لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الاثنين، 2 مارس 2020

من كتاب الداء والدواء لابن القيم



باب فيما ذكر عن الحيوان البهيم مما يشبه كلام الآدميين أخبرنا أبو سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر شفاء وأنه ليتقي بالذي فيه الداء فإذا وقع في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة وكان يشوبه بالماء وكان معه في السفينة قرد فأخذ القرد الكيس الذي فيه الدنانير فصعد ذروة الدقل ففتح الكيس فجعل يلقي في البحر ديناراً وفي السفينة ديناراً حتى لم يبق فيه شيء قال محمد بن ناصر قدم رجل على بعض السلاطين وكان معه عامل إرمينية منصرفاً إلى منزله فمر في طريقه بمقبرة وإذا قبر عليه قبة مبنية مكتوب عليها هذا قبر الكلب فمن أحب أن يعلم خبره فليمضِ إلى قرية كذا وكذا فإن فيها من يخبره فسأل الرجل عن القرية فدلوه عليها فقصدها وسأل أهلها فدلوه على شيخ قد جاوز المائة فسأله فقال كان في هذه الناحية ملك عظيم الشأن وكان مشتهراً بالنزهة والصيد والسفر وكان له كلب قد رباه لا يفارقه فخرج يوماً إلى بعض منتزهاته وقال لبعض غلمانه قل للطباخ يصلح لنا ثردة لبن فقد اشتهيتها فأصلحوها ومضى منتزهه فوجه الطباخ فجاء بلبن وصنع له ثردة عظيمة ونسي أن يغطيها بشيء واشتغل بطبخ أشياء آخر فخرج من بعض شقوق الحيطان أفعى فكرع في ذلك اللبن ومج في الثردة من سمه والكلب رابض يرى ذلك كله ولو كان في الأفعى حيلة لدفعها وكان هناك جارية طفلة خرساء زمنة قدرات ما صنع الأفعى ووافى الملك من صيد في آخر النهار فقال يا غلمان أول ما تقدمون إلى الثردة فلما وضعت بين يديه أومأت الخرساء إليه فلم يفهم ما تقول ونبح الكلب وصلح فلم يلتفت إليه ولج في الصياح فلم يعلم مراده فأخذ ورمى إليه بما كان يرمي في كل يوم فلم يقربه ولج في الصياح فقال للغلمان نحوه عنا فإن له قصة ومد يده إلى اللبن فلما رآه الكلب يريد أن يأكل ظفر إلى وسط المائدة وأدخل فمه الغضارة وكرع من اللبن فسقط ميتاً وتناثر لحمه وبقي الملك متعجباً منه ومن فعله فأومأت الخرساء إليهم ففهموا مرادها بما صنع الكلب فقال الملك لندمائه وحاشيته أن من فداني بنفسه لحقيق بالمكافأة وما يحمله ويدفنه غيري فدفنه وبنى عليه قبة وكتب عليها ما قرأت. قال أبو عثمان المدائني كان في جوارنا ببغداد رجل يلعب بالكلاب فاسحر يوماً في حاجة ومعه كلب كان يختص به من كلابه فرده فلم يرجع فمشى حتى انتهى إلى قوم كان بينه وبينهم عداوة فصادفوه فقبضوا عليه والكلب يراهم فخرج الكلب وقد لحقته جراحة فجاء إلى بيت صاحبه يعوي وافتقدت أم الرجل ابنها فأثبتت أن الجراح التي بالكلب من فعل من قتل ابنها وأنه قد تلف فأقامت عليه المأتم فطردت الكلاب عن بابها فلزم ذلك الكلب طلب القاتل فاجتاز القاتل وهو رابض فعرفه ونهشه وعلق به فاجتهد المجتازون في تخليصه منه فلم يمكنهم وارتفعت ضجة وجاء حارس الدرب فقال إنه لم يعلق هذا الكلب بالرجل إلا وله معه قضية ولعله الذي جرحه وخرجت أم القتيل فرأت الكلب متعلقاً بالرجل وسمعت كلام الحارس فذكرت بأن هذا الرجل مما كان يعادي ابنها فوقع في نفسها أنه قاتله فتعلقت وادعت عليه القتل وارتفعا إلى صاحب الشرطة فحبسه بعد أن ضرب ولم يقر ولزم الكلب باب الحبس فلما كان بعد أيام أطلق الرجل فلما خرج علق به الكلب ففرق بينهما وما زال يسعى خلفه ويصيح إلى أن دخل بيته فدخل خلفه ومعه صاحب الشرطة من حيث لا يعلم فكبس الدار فأقبل الكلب بمخاليبه موضع القتيل فنبش فوجد الرجل فضرب المتهم فأقر على نفسه وعلى الباقين فقتل وصلبوا. وحدثنا محمد بن الحسين بن شداد قال رأيت رجلاً له كلب يقربه ويغطيه بديباج كان عليه فسألته عن السبب فقال كان لي رفيق يعاشرني فخرجنا في سفر وكان في وسطي هميان فيه جملة دنانير ومعي متاع كثير فنزلنا في موضع فعمد إليّ فأوثقني كتافاً ورمى بي في وادٍ وأخذ ما كان معي ومضى وقعد هذا الكلب معي ثم تركني ومضى فما كان بأسرع من أن وافاني ومعه رغيف فطرحه بين يدي فأكلته ولم أزل أحبو إلى موضع فيه ماء فشربت منه ولم يزل الكلب معي باقي ليلتي ثم نمت ففقدته فما كان بأسرع إن وافاني ومعه رغيف فأكلته فلما كان في اليوم الثالث غاب عني فقلت يمضي ويجيئني بالرغيف فجاء ومعه الرغيف فرمى به فلم أستتم أكله إلا وابني يبكي على رأسي وقال ما تصنع ههنا وما قصتك ونزل وحل كتافي وأخرجني فقلت له من أين علمت بمكاني ومن دلك عليّ فقال كان الكلب يأتينا في كل يوم فنطرح له الرغيف على اسمه فلا يأكله وقد كان معك فأنكرنا رجوعه ولست معه وكان يحمل الرغيف بفمه ولا يذوقه ويغدو فأنكرنا أمره فاتبعته حتى وقفت عليك فهذا خبري وخبر الكلب. قال كان للحرث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم فعبث أحدهم بزوجته وأرسلها وكان للحرث كلب قد رباه فخرج الحرث في بعض منتزهاته وتخلف عنه ذلك الرجل وجاء إلى زوجته فأقام عندها فلما جامعها وثب الكلب عليهما فقتلهما فلما رجع الحرث نظر إليهما فعرف القصة وترك من كان يعاشره واتخذ كلبه نديماً فتحدث به العرب فأنشأ يقول: فللكلب خير من خليل يخونني * وينكح عرسي بعد وقت رحيلي سأجعل كلبي ما حييت منادمي * وأمنحه ودي وصفو خليلي وقال ابن عبيدة خرج رجل من البصرة فاتبعه كلب فوثب بالرجل قوم فجرحوه ورموه في بئر وحثوا عليه التراب فلما انصرفوا أتي الكلب رأس البئر فبحث حتى ظهر رأس الرجل وفيه نفس يتردد فمر قوم فأخرجوه حياً. قال ابن خلف وحدثني بعض أصدقائي قال: دخلت بستاناً ومعي كلبان لي قد ربيتهما فنمت فإذا هما فانتبهت فلم أر شيئاً أنكره فعاودوا النبح فضربتهما ونمت فإذا بهما يحركاني بأيديهما وأرجلهما كما يوقظ النائم فوثبت فإذا أسود سالح قد قرب مني وثبت فقتلته فكانا سبب سلامتي. قالت الحكماء ومن فطنة الكلب أنه إذا عاين الظباء قريبة كانت أو بعيدة عرف المعتلّ وغير المعتل والذكر من الأنثى فلم يقصد الصيد فيها إلا الذكر وإن علم أنه أشد عدواً وأبعد وثبة ويدع الأنثى على نقصان عدوها وسبب ذلك أنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطاً أو شوطين حقن ببوله وهكذا كل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو فيثقل حينئذ عدوه ويقصر مدى خطاه فيلحقه الكلب وإما الأنثى فإنها تحذف بولها لسعة السبيل وسهولة المخرج فتصير بذلك أدوم ومن فهم الكلب أنه إذا خرج الجليد والثلج وقد تراكم على الأرض والكلاب لا تدري حينئذ أين كناس الظبى وأين جحر الأرنب فيفر الكلب وينظر إلى أن يقف على تلك الجحرة وظنين معرفته أن أنفاس الحيوانات وبخار أجوافها يذيب ما لاقى من فم الجحر من الثلج الجامد حتى يرق وذلك خفي غامض لا يقع عليه إلا الكلب وأن الكلب إذا ظفر بشخص لم ينجه منه إلا أن يقعد بين يديه ذليلاً فحينئذ لا ينجه لأنه يراه تحت قدرته فيسمه بميسم ذل. حدثنا أبو بكر بن الحضنة عن مؤدبه أبي طالب المعروف بابن الدلو وكان رجلاً صالحاً يسكن نهر طابق أنه كان ليلة من الليالي قاعداً ينسخ قال وكنت ضيق اليد فخرجت فأرة كبيرة فجعلت تعدو في البيت ثم خرجت أخرى وجعلا يلعبان بيد يدي طاسة فكفيتها على إحداهما فجاءت الأخرى فجعلت تدور حول الطاسة وأنا ساكت فدخلت السرب فخرجت وفي فيها دينار صحيح وتركته بين يدي فاشتغلت بالنسخ وقعدت ساعة تنتظر ثم رجعت فجاءت بدينار آخر وقعدت ساعة إلى أن جاءت بأربعة أو خمسة وقعدت زماناً أطول من كل نوبة ورجعت فأخرجت جلدة كانت فيها الدنانير وتركتها فوق الدنانير فعرفت أنه ما بقي شيء فرفعت الطاسة ففرتا فدخلتا البيت وأخذت أنا الدنانير قال محمد بن عجلان مولوي بن زياد قال دخل زياد مجلسه ذات يوم فإذا هو بهر في زاوية البيت فذهبت أزجره فقال دعه فأرى ما له ثم صلى الظهر ثم عاد إلى مجلسه ثم صلى العصر فعاد إلى مجلسه كل ذلك يلاحظ الهر فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرذ فوثب عليه الهر فأخذه فقال زياد من كانت له حاجة فليواظب عليها مواظبة الهر فإنه يظفر بها. قال القاسم بن أبي طالب التنوخي كنت ماضياً إلى الأنبار في رفقة بازيانية للسلطان فأطلقوا بازاً على دراج فطار فلحق الدراج فانتهى الدراج إلى غيضة فدخلها فألقى نفسه بين شوك كان فيها وأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين في رجليه