مصر حين تخضر زروعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها، وأوجز. قال جحفلة: الفرس في الربيع، وعجزه في الرمل. يريد أنها برية بحرية يرتع الفرس في الربيع، ويبرد في بروده.
وذكر أهل مصر أن موسى بن عيسى الهاشمي وكان أمير مصر، قال لهم يوماً وهو بالميدان الذي في طرف المقابر: أتتأملون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر ومنازل سكنى، وذروة جبل، وجبان أموات، ونهراً عجاجاً، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، وصائد بحر، وقانص وحش وملاح سفينة، وحادي إبل، ومفازة رمل وسهلا وجبلا في أقل من ميل في ميل.
وذكر أنه صورت للرشيد صورة الدنيا فما استحسن منها غير بلد أسيوط، وذلك أن مساحته ثلاثون ألف فدان في دست واحد، لو قطرت قطرة فاضت على جميع جوانبه، ويزرع فيه الكتان والقمح والقرط وسائر أصناف الغلات فلا يكون على وجه الأرض بساط أعجب منه، ويسايره من جانبه الغربي جبل أبيض على صورة الطيلسان، كأنه قرنان، ويحف به من جانبه الشرقي النيل، كأنه جدول فضة، لا يسمع فيه الكلام من شدة أصوات الطير.
وأجمع الناس أنه ليس على وجه الدنيا بساط قرط فيه خيل موقوفة وخيام مضروبة، ونتاج، ومهارى، وسائمة، وقهارمة، إلا بمصر.
ذكر ما ورد في نيل مصر
وأما نيلها، فروى ابن لهيعة: أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب: أسألك بالله العظيم يا كعب، هل تجد لنيل مصر في كتاب الله خيراً؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحى إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري كذا وكذا، فاجر على اسم الله، ثم يوحى إليه عند انتهائه: إن الله يأمرك أن ترجع، فارجع راشداً.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات " .
ورى أن الله تعالى خلق نيل مصر معادلا لأنهار الدنيا ومياهها، فحين يبتدئ في الزيادة تنقص كلها لمادته، وحين ينقصى تمتلئ كلها.
وذكر أبو قبيل، أن نيل مصر في زيادته يفور كله من أوله إلى آخره. وقال ابن لهيعة: كان لنيل مصر قطيعة على كور مصر، مائة ألف وعشرين ألف رجل، معهم المساحى، والآلات سبعون ألفاً للصعيد، وخمسون ألفاً لأسفل الأرض لحفر الخلج وإقامة الجسور والقناطر وسد الترع، وقطع القضب والحلفاء، وكل نبت مضر بالأرض.
وقال محفوظ بن سليمان: إذا تم الماء ست عشرة ذراعاً فقد وفى خراج مصر، فإذا زاد بعد ذلك ذراعاً واحدة زاد في الخراج مائة ألف دينار لما يروى من الأعالي، فإن زاد بعد ذلك ذراعاً أخرى نقص مائة ألف من الخراج، لما يستجر من البطون.
وذكر ابن عفير، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني فكرت في بلدك فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، قد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً وقوة في بر وبحر، قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكماً، مع شدة عتوهم، فعجبت من ذلك، فأحب أن تكتب إلى بصفة مصر كأني أنظر إليها.


فكتب إليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغني كتابك وقرأته وفهمته، وأما ما ذكرت فيه من صفة مصر، فإن كتابي سيكشف عنك عمى الخبر، ويرمى على بالك بنافذ البصر، إن مصر وما أحببت أن تعلمه من صفتها، تربة سوداء، وشجرة خضراء بين جبل أغبر ورمل أعفر، قد اكتنفها معدن رفقها، ومحط رزقها، ما بين أسوان، إلى منشأ البحر، في سح النهر، مسيرة الراكب شهراً، كأن ما بين جبلها ورملها بطن أقب، وظهر أجب، يخط فيه نهر مبارك الغدوات، ميمون البركات، يسيل بالذهب، ويجري بالزيادة والنقصان كمجاري الشمس والقمر، له أيام تسيل إليه عيون الأرض وينابيعها مأمورة بذلك، حتى إذا ربا وطما، واصلخم لججه، واغلولب عبابه، كانت القرى بما أحاط بها كالربا لا يوصل من بعضها إلى بعض إلا في السفائن والمراكب، ولا يلبث إلا قليلا حتى يكون كأول ما بدأ من جريه وأول ما طما من شربه، وحتى تستبين فنونها ومتونها، ثم تنتشر فيه أمة محقورة، قد رزقوا على أرضهم جلداً وقوة، لغيرهم ما سعوا به من كدهم بلا حمد ينالهم من ذلك، يسقون سهل الأرض وخرابها وروابيها، ثم يلقون فيها من صنوف الحب ما يرجون به التمام من الرب، وما يلبث إلا قليلا حتى يشتد، ثم تسيل قنواته وتصفر، يسقيه من تحته الثرى ومن فوقه الندى، أو سحاب منهمر بالأرائك مستدر، ثم في هذا الزمان من زمانها يغنى ذبابها، ويبدأ في صرامها، فبينما هي مدرة سوداء إذا هي لجة زرقاء، ثم غوطة خضراء، ثم ديباجة رقشاء، ثم فضة بيضاء، فتبارك الله أحسن الخالقين، الفعال لما يشاء. وإن خير ما اعتمدت عليه في ذلك شكر الله عز وجل يا أمير المؤمنين، على ما أنعم عليك منها، فأدام الله لك النعمة والكرامة في أمورك كلها والسلام.
وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل، يسير مسيرة شهر في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة، إلى أن يخرج من جبل القمر خلف خط الاستواء.
وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال إلا هو وليس نهر يصيب في بحر الروم والصين غير نيل مصر. وليس في الدنيا نهر يزيد ويمد في أشد ما يكون من الحر حين تنقص أنهار الدنيا وعيونها غير نيل مصر، وكلما زاد الحر كان أقوى لزيادته، وليس في الدنيا نهر يزيد بترتيب غير نيل مصر.
وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على نيل مصر، ولا يجبي من خراج نهر من أنهار الدنيا ما يجبي من خراج النيل.
فضل مقبرة مصر
وأما فضل مقبرتها فذكر أهل العلم أن الطور من المقطم وأنه داخل فيما وقع عليه القدس في قوله تعالى: " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً " . وقال تعالى: " إنك بالواد المقدس طوىً " .
قال كعب: كلم الله تعالى موسى من الطور إلى أطراف المقطم من القدس، وقال تبيع: منازل الفسطاس في القدس.
وروى أن موسى عليه السلام سجد، فسجدت معه كل شجرة من المقطم إلى طوى.
ويروى أنه مكتوب في التوراة: وادي فتح مقدس جديد يعني وادي مسجد موسى عليه السلام بالمقطم عند مقطع الحجارة، وأن موسى عليه السلام كان يناجي ربه بذاك الوادي.
وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع ابن لهيعة، فجلسنا حوله، فرفع رأسه، فنظر إلى الجبل، فقال: إن عيسى بن مريم عليه السلام مر بسفح هذا الجبل، وعليه جبة صوف، وقد شد وسطه بشريط، وأمه إلى جانبه، فالتفت إليها وقال: يا أماه هذه مقبرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم .


وبينما عمرو بن العاص يسير في سفح المقطم ومعه المقوقس، فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام، فلو شققنا في أسفله نهراً من النيل وغرسناه نخلا؟ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجاراً ونباتاً وفاكهة، وكان ينزله المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، فلما كانت الليلة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام، أوحى إلى الجبال؛ إني مكلم نبياً من أنبيائي على جبل منكم، فسمعت الجبال كلها وتشامخت، إلا جبل بيت المقدس، فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله تعالى إليه لم فعلت ذلك؟ وهو به أخبر، فقال: إعظاماً وإجلال لك يا رب! قال: فأمر الله الجبال أن يحيوه، كل جبل مما عليه من النبت، وجاد له المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقى كما ترى، فأوحى الله تعالى إليه إني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غراسها، فكتب بذلك عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فكتب إليه: إني لا أعلم شجر الجنة أو غراسها لغير المسلمين، فاجعله لهم مقبرة، ففعل، فغضب المقوقس من ذلك، وقال لعمرو: ما على هذا صالحتني! فقطع له عمر قطيعاً نحو بركة الحبش يدفن فيه النصارى.
وروى عبد الله بن لهيعة عن عياش بن عباس أن كعب الأحبار سأل رجلا يريد السفر إلى مصر، فقال له: أهد لي تربة من سفح مقطمها، فأتاه منه بجراب، فلما حضرت كعباً الوفاة أمر به ففرش في لحده تحت جنبه.
والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها.
الخواص والعجائب التي بمصر
وأما الخواص التي بها والعجائب والبركات والحكم، فجبلها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالى موسى، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون وعيسى عليهم السلام. وبها كان ملك يوسف وبها النخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بسدمنت من كورة أهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون، فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد إبراهيم، ومسجد مارية أم إبراهيم سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفن، أوصت أن يبني بها مسجد فبنى.
وبها من الأبنية وآثار الحكمة: البرابي والهرمان، وليس على وجه الأرض بناء باليد حجراً فوق حجر أطول منهما وجاءت الأخبار أنهما قبرا هرمس وأغاثيمون، والصابئة تحجهما من حران.
قال عمر بن أبي عمر: أنا لقيت من الصابئة من حجمها.
وبها منارة الإسكندرية، وبها عمود عين شمس.
وبها صدع أبي قير الذي تفر إليه طير البواقيرات في يوم من السنة كان معروفاً فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لسبيله فلا يزال يفعل ذلك حتى يلتقي الصدع على بوقير منها فيجسه ولا يزال معلقاً حتى تذروه الرياح.