ونام على قفاه ورفع رجليه فاستتر بذلك من البازي فلما قرب منه البازي طار فصاده البازي فقالوا ما رأينا دراجاً قط احذر من هذا قال المصنف والعرب تقول احذر من غراب واحذر كم عقعق واحذر من ذئب ويزعمون أن الذئب يبلغ من حذره أنه يزاوج بين عينيه إذا نام فيفتح إحداهما لتكون حارسه قال حميد بن هلال في الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي * بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع قال العسكري هذا محال لأن النوم يأخذه جملة الحي قال مؤلف الكتاب أرادوا بذلك أن يغمض عيناً عند بداية النوم ويفتح عيناً إلى أن يغلب عليه النوم فيكون الكلام صحيحاً ويقولون احذر من ظليم وهو ذكر النعام. روي عن ابن الأعرابي عن هشام ابن سالم قال أكلت حية بيضة مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت وروينا أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام أريد أن تكون في ضيافتي قال سليمان أنا وحدي قال لا بل العسكر كله في جزيرة كذا في يوم كذا فمضى سليمان إلى هناك فصعد الهدهد إلى الجو جرادة وخنقها ورمى بها في البحر وقال يا نبي الله إن كان اللحم قليلاً فالمرق كثير فكلوا من فاته اللحم ناله المرق فضحك سليمان وجنوده من ذك حولاً كاملاً. قلت من أحوال الحيوان البهيم وأفعاله الدالة على الفطنة أن العصافير لا تقيم إلا في دار مسكونة فإن هجرها الناس لم تقم، وأما الهرة فإنها تألف الدار وإن رحل أهلها والكلب يرحل مع أهل الدار ولا يلتفت إلى الدار ومتى طرقت العصافير آفة استغاثت فأغاثها كل عصفور يسمع حتى أنه قد يقع فرخها فيستغيث فلا يلقى عصفور يسمع إلا جاء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم فيحدثون له بذلك قوة وحركة حتى يطير معهم قال بعض الصيادين ربما رأيت العصفور على حائط فأومي بيدي إلى الأرض كأنني أتناول شيئاً فلا يتحرك فإن مسست بيدي حصاة طار قبل أن تتمكن منها يدي. الحمام إذا علم الذكر أن الأنثى قد حملت اشتغل هو وهي بعمل العش وأشخصا لها حروفاً تحفظ البيض ثم سخناها ونفيا عنها طباعها وأحدثا لها طبيعة أخرى مستخرجة من رائحة أبدانها ثم يقلبان البيض في الأيام فتأخذ البيضة نصيبها من الحضن وساعات الحضن أكثرها على الأنثى كالمرأة التي تكفل الحضانة فإذا صار البيض فراخاً كان أكثر الزق على الذكر ومتى انصدع البيض علماً أن حواصل الفراخ لا تتسع للغذاء فينفخان الريح في حلوقهما لتنتفخ الحوصلة وتتسع ثم يعلمان أنه لا يصلح أن يزق الطعام فيزقان اللعاب المختلط بقواهما وقوى الطعام كاللبا ثم يعلمان أن الحوصلة تحتاج إلى دبغ وتقوية فيأكلان من سورج الحيطان وهو شيء بين الملح الخالص وبين التراب المالح فيزقانه فإذا علما أنه قد اشتد زقاه الحب فإذا علما أمه قد أطلق أن يلقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللفظ فيعوده فإذا علما أنه قد قوي على ذلك ضرباه إذا سألهما الكفاية ومنعاه ثم يبتدئان لغيره فيبتدئ الذكر بالدعاء وتبتدئ الأنثى بالتأني والاستدعاء ثم ترفق وتتشكل ثم تمتنع فتحبب ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويحدث لهما من الغزل والتقبيل والرشف. والتنين إذا هلكت زوجته لم يتزوج وكذلك هي والعنكبوت تنسج بما هو يسكنها شبكة للذباب فإذا تعرقلت فيها صادها ويروى أن الليث وهو صنف من العناكب يلطا بالأرض ويجمع نفسه ويرى الذباب أنه لاهٍ عنه وثب وثوب الفهد فيصيدها. والثعلب إذا أعوزه القوت تماوت ونفخ بطنه فيحبسه الطير ميتاً فإذا وقع عليه وثب عليها، والخفاش ضعيف البصر فلا يطير إلا عند الغروب لأنه وقت لا ضوء فيه يغلب بصرع ولا ظلمة والنملة والذرة تدخر في الصيف للشتاء ثم تخاف على المدخر من الحبوب العفن فتخرجه فتنشره ليضربه الهواء وربما اختارت ذلك في ليالي القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها ندياً وخافت أن تنبت نقرت وسط الحبة كأنها تعلم أنها تنبت من ذلك المكان وفلقتها نصفين فإن كان كزبرة فلقتها أربع لأن أنصاف الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من الشم ما ليس لشيء وربما أكل الإنسان أو ما أشبهه فتسقط من يده الواحدة أو بعضها وليس بقربه ذرة فلا تلبث تقبل ذرة أو نملة قاصدة إلى تلم الجرادة فتحاول نقلها إلى موضعها فتعجز فتكر راجعة إلى بيتها فلا تلبث أن تقبل وخلفها كالخيط فتتعاون فتحملها فانظر إلى صدق الشم لما لا يشمه الإنسان ثم إلى نقد الهمة إلى الجرأة في محاولة نقل شيء وزنها خمسمائة مرة أو أكثر وأقل أن تلقى أخرى إلا وقفت معها وحدثتها ويدل قوله تعالى قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ومن الحيات ما يغمس ذنبه في الرمل وينتصب قائماً نصف النهار في شدة الحر فيجيء الطائر فيكره الوقوع على الرمل لحره فيقع على رأس الحية على أنها عود فتقبض عليه وزعم قوم أن الحية في بلادهم تأتي البقرة فتنطوي على فخذها وتلتقم الثدي فلا تستطيع البقرة أن تتزمزم فتمتص اللبن. ومن فهم اليربوع لا يتخذ حجره إلا في كدوة وهو الموضع الصلب ليرتفع عن السيل فيسلم من مجاري المياه ومدق الحافر فيحفر في الصلابة ويعمق ثم يتخذ في زوايا بيته القاصعاء والنافقاء والرامقاء والرهطاء بيوت قد اتخذها ورق أبوابها فإذا أحس شراً دفع بعضها وخرج ولما علم من نفسه أنه كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة أو شجرة ليكون إذا تباعد عن حجره لطلب طعمه أو خوف حسن اهتداؤه إليه، والظبي لا يدخل كناسه إلا وهو مستدير يستقبل بعينيه ما يخاف على نفسه وخشفه والضبة تبيض ستين بيضة ثم تسد عليهن باب حجرها تدعهن أربعين صباحاً ثم تحفر عنهن وقد انشق البيض، والنسر كثير الشره فإذا امتلأ من الجيف لم يستطع الطيران فيثب وثبات ويدور حول مسقطه مرات ثم يرفع نفسه طبقة طبقة في الهواء حتى يدخل الريح تحته فيرفعه. والسنور يرى الفأرة في السقف فيحرك يده كالمشير لها بالعود فتعود ثم يشير إليها بالرجوع فترجع وإنما يطلب أن تنزلق فلا يزال يفعل ذلك حتى تسقط. والأسد ربما حبس العنز بيمينه وطعن بمخلب يساره في لبته وقد أقفاه على مؤخرة فيتلقى دمه شاخباً في فيه كأنه ينصب من فوارة حتى إذا شربه واستفرغه شق بطنه. والبق يخرج لطلب الرزق فيعرف أن الذي يعيشه الدم فإذا أبصر الجاموس علم أن خلف جلده غذاءه فسقط عليه وطعن بخرطومه وهو واثق بنفوذ سلاحه والعقاب لا تكاد تعاني الصيد بل تقف على موضع عالٍ فإذا اصطاد بعض الطير شيئاً انقضت عليه فإذا أبصره لم يكن له همة إلا الهرب وترك صيده في يدها. وكذلك الحية لا تحفر موضعاً تسكنه ولا تهتم بذلك بل تأتي إلى المكان الذي حفره غيرها فتسكنه فينفر عن ذلك والأيل يذهب قرنه في كل عام فإذا علم أنه قد هلك سلاحه لم يظهر من مخافة السبع فإذا قام في موضعه سمن فيعلم أن حركته تبطئ فيزيد في استخفائه فإذا ظهر قرنه تعرض للشمس والريح وأكثر الحركة والذهاب ليذهب شحمه ولحمه فإذا استقام قرنه عاد إلى عادته الأولى وهو يأكل الحيات فيعتريه عطش شديد فيدور حول الماء ولا يحجزه عن ذلك إلا علمه بأن الماء ينفذ السموم فيسرع هلاكه. وبيوت الزنابير مبنية من زبد المدود، والقنفذ وابن عرس إذا ناهشا الأفعى والحيات الكبار تعالجا بأكل الصعتر البري، والعقاب إذا اشتكت كبدها من رفعها الأرنب والثعلب في الهواء وحطها لذلك مراراً فإنها لا تأكل إلا من الأكباد حتى يبرأ وجعها. وإذا وضعت الفأرة والعقرب فسلمت من شرها ثم قتلتها كيف شاءت. وإذا وضعت الدب الأنثى ولدها كان حينئذ كقدرة لحم غير مفهوم الجوارح فخافت عليه الدر فرفعته في الهواء أياماً وتحوله من موضع إلى موضع إلى أن يشتد. والسمك إذا حصلت في الشبكة ولم تستطع الخروج علمت أنه لا ينجيها إلا الوثوب فتتأخر قدر رمح ثم تقبل واثبة نحو عشرة أذرع فتخرق الشبكة. والفهد إذا سمن علم أنه مطلوب وأن حركته قد ثقلت فهو يخفي نفسه بجهده حتى ينقضي الزمان الذي يسمن فيه الفهود. ه في الهواء أياماً وتحوله من موضع إلى موضع إلى أن يشتد. والسمك إذا حصلت في الشبكة ولم تستطع الخروج علمت أنه لا ينجيها إلا الوثوب فتتأخر قدر رمح ثم تقبل واثبة نحو عشرة أذرع فتخرق الشبكة. والفهد إذا سمن علم أنه مطلوب وأن حركته قد ثقلت فهو يخفي نفسه بجهده حتى ينقضي الزمان الذي يسمن فيه الفهود.