وبها حائط العجوز من العريش إلى أسوان؛ يحيط بأرض مصر كلها.
وبالنيل السمكة التي تسمى الرعادة، إذا وضع الرجل الجلد يده عليها لم يتمالك أن يضطرب جسمه كله اضطراباً شديداً.
وبها مجمع البحرين، وهو البرزخ الذي ذكره الله تعالى فقال: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبتغيان " . وقال تعالى: " وجعل بين البحرين حاجزاً " ، وهما بحر الصين وبحر الروم، والحاجز بينهما مسيرة ليلة ما بين القلزم والفرما. وليس يتقاربان في بلد من البلدان تقاربهما بهذا الموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور.
وليس بالدنيا بلد من البلدان يأكل أهله صيد البحر طرياً غير أهل مصر. وبها من الطرز والقصب التنيسي والثوب الدبيقي ما ليس بغيرها، وليس في الدنيا طراز يبلغ الثوب الساذج منه الذي ليس فيه ذهب مائة دينار غير ثوب تنيس ودمياط. ويقال: إنه ليس في الدنيا منزل إلا وفيه من ثوب تنيس ولو خرقة.
وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وذكر بعض أهل مصر أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فأجمعوا أنه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد.
ولهم طراز البهنسا من الستور والمضارب ما يفرقون به طراز أهل الدنيا.


ولهم النتاح العجيب من الخيل والبغال والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غير الفرس المصري، و ليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقية وبلاغة صدره وقصر ظهره، وذكر أن الوليد عزم على أن يجري الخيل ويمتحن خيل البلدان، فكتب إلى سائر الأمصار أن يتخير له خيل كل بلد،ويتوجه به إليه، فلما اجتمعت عرضت عليه، فمرت به المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ما عندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز وهو جالس معه: وأين الخير كله إلا لهذه وعندها! فقال له: ما تترك تعصبك يا أبا حفص لمصر على كل حال، فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
ولهم معدن الذهب، بفوق معدنهم كل معدن.
ولهم معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا. ولهم القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر ولهم القمح اليوسفي، وليس هو في الدنيا إلا بمصر. ولهم زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشراب العسل والبسر البرني الأحمر واللبخ والخس والكبريت، والريش والشمع والعسل وخل الخمر والترمس والجلبان والذرة والنيدة والأترج الأبلق والفراريج السرمكية، وذكر أن مريم عليه السلام شكت إلى ربها قلة لبنها فألهمها أن عملت النيدة فأطعمتها عيسى عليه السلام.
وذكر أهل العلم أنه لا يكاد يرى مترهبو الشام إلا عمشاً من أكلهم العدس ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان، ولهم البقر الخيسية المؤبدة للحلب فقط، وهي أحسن البقر صورة، وبقر مصر ليس في الدنيا بقر أعظم منها، حتى أن العفو منها يساوي أكثر من عفو ثور من غيرها. ولهم حطب السنط والأبنوس والقرط الذي تعلفه الدواب. وذكر بعض أهل العلم أنه يوقد بحطب السنط عشرين سنة في الكانون أو التنور فلا يوجد له رماد طول هذه المدة.
وقال بعض أهل العلم: ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وبوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكور والمأدوم والمشروب والمشموم وسائر البقول والخضر، جميع ذلك في الصيف والشتاء، لاينقطع منه شيء لبرد ولا لحر، يوجد ذلك كله في الصيف ويوجد بعينه في الشتاء غير مفقود منه شيء واحد.
وذكر أن بختنصر قال لابنه بلسلطان: ما أردت سكنى مصر إلا لهذه الخصال وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
وقال بعض من سكن مصر: لولا ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، وسمك كيهك، ما سكنت مصر.
ومصر مع ذلك فرضة مكة والمدينة وساحلهما، وفرضة صنعاء وعدن وعمان والشحر والسند والهند والصين وجزائر الصين وسرنديب وغيرها، يجلب العطر والجواهر والطرائف والآلات في البحر حتى توافى المراكب بالقلزم.
وهي فرضة بحر الروم من الشام كلها، وبلد الروم من أنطاكية إلى ما وراءها من قسطنطينة ورومية وبلد الإفرنجة وأنطابلس وطرابلس والقيروان وتاهرت. وسجلماسة والسوس وطنجة والأندلس وجزائر البحر صقلية وأقريطش، وقبرس، ورودس. يحمل إليها رقيق هذه البلدان كلها من الجواري والغلمان والديباج والحرير والمصطكي والميعة والمرجان والعنبر والزعفران وسائر أصناف التجارات، ويحمل من مصر إليها مثل ذلك، ولا يقصدون بلداً سواها، ولا يؤمون غيرها، فلأهلها خيار ذلك كله، ولسائر الناس حثالته، فبارك الله، لأبي المسك فيما ولاه وهناه بما أعطاه، وأوزعه على ذلك شكره، وألهمه خشيته، وأصلح له جنده ورعيته.
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

  أرشيف المدونةهـ-7 االإلكترونية