باب في ذكر طرف من أخبار النساء والمتفطنات حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قلت يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً فيه شجراً كل منها ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك قال في التي لم يرتع منها نعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها. حدثنا القاسم بن محمد عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر أقرع بين نسائه فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعاً فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سار بالليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة إلا تركبين بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وانظر قالت بلى فركبت عائشة على بعير حفصة وركبت حفصة على بعير عائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم صار معها حتى نزلوا ففقدت النبي صلى الله عليه وسلم فغارت فلما نزلت جعلت تدخل رجليها بين الاذخر وتقول يا رب سلط عليّ عقرباً يلدغني رسولك لا أستطيع أن أقول شيئاً. عن عبد الله بن مصعب قال، قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهر النساء على أربعين أوقية وإن كانت بنت ذي الغصة يعني يزيد بن الحصين الصحابي الحارثي فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صنف النساء طويلة في أنفها فطس ما ذاك لك قال ولم قالت لأن الله عز وجل قال وآتيكم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً قال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ. عن محمد بن معين الغفاري قال أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله فقال لها نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول وهو يقرر عليها الجواب فقال له كعب الأسدي يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه فقال له عمر كما فهمت كلامها فاقض بينهما فقال كعب عليّ بزوجها فأتى به فقال أن امرأتك هذه تشكوك قال أفي طعام أو شرب قال لا فقالت المرأة: يا أيها القاضي الحكيم أرشده * إلهي خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده * نهاره وليله ما يرقده ولست في أمر النساء أحمده فقال زوجها: زهدت في فراشها وفي الحجل * إني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النمل وفي السبع الطول * وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها حقاً عليك يا رجل * تصيبها في أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فذلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما أدري من أي أمريك أعجب أفمن فهمك أمرها أم من حكمك بينهما اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. عن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قالت لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم فأتاني جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال أرى هذا والله قد فجعكم بن له مع نفسه فقلت كلا يا أبت قد ترك لنا خيراً كثيراً فعمدت إلى أحجار جعلها في كوة البيت كان أبو بكر يحصل ماله وغطيت على الأحجار بثوب ثم جئت به فأخذت بيده ووضعتها على الثوب وقلت ترك لنا هذا فجعل يجدمس الحجارة من وراء الثوب فقال أما إذا ترك لكم هذا فنعم ولا والله ما ترك لنا قليلاً ولا كثيراً. قال الأصمعي أتت امرأة حاتم بن عبد الله ابن أبي بكرة فقالت له أتيتك من بلاد شاسعة ترفعني رافعة وتخفضني خافضة لممات من الأمور حللن بي فبرين لحمي ووهن عظمي وتركتني والهة كالحريض قد ضاق بي البلد العريض هلك الوالد وغاب الوافد وعدم الطارف والتالد فسألت في حياء العرب عن المرجو سببه المحمود نائله الكريم شمائله فدللت عليك وأنا امرأة من هوزان فافعل بي أحد ثلاث إما أن تقيم أودي وإما أن تحسن صفدي وإما أن تردني إلى بلدي فقال بل أجمعهن إليك وحباً وكرامة. قال الأصمعي مات ابن لأعرابية فما زالت تبكي حتى خدد الدمع خدها ثم استرجعت فقالت اللهم إنك قد علمت فرط حب الوالدين لولدها فلذلك لم تأمرهما ببره وعرفت قدر عقوق الولد لوالديه فمن أجل ذلك حضضته على طاعتها اللهم إن ولدي كان من البار بوالديه على ما يكون الوالدان بولدهما فأجزه مني بذلك صلاة ورحمة ولقه سروراً ونضرة فقال لها أعرابي نعم ما دعوت له لولا أنك شبته من الجزع بما لا يجدي فقالت إذا وقعت الضرورات لم يجر عليها حكم المكتسبات وجزعي على ابني غير ممكن في الطاقة صرفه ولا في القدرة منعه والله ولي عذري بفضله فقد قال عز وجل فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم. قال أبو الحسن المدائني دخل عمران بن حطان يوماً على امرأته وكان عمران قبيحاً ذميماً قصيراً وقد تزينت وكانت امرأة حسناء فلما نظر إليها ازدادت في عينه جمالاً وحسناً فلم يتمالك أن يديم النظر إليها فقالت ما شأنك قال لقد أصبحت والله جميلة فقالت أبشر فإني وإياك في الجنة قال ومن أين علمت ذلك قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت وابتليت سلامته بمثلك فصبرت والصابر والشاكر في الجنة. قال المصنف أدام الله سلامته كان عمران بن حطان أحد الخوارج وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم على قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بمنه وكرمه: يا ضربة من تقى ما أراد بها * غلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوماً فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا أكرم بقوم بطون الأرض أقبرهم * لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا فبلغت هذه الأبيات القاضي أبا الطيب الطبري فقال مجيباً له على الفور: إني لأبرأ مما أنت قائله * على ابن ملجم الملعون بهتانا إني لأذكره يوماً فألعنه * ديناً وألعن عمراناً وحطانا عليك ثم عليه الدهر متصلاً * لعائن الله أسرار وأعلانا فأنتم من كلاب النار جاء به * نص الشريعة تبياناً وبرهانا أشار أبو الطيب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج كلاب النار قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي حدثني أبو المشيع قال خرج كثير يلتمس عزة ومعه شنينة فيها ماء فأخذه العطش فتناول الشنينة فإذا هي عظم، ما فيها شيء من الماء فرفعت له نار فأمها فإذا بقربها مظلة بفنائها عجوز فقالت من أنت قال أنا كثير قالت قد كنت أتمنى ملاقاتك فالحمد لله الذي أرانيك قال وما الذي تلتمسينه مني قالت ألست القائل: إذا ما أتينا خله كي نزيلها * أبينا وقلنا الحاجبية أول سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا * ونحن لتلك الحاجبية أوصل قال بلى قالت أفلا قلت كما قال سيدك جميل: يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل فأجبتها في القول بعد تأمل * حبي بثينة عن وصالك شاغلي لو كان في قلبي كقدر قلامة * فضلاً لغيرك ما أتتك رسائلي قلت دعي هذا واسقيني قالت والله لا أسقيك شيئاً قلت ويحك أن العطش قد أضر بي قالت ثكلت بثينة إن طعمت إن عندي قطرة ماء فكان جهده أن ركض راحلته ومضى يطلب الماء فما بلغه حتى أضحى النهار وكاد يقتله العطش. قال دخل ذو الرمة الكوفة فبينا هو يسير في شوارعها على نجيب له إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب دار فاستحسنها ووقعت بقلبه فدنا إليها فقال يا جارية اسقني ماء فأخرجت إليه كوزاً فشرب فأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها فقال يا جارية ما أحر ماءك فقلت لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حر مائي وبرده فقال لها وأي شعري له عيب ألست ذا الرمة قال بلى قالت: فأنت الذي شبهت عنزاً بقفزة * لها ذنب فوق استها أم سالم جعلت لها قرنين فوق جبينها * وطبسين مسودين مثل المحاجم وساقين إن يستمكنا منك يتركا * بجلدك يا غيلان مثل المآثم أيا ظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقا أأنت أم أم سالم قال نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي وما عليها ولم تظهري هذا ونزل راحلته فدفعها إليها فذهب ليمضي فدفعتها إليه وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى. قال زهير بن حسن مولى الربيع بن يونس قد الحجاج على الوليد بن عبد الملك فصلى عنده ركعتين وركب الوليد فمشى الحجاج بين يديه فقال له الوليد اركب يا أبا محمد فقال يا أمير المؤمنين دعني أستكثر من الجهاد فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني عن الجهاد زمناً طويلاً فعزم عليه الوليد أن يركب ودخل فركب مع الوليد فبينا هو يتحدث ويقول ما فعلت بأهل العراق وفعلت أقبلت جارية فنادت الوليد ثم انصرفت فقال الوليد يا أبا محمد أتدري ما قالت الجارية قال لا قال قالت أرسلتني إليك أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن مجالستك هذا الأعرابي وهو في سلاحه وأنت في غلاله غرر فأرسلت إليها أنه الحجاج بن يوسف فراعها ذلك وقالت والله لأن يخلو بن ملك الموت أحب إليّ من أن يخلو بك الحجاج وقد قتل أحباء الله له وأهل طاعته ظلماً وعدواناً فقال الحجاج يا أمير المؤمنين إنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة لا تطلعهن على سرك ولا تستعملهن بأكثر من وثبهن ولا تكثرن مجالستهن صغاراً وذلائم ثم نهض فخرج ودخل الوليد على أم البنين فأخبرها بمقالته فقالت إني أحب أن تأمره بالتسليم علي فسيبلغك بالذي يكون بيني وبينه فغدا الحجاج على الوليد فقال الوليد ائت أم البنين فقال اعفني يا أمير المؤمنين قال فلتفعلن فأتاها فحجبته طويلاً ثم أذنت له ثم قالت له يا حجاج أنت تفتخر على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث أما والله لولا أن الله علم أنك أهون خلقه عليه ما ابتلاك بقتل ابن ذات النطاقين ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الأشعث فلعمري لقد استعلى عليك حتى عجعجت ووالى عليك الهرار حتى عويت فلولا أن أمير المؤمنين نادى في أهل اليمن وأنت في أضيق من القرن فأظلتك رماحهم وعلاك كفاحهم لكنت مأسوراً قد أخذ الذي فيه عيناك وعلى هذا فإن نساء أمير المؤمنين قد نفضن العطر عن غدائرهن وبعنه في أعطية أوليائه وإماماً أشرت على أمير المؤمنين من قطع لذاته وبلوغ أوطاره من نسائه فإن يكن إنما ينفرجن عن مثل أمير المؤمنين فغير مجيبك إلى ذلك وإن كن ينفرجن عن مثل ما انفرجت به أمك البظراء عنك من ضعف الغريزية وقبح المنظر في الخلق والخلق يالكع فما أحقه أن يقتدي بقولك قاتل الله الذي يقول: أسد علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تنفر من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغا * أو قد كان قلبك في جناحي طائر ثم أمرت جارية لها فأخرجته فلما دخل على الوليد قال ما كنت فيه يا أبا محمد فقال والله يا أمير المؤمنين ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلى من ظهرها قال إنها بنت عبد العزيز. قال ابن السكيت عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الحج فخرجت إليه جارية شاعرة فبكت لما رأت آلة السفر فقال محمد بن عبد الله: دمعة كاللؤلؤ الرط * ب على الخد الأسيل هطلت في ساعة البي * ن من الطرف الكحيل ثم قال أجيزي فقالت: حين هم القمر البا * هر بالأفول إنما يفتح العش * اق في وقت الرحيل قال أيوب الوزان قال المفضل دخلت على الرشيد وبيد يديه طبق ورد وعنده جارية مليحة شاعرة أديبة قد أهديت إليه فقال يا مفضل قل في هذا الورد شيئاً تشبهها به فأنشأت أقول: كأنه خد مرقوق بقلبه * فم الحبيب وقد أبدى به خجلا فقالت الجارية كأنه لون خدي حين يدفعني * كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا فقال يا مفضل قم فاخرج فإن هذه الماجنة قد هيجتنا فقمت وأرخيت الستور. قال الأصمعي لما قدم الرشيد البصرة يريد الخروج إلى مكة فخرجت معه فلما صرنا بضرية إذا أنا على شفير الوادي بصبية قدامها قصعة لها وإذا هي تقول: طحنتنا طواحن العوام * ورمتنا نوائب الأيام فأتينا كمو لمذ أكفا * لفضالات زادكم والطعام فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا * أيها الزائرون بيت الحرام من رآني فقد رآني ورحلي * فارحموا غربتي وذل مقامي قال فرجعت إلى أمير المؤمنين فقلت صبية على شفير الوادي وأنشدته ما قالت فعجب فقلت يا أمير المؤمنين أفآتيك بها قال لا بل نحن نذهب إليها قال الأصمعي فوق فعليها أمير المؤمنين فقلت لها أنشديه ما كنت تقولينه فأنشدته ولم تهيه فقال يا مسرور املأ قصعتها دنانير قال فملأها حتى فاضت يميناً وشمالاً. حدثنا ابن الشيظمي قال حججت في سنة قحطة جدبة فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ أبصرت جارية من أحسن الناس قداً وقواماً وخلقاً وهي متعلقة بأستار الكعبة تقول إلهي وسيدي ها أنا أمتك الغريبة وسائلتك الفقيرة حيث لا يخفي عليك بكائي ولا يستتر عنك سوء حالي قد هتكت الحاجة حجابي وكشفت الفاقة نقابي فكشفت وجهاً رقيقاً عند الذل وذليلاً عند المسألة طال وعزتك ما حجبه عنه ماء الغنا وصانه ماء الحياء قد جمدت عني كف المرزوقين وضاقت بي صدود المخلوقين فمن حرمني لم ألمه ومن وصلني وكلته إلى مكافأتك ورحمتك وأنت أرحم الراحمين قال فدنوت منها فبررتها ثم قلت لها من أنت وممن أنت فقالت إليك عني من قل ما له وذهب رجاله كيف يكون حاله ثم أنشأت تقول: بعض بنات الرجال أبرزها * الدهر لما قد ترى وأخرجها أبرزها من جليل نعمتها * فابتزها ملكها وأحوجها وطالما كانت العيون إذا * ما خرجت تستشف هودجها إن كان قد ساءها وأحز * نها فطالما سرها وأبهجها الحمد لله رب معسرة * قد ضمن الله أن يفرجها قال فسألت عنها فأخبرت أنها من ولد الحسين بن علي رضوان الله عليهم أجمعين. بلغنا أن كثير عزة لقي جميلاً فقال له متى عهدك ببثينة قال ما لي بها عهد منذ عام أول وهي تغسل ثوباً بوادي الدوم فقال له كثير تحب أن أعهدها لك الليلة قال نعم فأقبل راجعاً إلى بثينة فقال له أبوها يا فلان ما ردك أما كنت عندنا قبيل قال بلى ولكن حضرتني أبيات قلتها في عزة قال وما هي قلت: فقلت لها يا عز أرسل صاحبي * على باب داري والرسول موكل أما تذكرين العهد يوم لقيتكم * بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل فقالت بثينة اخسأ فقال أبوها ما هاجك يا بثينة قالت كلب لا يزال يأتينا من وراء الجبل بالليل وأنصاف النهار قال فرجع إليه فقال قد وعدتك من وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار فالقها إذا شئت. قال مؤلف الكتاب قلت ومن هذا الفن حكي أن أعرابياً بعث غلاماً له إلى امرأة يواعدها موضعاً يأتيها فيه فذهب لغلام وأبلغها الرسالة فكرهت المرأة أن تقر للغلام بما بينهما فقالت والله لئن أخذتك لأعركن أذنك عركة تبكي منها وتستند إلى تلك الشجرة ويغشى عليك إلى وقت العتمة فلم يعرف الغلام معنى هذا الكلام وانصرف إلى صاحبه وحكى له فعلم أنها واعدته تحت الشجرة وقت العتمة قال الصولي سمعت المبرد يقول كنا عند المازني فجاءته أعرابية كانت تغشاه ويهب لها فقالت أنعم الله صاحبك أبا عثمان هل بالرمال أوشال فقال لها يجيء الله بها فقالت: تعلمن أني والذي حج القوم * لولا خيال طارق عند النوم والشوق من ذكراك ما جئت اليوم فقال المازني قاتلها الله ما أفطنها جاءتني مستمنحة فلما رأت أن لا شيء جعلت المجيء زيارة تمن علينا بها. قال إسماعيل بن حمادة بن أبي حنيفة ما ورد علي مثل امرأة تقدمت فقالت أيها القاضي ابن عمي زوجني من هذا ولم أعلم فلما علمت رددت فقلت لها ومتى قالت وقت ما علمت قلت متى علمت قالت وقت ما رددت فما رأيت مثلها قال حدثنا علي ابن القاسم القاضي قال سمعت أبي يقول كان موسى بن إسحاق لا يرى متبسماً قط فقالت له امرأة أيها القاضي لا يحل أن تحكم بين اثنين وأنت غضبان قال ولم قالت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان فتبسم. عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال سليمان بن عبد الملك يوماً والشعراء عند قد قلت نصف بيت فأجيزوه. قال: يروح إذا راحوا ويغدوا إذا غدوا، فلم يصنعوا شيئاً، فدخل إلى جارية له فأخبرها فقالت كيف قلت فأنشدها فقالت: وعما قليل لا يروح ولا يغدو. قال الأصمعي كنت عند أمير المؤمنين الرشيد إذ دخل رجل ومعه جارية للبيع فتأملها الرشيد ثم قال خذ جاريتك فلولا كلف في وجهها وخنس في أنفها لاشتريتها فانطلق بها فلما بلغت الستر قالت يا أمير المؤمنين ارددني إليك أنشدك بيتين حضراني فردها فأنشأت تقول: ما سلم الظبي على حسنه * كلا ولا البدر الذي يوصف الظبي فيه خنس بين * والبدر فيه كلف يعرف فأعجبته بلاغتها فاشتراها وقرب منزلها وكانت أحظى جواريه عنده. قال الجاحظ رأيت بالعسكر امرأة طويلة القامة جداً ونحن على طعام فأردت أن أمازحها فقلت انزلي حتى تأكلي معنا قالت وأنت فاصعد حتى ترى الدنيا قال الجاحظ أيضاً رأيت امرأة جميلة فقلت ما اسمك قالت مكة فقلت أتأذنين لي أن أقبل الحجر الأسود منك قالت لا إلا بالزاد والراحلة قال مؤلف الكتاب وقد رويت لنا هذه الحكاية على وجه آخر قال الجاحظ رأيت جارية بسوق النخاسين ببغداد ينادي عليها وعلى خدها خال فدعوت بها وجعلت أقلبها فقلت لها ما اسمك قالت مكة فقلت الله أكبر قرب الحج أتأذنين أقبل الحجر الأسود قالت له إليك عني ألم تسمع قول الله تعالى لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. قال الأصمعي أتي المنصور بسارق فأمر بقطع يده، فانشأ يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها * بحقويك من عار عليها يشينها فلا خير في الدنيا ولا في نعيمها * إذا ما شمال فارقتها يمينها فقال يا غلام اقطع هذا حد من حدود الله وحق من حقوقه لا سبيل إلى تعطيله قالت أم الغلام واحدي وكادي وكاسبي قال بئس الواحد واحدك وبئس الكاد كادك وبئس الكاسب كاسبك يا غلام اقطع فقالت أم السارق يا أمير المؤمنين أما لك ذنوب تستغفر الله منها قال بلى قالت هبه لي واجعل هذا من ذنوبك التي تستغفر الله منها. وقد رويت لنا هذه الحكاية عن عبد الملك بن مروان فإنه أتى بسارق وثبتت عليه البينة فانشد هذا الشعر وقالت أمه هذا الكلام فقال خلواً سبيله أنشدنا ثعلب عن ابن الأعرابي: وسائلة عن ركب حسان كلهم * ليبلغ حسان بن زيد سؤالها قال وهي تحب حسان فكرهت أن تخصه فسألت عن الركب جميعاً حتى صارت إليه قال هارون بن عبد الملك بن المأمون لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها والله يا جارية إنك لعلى غاية المتمني ولكنك خمشة الساقين فقالت يا أمير المؤمنين إنك أحوج ما يكون إليهما لا تراهما فقال اشتروها فحظيت عنده فأولدها موسى وهارون وحكى أبو بكر الصولي أن المهدي اشترى جارية فاشتد شغفه بها وكانت به أشغف وكانت تتجافاه كثير فدس إليها من عرف ما في نفسها فقالت أخاف أن يملني ويدعني فأموت فأنا أمنع نفسي بعض لذتها منه لأعيش فقال المهدي: ظفرت بالقلب مني * غادة مثل الهلال كلما صح لها ود * ي جاءت باعتلال لا تحب الهجر مني * والتنائي عن وصالي بل لمأمنها على * حبي لها خوف الملال قال أبو نواس استقبلتني امرأة فأسفرت عن وجهها فكانت على غاية الحسن فقالت ما اسمك قلت وجهك فقالت أنت الحسن إذن. حدثنا رجل من تغلب قال كان فينا رجل له ابنة شابة وكان له ابن أخ يهواها وتهواه فمكثا كذلك دهراً ثم إن الجارية خطبها بعض الأشراف فأرغب في المهر فأنعم أبو الجارية واجتمع القوم للخطبة فقالت الجارية لأمها يا أماه ما يمنع أن يزوجني من ابن عمي قالت أمر كان مقضياً قالت والله ما أحسن رباه صغيراً ثم تدعوه كبيراً ثم قالت لها يا أماه إني والله حامل فاكتمي إن شئت أو نوحي فأرسلت الأم إلى الأب فأخبرته الخبر فقال اكتمي هذا الأمر ثم خرج إلى القوم فقال يا هؤلاء إني كنت أجبتكم وأنه قد حدث أمر رجوت أن يكون فيه الأجر وأنا أشهدكم أني قد زوجت ابنتي فلانة من ابن أخي فلان فلما انقضى ذلك قال الشيخ أدخلوها عليه فقالت الجارية هي بالرحمن كافرة إن دخل عليها من سنة أو تبين حملها قال فما دخل عليها إلا بعد حول فعلم أبوها أنها احتالت عليه. قال الصولي قال العتبي رأيت امرأة أعجبتني صورتها فقلت ألك بعل قالت لا قلت أفترغبين في التزويج قالت نعم ولكن لي خصلة أظنك لا ترضاها قلت وما هي قالت بياض برأسي قال فثنين عنان فرسي وسرت قليلاً فنادتني أقسمت عليك لتقفن ثم أتت موضع خالٍ فكشفت عن شعر كأنه العناقيد السوناي فقلت والله ما بلغت العشرين ولكنني عرفتك أنا نكره منك ما تكره منا قال فخجلت وسرت وأنا أقول: فجعلت أطلب وصلها بتملق * والشيب يغمزها بأن لا تفعلي حدثنا العتبي قال قال رجل من ولد علي عليه السلام لامرأة أمرك بيدك ثم ندم فقالت أما والله لقد كان بيدك عشرين سنة فأحسنت حفظه وصحبه فلن أضيعه إذا كان بيدي ساعة من نهار وقد رددته إليك فأعجب بذلك من قولها وأمسكها. قال أراد شعيب أن يتزوج امرأة فقال لها إني سيء الخلق فقالت أسوأ منك خلقاً من أحوجك أن تكون سيئاً قال أنت امرأتي قال سمعت الفضل بن إبراهيم يقول مر شاعر بنسوة فأعجبه شانهن فجعل يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا * نعوذ بالله من شر الشياطين قال فأجابته واحدة منهن وجعلت تقول: إن النساء رياحين خلقن لكم * وكلكم يشتهي شم الرياحين قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي كان لرجل من الأعراب ابنة وكان له غلام فراودها عن نفسها فوعدته الليل وأعدت له شفرة حدتها فلما جاءها للميعاد فجبته فخرج يعوي فسمعه مولاه فقال من فعل بك، قال ابنتك فدخل عليها ما صنعت بهذا الغلام فقالت يا أبت إن العبد من نوكه يشرب من سقاء لم يوكه ومن ورد غير مائه صدر بمثل دائه فقال لها شللاً. قال الشرقي بن فطامي كان شن من دهاة العرب فقال والله لأطوفن حتى أجد امرأة مثلي فأتزوجها فسار حتى لقي رجلاً يريد قرية يريدها شن فصحبه فلما انطلقا قال له شن أتحملني أم أحملك فقال الرجل يا جاهل كيف يحمل الراكب الراكب فسارا حتى رأيا زرعاً قد استحصد فقال شن: أترى هذا الزرع قد أكل أم لا فقال يا جاهل أما تراه قائماً فمرا بجنازة فقال أترى صاحبها حياً أو ميتاً فقال ما رأيت أجهل منك أتراهم حملوا إلى القبور حياً ثم سار به الرجل إلى منزله وكانت له ابنة تسمى طبقة فقص عليها القصة فقالت أما قوله أتحملني أم أحملك فأراد تحدثني أم أحدثك حتى تقطع طريقنا وأما قوله أترى هذا الزرع قد أكل أم لا فأراد باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا وأما قوله في الميت فإنه أراد اترك عقبا يحيا به ذكره أم لا فخرج الرجل فحادثه ثم أخبره بقول ابنته فخطبها إليه فزوجه إياها فحملها إلى أهله فلما عرفوا عقلها ودهاءها قالوا وافق شن طبقة. قال حدثني أبو محمد بن داسته أن رجلاً اعترض جارية في الطريق فقال لها أبيدك صنعة قالت لا ولكن برجلي تعني أنها رقاصة. قال المحسن وحدثني أنه سمع امرأة تخاصمت مع زوجها فقالت له طلقني فقال لها أنت حبلى حتى إذا ولدت طلقتك قالت ما عليك منه قال فإيش تعملين به قالت اقعده على باب الجنة فقاعي فقلت لعجوز كانت تتوسط بينهما إيش معنى هذا قالت تريد أنها تشرب ماء السداب وتتحمل سداباً عليه أدوية لتسقط فيلحق الصبي بالجنة فيكون كالفقاعي. قال أبو بكر ابن الأزهر حدثني بعض إخواني أن رجلاً كان بالأهواز وكان له ثروة ونعمة وأهل فسار إلى البصرة مرة فتزوج بها فكان يأتي تلك المرأة في السنة مرة أو مرتين وكان للبصرية عم يكاتبه فوقع كتاب منه في يد الأهوازية فعملت الحال فكتبت إليه من حمية البصري بأن امرأتك قد ماتت فالحق فقرأه ثم أخذ في إصلاح أمره ليخرج فقالت الأهوازية إني أراك مشغول القلب وأظن أن لك بالبصرة امرأة، فقال: معاذ الله فقالت لا أقنع بقولك دون يمينك فتحلف بطلاق كل امرأة لك غائبة أو حاضرة فحلف لها ظناً أن تلك قد ماتت فقالت له لا حاجة لك في الخروج فإن تلك بانت وهي في الحياة. قال علي بن الجهم اشتريت جارية فقلت لها ما أحسبك إلا بكراً فقالت يا سيدي كثرت الفتوح في زمان الواثق وقلت لها ليلة كم بيننا وبين الصبح قالت عناق مشتاق، ونظرت إلى الشمس كاسفة فقالت احتشمت محاسني فانتقبت وقلت لها ليلة نجعل مجلسنا الليلة في القمر فقالت ما أولئك بالجمع بين الضرائر وكانت تكره الحلي وتقول تستر المحاسن كما تغطي القبائح. عرض على المتوكل جارية فقال لها أبكراً أنت أم إيش فقالت أم إيش يا أمير المؤمنين فضحك وابتاعها. وضع المعتضد رأسه في حجر بعض جواريه فجعلت تحت رأسه مخدة ونهضت فلما انتبه قال لم فعلت ذاك وأكبره فقالت كذا علمنا أن لا يقعد قاعد بحضرة من ينام ولا ينام بحضرة قاعد فاستحسن المعتضد ذلك منها واستعقلها. بلغنا عن غريب وكان يقال إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي وكانت مغنية ذكية شاعرة اشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فكتبت إلى بعض الناس أردت ولولا ولعلي، فكتبت تحن أردت ليت وتحت لولا ماذا وتحت لعلي أرجو فمضت إليه قال أبو الحسن بن هلال الصابي حدثنا أبو محمد الحارثي قال كان عندنا بواسط رجل موسر يقال له أبو محمد وكانت عنده مغنية تغني: خليلي هيا نصطبح بسواد فقال لها بالله غني لي: خليلي هيا نصطبح بسهاد، فقالت له إذا عزمت فوجدك. وقال أبو حنيفة خدعتني امرأة أشارت إلى كيس مطروح في الطريق فتوهمت أنه لها فحملته إليها فقالت احتفظ به حتى يجيء صاحبه. لما قتل كمري وزيره بزر جمهر أراد أن يتزوج ابنته فقالت للثقات لو كان ملككم حازماً لما دخل بين شعاره ودثار مأثوره قال رجل لجارية أراد شراءها لا يريبك هذا الشيب الذي ترينه فإن عندي قرة عين فقالت الجارية أيسرك إن عندك عجوزاً مغتلمة. قال ابن المبارك بن أحمد خرج رجل على سبيل الفرجة فقعد على الجسر فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال رحم الله أبا العلاء المعري وما وقفا ومرا مشرقة ومغرباً فتبعت المرأة وقلت لها إن لم تقولي ما قلتما وإلا فضحتك وتعلقت بك فقالت قال لي الشاب رحم الله علي ابن الجهم أراد به قوله: عيون المها بين الرصافة والجسر * جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وأردت أنا بتر حمي على المعري قوله: فيا دارها بالحزن مزارها * قريب ولكن دون ذلك أهوال قال ابن الزبير لامرأة من الخوارج أخرجي المال من تحت استك، قال فالتفتت إلى من بحضرتها وقالت أنشدكم الله أهذا من كلام الخلفاء، قالوا لا قالت لابن الزبير كيف ترى هذا الخلع الخفي. قال المتنبي قال لي رجل من الهاشميين كتبت إلى امرأتي وأنا في السفر كتاباً تمثلت فيه ببيت لك: بن التعلل لا أهل ولا وطن * ولا نديم ولا كأس ولا سكن فكتبت إليّ والله ما أنت كما ذكرته في هذا البيت بل أنت كما قال الشاعر: سهرت بعد رحيلي ووحشة لكم * ثم استمر مريري وارعوى الوسن ونقلت من خط الشيخ أبي الوفاء بن عقيل قال كان بعض قضاة الحنيفة من مذهبه، أنه إذا ارتاب بالشهود فرقهم فشهد عنده رجل وامرأتان فيما يشهد فيه النساء فأراد أن يفرق بين المرأتين على عادته فقالت إحداهما أخطأت لأن الله تعالى قال فتذكر إحداهما الأخرى فإذا فرقت زال المعنى الذي قصده الشرع فأمسك. ذكر أن رجلاً دعا المبرد بالبصرة مع جماعة فغنت جارية من وراء الستار وأنشأت تقول: وقالوا لها هذا حبيبك معرضاً * فقالت إلا إعراضه أيسر الخطب فما هي إلا نظرة بتبسم * فتصطك رجلاه ويسقط للجنب فطرب كل من حضر إلا المبرد فقال له صاحب المجلس كنت أحق الناس بالطرب فقالت الجارية: دعه يا مولاي فإنه سمعني أقول هذا حبيبك معرضاً فظنني لحنت ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ وهذا بعلي شيخاً قال فطرب المبرد إلى أن شق ثوبه. قال بعضهم حضرت رفيقتين وكانت إحداهما تعبث بكل من تقدر عليه والأخرى ساكتة فقلت للساكتة رفيقتك هذه ما تستقر مع واحد فقالت نعم وهي تقول بالسنة والجماعة وأنا أقول بإثبات القدر. غضب المأمون يوماً على عبد الله بن طاهر فأراد طاهر أن يقصده فورد عليه كتاب من صديق له مقصور على السلام وفي حاشيته يا موسى فجعل يتأمله ولا يعلم معنى ذلك فقالت له جارية وكانت فطنة أراد يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فتيقظ عن قصد المأمون. عرض على رجل جاريتان بكر وثيب فمال إلى البكر، فقالت الثيب لم رغبت فيها وما بيني وبينها إلا يوم، فقالت البكر وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون فأعجبتاه فاشتراهما. قال خاصمت امرأة زوجها في تضييقه عليها وعلى نفسه فقالت والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحب الوطن وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران. قال الجاحظ قلت لجارية ببغداد أبكر أنت نعوذ بالله من الكساد يعني الثيوبة. جاءت دلالة إلى قوم فقالت عقدي زوج يكتب بالحديد ويختم بالزجاج فرضوا به وزوجوه فإذا هو حجام. قالت دلالة لرجل عندي امرأة كأنها طاقة نرجس فتزوجها فإذا هي عجوز قبيحة فقال كذبت عليّ وغششتيني فقالت لا والله ما فعلت إنما شبهتها بطاقة نرجس لأن شعرها أبيض ووجهها أصفر وساقها أخضر. أعطت امرأة جاريتها درهماً وقالت اشتري هريسة فرجعت فقالت يا سيدتي سقط الدرهم مني فضاع فقالت يا فاعلة تكلميني بفمك كله وتقولين ذهب الدرهم فأمسكت الجارية نصف فمها بيدها وقالت بالنصف الآخر وانكسرت يا سيدتي الزبدية كان رجل يقف تحت روشن امرأة وهي تكره وقوفه قالت فجاء في بعض الأيام وعليه قميص ديبقي قد غسله عند المطري وسقاه نشا وتحته قميص رومي قالت وكان للناس أترج سوسي في الأترجة ثلاثون رطلاً فأخرجت بطيخة وأشارت إليه تعال خذ هذه فجاء فوقف تحت الروشن فقالت أمسك حجرك صلباً حتى لا يقع فتنكسر فلزم حجره فأخرجت البطيخة كأنها ترمي بها وأخذت أترجة فرصت بها في حجره فلم يردها شيء سوى الأرض فجمعه وهرب مستحياً وما عاد بعدها. بكت عجوز على ميت فقيل لها بماذا استحق هذا منك فقالت جاورنا وما فينا إلا من تجب عليه الزكاة. كانت جارية لبعض الأكابر وكانت عفيفة إلا أنها كانت تفحش في مجونها فقال لها مولاها اقصري من هذا الفحش بمحضر من الرجال فقالت أفحش منه عندهم أخذك دراهمهم بسببي وقال لها بعض الحاضرين وكان شيخاً: يا أحسن الناس وجهاً * مني علي بقبلة فأجاب مسرعة: يا أسمج الناس وجهاً * وأسخن الناس مقله إذا سمحت لما رم * ته فأني بذله وكيف يوجد بين الح * مار والخشف وصله فلا تطف بالغواني * فما يردنك خمله وكل شيخ تصابى * على الصبايا فأبله قال رجل لجارية أراد شراءها فسألها عن ثمنها فقال يا جارية كم دفعوا فيك فقالت وما يعلم جنود ربك إلا هو قال حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد الكاتب قال: حدثني بعض الأشراف بالكوفة أنه كان بها رجل حسني يعرف بالأدرع شديد القلب جداً قال وكان في خرائب الكوفة شيء يظهر للمجتازين فيه نار يطول تارة ويقصر أخرى يقولون هو غولة يفزع منه الناس فخرج الأدرع ليلة راكباً في بعض شأنه قال لي الدرع فاعترض لي السواد والنار فطال الشخص في وجهي فأنكرته ثم رجعت إلى نفسي فقلت أما شيطان وغولة فهوس وليس إلا إنساناً فذكرت الله تعالى وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم وجمعت عنان الفرس وقرعته بالمقرعة وطرحته على الشخص فازداد طوله وعظم الضوء فيه فنفر الفرس، فقرعته فطرح نفسه عليه فقصر الشخص حتى عاد على قدر قامة فلما كاد الفرس يخالطه ولى هارباً فحركت خلفه فانتهى إلى خربة فدخلها فدخلت خلفه فإذا هو قد نزل سرداباً فيها فنزلت عن فرسي وشددته ونزلت وسيفي مجرد فحين حصلت في السرداب أحسست بحركة الشخص يريد الفرار مني فطرحت نفسي عليه فوقعت يدي على بدن إنسان فقبضت عليه فأخرجته فإذا هي جارية سوداء فقلت أي شيء أنت وإلا قتلتك الساعة قالت قبل كل شيء أنت إنسي أم جني فما رأيت أقوى قلباً منك قط فقلت أي شيء أنت قالت أمة لآل فلان قوم بالكوفة أبقت منهم سنين فتغربت في هذه الخربة فولد لي الفكر أن أحتال بهذه الحيلة وأوهم الناس أني غولة حتى لا يقرب الموضع أحد وأتعرض ليلاً للأحداث وربما رمى أحدهم منديلاً أو إزاراً فآخذه فأبيعه نهاراً وأقتات به أياماً، قلت فما هذا الشخص الذي يطول ويقصر والنار التي تظهر، قالت كساء معي طويل أسود فأخرجته من السرداب وقضبان مهندية أدخل بعضها في بعض في الكساء وارفعه فيطول فإذا أردت تقصيره رفعت من الأنابيب واحدة واحدة فيقصر والنار فتيلة شمع معي في يدي لا أخرج إلا رأسها مقدار ما يضيء الكساء وأرتني الشمعة والكساء والأنابيب ثم قالت قد جازت هذه الحيلة نيفاً وعشرين سنة واعترضت فرسان الكوفة وشجعانها وكل واحد وكل أحد فما أقدم أحد علي غيرك ولا رأيت أشد قلباً منك فحملها الأدرع إلى الكوفة فردها إلى مواليها فكانت تحدث بهذا الحديث ولم ير بعد ذلك أثر غولة فعلم أن الحديث حق. قال أبو حامد الخراساني القاضي بنى ابن عبد السلام الهاشمي بالبصرة داراً كبيرة ولم يتم له تربيعها إلا بسكن لطيف كان لعجوز في جواره امتنعت من بيعه فبذل لها أضعاف ثمنه فأقامت على الامتناع فشكا إليّ ذلك فقلت هذا أيسر الأمر أنا أوجب عليها بيعة فاضطرها إلى أن تسألك وزن الثمن ثم استدعيتها فقلت يا هذه إن قيمة دارك دون ما دفع لك وقد ضاعفها أضعافاً فإن لم تقبليه حجزن عليك لأن هذا تضييع منك فقالت جعلت فداك فهلا كان هذا الحجر منك على من يزن فيما يساوي درهماً عشرة وتركت منزلي فما أختار بيعه فانقطعت في يدها قال نزل رجل من أهل الحجاز مللاً فسأل أي ماء هذا فقيل له ملل وإذا بين يديه صبية سوداء تلفظ العجم تريد النوي فقال قاتل الله الذي يقول: أخذت على ما الشعيرة والهوى * على ملل يا لهف قلبي على ملل أي بأبي إنه والله كان له بها شجن لم يكن لك فإن المبرد كان يسار الكواعب عبد الإناس من بني الحرث بن سعد بن قُضاعة وكان راعياً في أبلهم فبعث ببعض نسائهم وكان أسود فخدعته امرأة منهم وأرته إنها قد قبلته وواعدته ليوم فعلم به بعض أصحابه من الرعاة فنهاه عنها وقال له يا يسار كل من لحم الجوار واشرب من لبن العشاء ودع عنك بنات الأحرار فقال له يسار إني إذا جئتها زحكت أراد ضحكت ولاعبتني. فأتاها في اليوم الذي واعدته فيه فقالت مكانك حتى أطيبك فعمدت إليه فجدعت أنفه وأذنه فرجع إلى صاحبه الذي كان نهاه فأنكره فقال من أنت ويلك قال يسار قال فيسار كان لا أنف له ولا أذنين قال أفما ترى ويحك وبيض العينين، فذهبت مثلاً وسمي يسار الكواعب ممن ذكره جرير حين تزوج الفرزدق إحدى بني نساء شيبان وزاد في مهرها فعيره جرير بذلك فقال: وإني لأخشى إن خطبت اليهمو * عليك الذي لاقى يسار الكواعب قال ابن قتيبة جاءتني جارية بهدية فقلت لها قد علم مولاك إني لا أقبل الهدية قالت ولم قلت أخشى أن يستمد مني علماً لأجل هديته فقالت ما استمد الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وقد كان يقبل الهدية فقبلتها فكانت الجارية أفقه مني. قال وبلغنا أن رجلاً ابتلى بمحبة امرأة فأتى أبا حنيفة فأخبره أن ماله قليل وأنهم إن علموا بذلك لم يزوجوه فقال له أبو حنيفة أتبيعني أحيلك باثني عشر ألف درهم قال لا قال فأخبر القوم إني أعرفك فمضى فخطبها فقالوا من يعرفك فقال أبو حنيفة فسألوا أبا حنيفة عنه فقال ما أعرفه إلا أنه حضر عندي يوماً فسووم في سلعة له باثني عشر ألف درهم فلم يبع فقالوا هذا يدل على أنه ذو مال فزوجوه فلما تيقنت المرأة حاله قالت لا يضيق صدرك وهذا مالي بحكمك ثم مضت إلى أبي حنيفة في حليها وحللها فقالت: فتوى، فدخلت فأسفرت عن وجهها فقال تستري فقالت ما يمكن قد وقعت في أمر لا يخلصني منه ألا أنت أنا بنت هذا البقال الذي على رأس الدرب وقد بلغت عمراً واحتجت إلى الزوج وهو لا يزوجني ويقول لمن يخطبني ابنتي عوراء قرعاء شلاء ثم حسرت عن وجهها ورأسها ويديها ويقول بنتي زمنة وكشفت عن ساقيها وأريد أن تدبرني فقال ترضين أن تكوني لي زوجة فقبلت قدميه وقالت من لي بغلامك فقال امضي في دعة الله فخرجت فأحضر البقال ودفع إليه خمسين ديناراً وقال زوجني ابنتك فكتب كتاباً بمائة دينار فقال البقال يا سيدي استر ما ستر الله أنا لي بنت أزوجك قال دع هذا عنك رضيت بابنتك القرعاء الشلاء الزمنة فزوجه على المائة والخمسين ومضى فحدث زوجته فقالت والله لا كان إلا يكون هذا إلا على يد أبي حنيفة فلما كان عشية تلك الليلة أجلسها أبوها في صن وحملها بينه وبين غلامه فلما رآها أبو حنيفة قال ما هذا فقال البقال اشهد على طلاق أمها إن كانت بنت غيرها فقال أبو حنيفة هي طالق ثلاثاً أعد على الكتاب وأنت في حل من الخمسين وبقي أبو حنيفة متفكر أشهراً ثم جاءت تلك المرأة إليه فقال ما حملك على ما فعلت فقالت وأنت ما حملك على أن غررتنا برجل فقير. قال أبو الحسن البيبي مؤذن المسترشد بالله قال حدثني بعض التجار المسافرين قال كنا نجتمع من بلاد شتى في جامع عمرو بن العاص نتحدث، فبينما نحن جلوس يوماً نتحدث وإذا بامرأة بقربنا في أصل سارية فقال لها رجل من التجار من البغداديين ما شأنك فقالت أنا امرأة وحيدة غاب عني زوجي منذ عشر سنين ولم أسمع له خبراً فقصدت القاضي ليزوجني فامتنع وما ترك لي زوجي نفقة وأريد رجلاً غريباً يشهد لي هو وأصحابه أن زوجي مات أو طلقني لأتزوج أو يقول أنا زوجها ويطلقني عند القاضي لأصبر مدة العدة وأتزوج فقال لها الرجل تعطيني ديناراً حتى أصير معك إلى القاضي وأذكر له إني زوجك وأطلقك فبكت وقالت والله ما أملك غير هذه وأخرجت أربع رباعيات فأخذها منها ومضى معها إلى القاضي وأبطأ علينا فلما كان من الغد لقيناه فقلنا ما أبطأك فقال دعوني فإني حصلت في أمر ذكره فضيحة قلنا أخبرنا قال حضرت معها إلى القاضي فادعت علي الزوجية والغيبة عشر سنين وسألت أن أخلي سبيلها فصدقتها على ذلك، فقال لها القاضي أتبرئينه قالت لا والله لي عليه صداق ونفقة عشر سنين وأنا أحق بذلك فقال لي القاضي أديها حقها ولك الخيار في طلاقها أو إمساكها فورد على ما بلسني ولم أتجاسر أن أحكي صورتي معها فلا أصدق فتقدم القاضي بتسليمي إلى صاحب الشرطة فاستقر الأمر على عشرة دنانير أخذتها مني وغرمت للوكلاء وأعوان القاضي الأربع رباعيات التي أعطتني ومثلها من عندي فضحكنا منه فخجل وخرج من مصر فلم يعرف له خبر. قال ونقل من خط الشيخ أبي الوفاء بن عقيل قال حكي لي بعض الأصدقاء أن امرأة جلست على باب دكان بزار أعزب إلى أن أمست فلما أراد غلق الدكان تراءت له فقال لها ما هذا المساء فقالت والله مالي مكان أبيت فيه فقال لها تمضين معي إلى البيت فقالت نعم فمضى بها إلى بيته وعرض عليها التزويج فأجابت فتزوجها وبقيت عنده أياماً وإذا قد جاء في اليوم الرابع رجل ومعه نسوة فطلبوها فأدخلهم وأكرمهم وقال من أنتم منها فقالوا أقاربها ابن عم وبنات عم وقد سررنا بما سمعنا من الوصلة غير أنا نسألك أن تتركها تزورنا لعرس بعض أقاربنا فدخل إليها فقالت لا تجبهم إلى ذلك وأحلف بطلاقي إنك لا خرجت من داري شهر ليمضي زمن العرس فأنه أصلح لي ولك وإلا أخذوني وأفسدوا قلبي عليك فإني كنت غضبى وتزوجت إليك بغير مشاروتهم ولا أدري من قد دلهم إليك فخرج فحلف كما ذكرت له فخرجوا مأيوسين وأغلق الباب وخرج إلى الدكان وقد علق قلبه بالمرأة فخرجت ولم تستصحب من الدار شيئاً فجاء فلم يجدها فقال قائل ترى ما الذي قصدت قال أبو الوفاء لعلها مستحلة به لأجل زوج طلقها ثلاثاً فليتخوف الإنسان من مثل هذا وليطلع به على غوامض حيل الناس.


باب في ذكر طرف من فطن المتطببين قال محمد بن علي الأمين حدثنا بعض الأطباء الثقات أن غلاماً من بغداد قدم الري فلحقه في طريقه أنه كان ينفث الدم فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد فنظر إلى نبضه وقارورته واستوصف حاله فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة ولم يعرف العلة فاستنظر العليل لينظر في حاله فاشتد الأمر على المريض وقال هذا بأي لي من الحياة لحذق المتطبب وجهله بالعلة فزاد ألمه ففكر الرازي ثم عاد إليه فسأله عن المياه التي شرب فقال من صهاريج ومسقفات فثبت في نفس الرازي بحدة خاطره وجودة ذكائه أن علقة كانت في الماء وقد حصلت في معدته وذلك الدم من فعلها فقال إذا كان في غد عالجتك ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم قال نعم فانصرف الرازي فجمع مركنين كبيرين من طحلب فأحضرهما في غد معه فأراه إياهما قال ابلع جميع ما في هذين المركنين فبلع شيئاً يسيراً ثم وقف قال ابلع قال لا أستطيع فقال للغلمان خذوه فأقيموه ففعلوا به ذلك وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه فأقبل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبساً شديداً يطالبه ببلعه ويتهدده بأن يضرب إلى أن بلعه كارهاً أحد المركنين بأسرع والرجل يستغيث ويقول الساعة قذف فزاد الرازي فيما يكسبه في حلقه فذرعه القيء فتأمل الرازي ما قذف فإذا كانت فيه علقة وإذا هي لما وصل إليها الطحلب قربت إليه بالطبع وتركت موضعها فالتفت على الطحلب ونهض العليل معافى. حدثنا علي بن الحسن الصيدلاني قال كان عندنا غلام حدث من أولاد النبا فلحقه وجع في معدته شديد بلا سبب يعرفه فكانت تضرب عليه أكثر الأوقات ضرباً عظيماً حتى يكاد يتلف وقل أكله ونحل جسمه فحمل إلى الأهواز فعولج بكل شيء فلم ينجع فيه ورد إلى بيته وقد يئس منه فجاز بعض الأطباء فعرف حاله فقال للعليل اشرح لي حالك من زمن الصحة فشرح إلى أن قال دخلت بستاناً فكان في بيت البقر رمان كثير للبيع فأكلت منه كثيراً قال كيف كنت تأكله قال كنت أعض رأس الرمانة بفمي وأرمي به وأكسرها قطعاً وآكل فقال الطبيب غداً أعالجك بإذن الله تعالى فلما كان الغد جاء بقدر اسفيداج قد طبخها من لحم جرو سمين فقال للعليل كل هذا قال العليل ما هو قال إذا أكلت عرفتك فأكل العليل فقال له امتلئ منه فامتلأ ثم قال له أتدري أي شيء أكلت قال لا قال لحم كلب فاندفع يقذف فتأمل القذف إلى أن طرح العلي شيئاً أسود كالنواة فأخذه الطبيب وقال ارفع رأسك فقد برأت فرفع رأسه فسقاه شيئاً يقطع الغثيان وصب على وجهه ماء ورد ثم أراه الذي وقع فإذا هو قرداً فقال أن الموضع الذي كان فيه الرمان كان فيه قردان من البقر وأنه حصلت منهم واحدة في رأس إحدى الرمانات التي اقتلعت رؤوسها بفيك فنزل القرد إلى حلقك وعلق بمعدتك يمتصها وعلمت أن القراد تهش إلى لحم الكلب فإن لم يصح الظن لم يضرك ما أكلت فصح فلا تدخل فمك شيئاً لا تدري ما فيه والله الموفق. حدثنا أبو إدريس الخولاني قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن وقيل له قال لا تغدو العاقل إحدى خصلتين إما أن يهتم لآخرته ومعاده أو الدنيا ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم فانعقد الشحم ثم قال كان ملك في الزمان الأول وكان مثقلاً كثيراً الشحم لا ينتفع بنفسه فجمع المتطببين وقال احتالوا إليّ بحيلة يخفّ عني لحمي هذا قليلاً قال فما قدروا له على شيء قال فبعث له رجل عاقل أديب متطبب فأراه فبعث إليه وأشخصه فقال له عالجني ولك الغنى قال أصلح الله الملك أنا متطبب منجم دعني حتى أنظر الليلة في طالعك أي دواء يوافق طالعك فأسقيك قال فغدا عليه فقال أيها الملك الأمان قال لك الأمان قال رأيت طالعك يدل على أن الباقي من عمرك شهر فإن أحببت عالجتك وإن أدرت بيان ذلك فاحسبني عندك فإن كان لقولي حقيقة فخل عني وإلا فاستقص مني قال فحبسه قال ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مهتماً كلما انسلخ يوم ازداد غماً حتى هزل وخف لحمه ومضى لذلك ثمان وعشرون يوماً فبعث إليه وأخرجه فقال ما ترى قال أعز الله الملك أنا أهون على عزّ وجلّ من أن أعلم الغيب والله ما أعرف عمري فكيف أعرف عمرك إنه لم يكن عندي دواء إلا الغم فلم أقدر أن أجلب إليك الغم إلا بهذه العلة فأذاب شحم الكلي فأجازه وأحسن إليه. حدثنا أبو الحسن بن الحسن بن محمد الصالحي الكاتب قال رأيت بمصر طبيباً كان بها مشهوراً يعرف بالقطيعي وقال أنه يكسب في كل شهر ألف دينار من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر ومن السلطان ومما يأخذه من العامة قال وكان له دار قد جعله شبه المرستان من جملة داره يأوي إليها الضعفاء والمرضى فيداويهم ويقوم بأغذيتهم وأدويتهم وخدمتهم وينفق أكثر كسبه في ذلك فاتفق أن بعض فتيان الرؤساء بمصر أسكت قال فجعل إليه أهل الطب وفيهم القطيعي فاجمعوا على موته إلا القطيعي وعمل أهله على غسله ودفنه فقال القطيعي أعالجه وليس يلحقه أكثر من الموت الذي قد أجمع هؤلاء عليه فخلاه أهله معه فقال هات غلاماً جلداً ومقارع فأتى بذلك فأمر به فمد وضربه عشر مقارع أشد الضرب قم مس جسده ثم ضربه عشراً أخر ثم جسّ كجسه ثم ضربه عشر آخر ثم جس كجسه وقال أيكون للميت نبض قالوا لا قال فجسوا نبض هذا فجسوه فأجمعوا أنه نبض متحرك فضربه عشر مقارع أخر ثم جسوه فجسوه فقالوا قد زاد نبضه فضربه عشراً أخر فتقلب فضربه عشراً فتأوه فضربه عشراً فصاح فقطع عنه الضرب فجلس العليل يتأوه فقال له ما تجد قال أنا جائع فقال أطعموه فجاؤوا بما أكله فرجعت قوته وقمنا وقد برأ فقال له الأطباء من أين لك هذا كنت مسافراً في قافلة فيها أعراب يخفرونا فسقط منهم فارس عن فرسه فأسكت فقالوا قد مات فعمد شيخ منهم فضربه ضرباً شديداً عظيماً وما رفع الضرب عنه حتى أفاق فعلمت أن الضرب جلب إليه الحرارة أزالت سكتته فقست عليه أمر هذا العليل. قال أبو منصور بن مارية وكان من رؤساء البصرة قال أخبرني شيوخنا قال كان بعض أهلنا قد استقى وأيسوا من حياته فحمل إلى بغداد وشاورا الأطباء فيه فوصفوا له أدوية كبار فعفوا أنه قد تناولها فلم تنفع فأيسوا من حياته وقالوا لا حيلة لنا في برئه فسمع العليل فقال دعوني الآن أتزود من الدنيا وآكل ما أشتهي ولا تقتلوني بالحمية فقالوا كل ما تريد فكان يجلس بباب الدار فمهما اجتاز به اشتراه وأكله فمر به رجل يبيع جراداً مطبوخاً فاشترى منه عشرة أرطال فأكلها بأسرها فانحل طبعه فقام في ثلاثة أيام أكثر من ثلاثمائة مجلس وكاد يتلف ثن انقطع القيام وقد زال كل ما كان في جوفه وثابت قوته فبرأ خرج يتصرف في حوائجه فرآه بعض الأطباء فعجب من أمره وسأله عن الخبر فعرفه فقال ليس من شأن الجراد أن يفعل هذا الفعل ولا بد أن يكون في الجراد الذي فعل هذا خاصية فأحب أن تدلني على صاحب هذا الجراد الذي باعه لك فما زالا في طلبه حتى علما به، فرآه الطبيب فقال له ممن اشتريت هذا الجراد فقال ما اشتريته أنا أصيده وأجمع منه شيئاً كثيراً وأطبخه وأبيعه قال فمن أين تصطاده فذكر له مكاناً على فراسخ يسيرة من بغداد فقال له الطبيب أعطيك ديناراً أو تجيء معي إلى الموضع الذي اصطدت منه الجراد قال نعم فخرجا وعاد الطبيب من الغد ومعه من الجراد سيئ ومعه حشيشه فقالوا له ما هذا قال صادفت الجراد الذي يصيده هذا الرجل يرعى في صحراء جميع نباتها حشيشة يقال لها مازريون وهي من دواء الاستسقاء فإذا دفع إلى العليل منها وزن درهم أسهله إسهالاً عظيماً لا يؤمن أن ينضبط والعلاج بها خطر ولذلك ما يكاد يصفها الأطباء فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة ونضجت في معدته ثم طبخ الجراد ضعف فعلها بطبختين فاعتدلت بمقدار ما أبرأت هذا. قال أبو بكر الجفاني دخلت يوماً على القاضي حسين بن أبي عمر وهو مهموم حزين فقلت لا يغم الله قاضي القضاة أبداً ومن يزيد المائي حتى إذا مات يغتم عليه قاضي القضاة هذا الغم كله فقال ويحك مثلك يقول هذا في رجل أوحد في صناعته قد مات ولا خلف له يقاربه في حدقه وهل فخر البلد إلا أن يكون رؤساء الصاع وحذاق أهل العلوم فيه فإذا مضى رجل لا مثل له في صناعة لا بد للناس منها فهلا يدل هذا الأمر على نقصان العلم وانحطاط البلدان ثم أخذ يعدد فضائله والأشياء الظريفة التي عالج بها والعلل الصعبة التي زالت بتدبيره فذكر من ذلك أشياء كثيرة ومنها أنه قال لقد أخبرني من مدة طويلة رجل من جلة هذا البلد أنه كان حدث بابنة له علة ظريفة فكتمتها عنه، أطلع عليها فكتماه هو مدة ثم انتهى أمرها إلى الموت قال فقلت لا يسعني كتم هذا أكثر من هذا قال وكانت العلة أن فرج الصبية كان يضرب عليها ضرباناً عظيماً لا تكاد تنام منه الليل ولا تهدأ بالنهار وتصرخ من ذلك أعظم صراخ ويجري في خلال ذلك منه دم يسير كماء اللحم وليس هناك جرح يظهر ولا ورم كثير فلما خفت المأتم ثم أحضرت يزيد فشاورته فقال تأذن لي في الكلام وتبسط عذري فيه فقلت نعم فقال أنه لا يمكنني أن أصف شيئاً دون أن أشاهد الموضع وأفشه بيدي واسأل المرأة عن أسباب لعلها كانت الجالبة للعلة قال فلعظم الصورة وبلوغها حد التلف أمكنه من ذلك فأطال مساءلتها وحديثها بما ليس من جنس العلة بعد أن حبس الموضع حتى عرف بقمة الألم حتى كدت أن أثب به ثم تصبرت ورجعت إلى ما أعرفه من ستراه فصبرت على مضض إلى أن قال تأمر من يمسكها ففعلت ثن أدخل يده في الموضع دخولاً شديداً فصاحت الصبية وأغمي عليها وانبعث الدم فأخرج في يده حيواناً أقل من الخنفساء فرمى به فجلست الابنة في الحال واستترت وقالت يا أبت استرني فقد عوفيت قال فأخذ الحيوان في يده وخرج من الموضع فلحقته وأجلسته وقلت أخبرني ما هذا قال أن تلك المسألة التي لم أشك أنك أنكرتها إنما كانت لأطلب شيئاً أستدل به على العلة إلى أن قالت لي أن يوماً من الأيام جلست في بيت دولاب البقر من بستان لكم ثم حدثت العلة بها من غير سبب تعرفه من بعد ذلك اليوم فتخايلت أنه قد دب إلى فرجها من القردان وكلما امتص من موضعه ولد الضربان وأنه إذا شبع نقط من الفرج الذي يمتص منه إلى خارج الفرج هذه النقطة اليسيرة من الدم فقلت أدخل يدي وأفتش فأدخلت يدي فوجدت القراد فأخرجته وهو هذا الحيوان وقد كبر وتغيرت صورته لكثرة ما يمص من الدم على طول الأيام قال فتأملت الحيوان فإذا هو قراد قال برئت الصبية قال فقال لي أبو الحسن القاضي هل ببغداد اليوم من له صناعة مثل هذا لا أغتم بمن هذا بعض حذقه. قال جبريل بن يختيشوع كنت مع الرشيد بالرقة ومعه محمد والمأمون وكان رجلاً كثير الأكل والشرب فأكل يوماً أشياء خلط فيها ودخل المستراح فغشي عليه فأخرج وقوى الأمر حتى لم يشكوا في موته فأحضرت وجسيت عرقه فوجدت نبضاً خفياً وقد كان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء وحركة الدم فقلت الصواب أن يحتجم الساعة فقال كوثر الخادم لما لم تقدر من أمر الخليفة يا ابن الفاعلة تقول أحجموا رجلاً ميتاً لا نقبل قولك ولا كرامة فقال المأمون الأمر قد وقع وليس يضر أن تحجمه فأحضر الحجام وتقدمت إلى جماعة من الغلمان بإمساكه ومص الحجام المحاجم فاحمر المكان ففرحت ثم قلت اشرطه فشرطه فخرج الدم فسجدت شكراً فكلما خرج الدم أسفر لونه إلى أن تكلم وقال أين أنا أنا جائع فغديناه وعوفي فسأل صاحب الحرس عن علته فعرفه أنها ألف درهم في كل سنة وسأل صاحبه فعرفه أنها خمسمائة ألف فقال يا جبريل كم عليك قلت خمسون ألفاً قال ما أنصفناك إذ غلات هؤلاء وهم يحرسوني كذلك وعلتك كما ذكرت فأمر بإقطاعه ألف ألف درهم. حدثنا أبو الحسن المهدي القزويني قال كان عندنا طبيب يقال له ابن نوح فلحقتني سكتة فلم يشك أهلي في موتي وغسلوني وكفنوني وحملوني على الجنازة عليه ونساء خلفي يصرخن فقال لهم إن صاحبكم حي فدعوني أعالجه فصاحوا عليه فقال لهم الناس دعوه يعالجه فإن عاش وإلا فلا ضرر عليكم فقالوا نخاف أن تصير فضيحة فقال علي أن لا تصير فضيحة فإن صرنا قال حكم السلطان في أمري وإن برأ فأي شيء لي قالوا ما شئت قال ديته قالوا لا نملك ذلك فرضي منهم بمال أجابه الورثة إليه وحملني فأدخلني الحمام وعالجني وافقت في الساعة الرابعة والعشرين من ذلك الوقت ووقعت البشائر ودفع إليه المال فقلت للطبيب بعد ذلك من أين عرفت هذا فقال رأيت رجليك في الكفن منتصبة وأرجل الموتى منبسطة ولا يجوز انتصابها فعلمت انك حي وخمنت أنك أسكت وجربت عليك فصحت تجربتي. قال أبو أحمد الحارثي كان طبيب نصراني يقال له موسى بن سنان قد أتى برجل منتفخ الذكر لا يقدر أن يبول وهو يستغيث ويصيح فسأله عن علته فذكر أنه لم يبل منذ أيام ورأى ذكره منتفخاً فنظر في حاله فلم يجد شيئاً يوجب عسر البول ولا حصاة فتركه عنده يوماً يسأله فقال له حدثني أدخلت ذكرك في شيء لم تجر عادة الناس به فلحقك هذا فسكت الرجل واستحى فلم يزل الطبيب يبسطه ويشرط له الكتمان إلى أن قال نكحت حماراً ذكراً فقال الطبيب هاتوا مطرقة وغلماناً فجاؤوه فأمسكوا الرجل وجعل ذكره على سندان حداد وطرقه بالمطرقة مرة واحدة وجيعة فبرزت شعيرة وذاك أنه خمن أن شعيرة من جاعرة الحمار قد دخلت في ثقب الذكر فلما طرقها خرجت. حدثنا أبو القاسم الجهني أن خطية لبعض الخلفاء أظنه الرشيد قامت لتتمطى فلما تمطت جاءت لترد يدها فلم تقدر وبقيتا حافتين فصاحت وآلمها ذلك وبلغ الخليفة فدخل وشاهد من أمرها ما أقلته وشاور الأطباء فكل قال شيئاً واستعلمه فلم ينجح وبقيت الجارية على تلك الصورة أياماً والخليفة قلق بها فجاءه أحد الأطباء فقال يا أمير المؤمنين لا دواء لها إلا أن يدخل إلا أن يدخل إليها رجل غريب فيخلو بها ويمرخها مروخاً يعرفه فأجابه الخليفة إلى ذلك طلباً لعافيتها فأحضر الطبيب رجلاً وأخرج من كمه دهناً وقال أريد أن تأمر يا أمير المؤمنين يتعريتها حتى أمرح جميع أعضائها بهذا الدهن فشق ذلك عليه ثم أمر أن يفعل ذلك ووضع في نفسه قتل الرجل وقال للخادم خذه فأدخله عليها بعد أن تعريها فعريت الجارية وأقيمت فلما دخل الرجل وقرب منها سعى إليها وأومأ إلى فرجها ليمسه فغطت الجارية فرجها بيدها ولشدة ما داخلها من الحياء والجزع حمى بدنها بانتشار الحرارة الغريزية فعاونتها على ما أرادت من تغطية فرجها واستعمال بدنها في ذلك فلما غطت فرجها قال لها الرجل قد برأت فلا تحركي يديك فأخذه الخادم وجاء به إلى الرشيد وأخبره الخبر فقال له الرشيد كيف تعمل بمن شاهد فرج حرمتنا فجذب الطبيب بيده لحية الرجل فإذا هي ملصقة فانفعلت فإذا الشخص جارية وقال يا أمير المؤمنين ما كنت لأبدي حرمتك للرجال ولكن خشيت أني أكشف لك الخبر فيتصل بالجارية فتبطل الحيلة لأني أردت أن أدخل إلى قلبها فزعاً شديداً بحمى طبعها ويقودها إلى الحمل على يديها وتحريكها وإعانة الحرارة الغريزية على ذلك فلم يقع لي غير هذا فأخبرتك به فأجزل الخليفة جائزته وأصرفه. قال أبو القاسم ولهذا استعملت الأطباء في علاج اللقوة الضعيفة الصفعة الشديدة على غفلة من ضد الجانب الملقوا ليدخل قلب المصفوع ما حميه فيحول وجهه ضرورة بالطبع إلى حيث صفع فترجع لقوته. روى الصلت بن محمد الجحدري قال حدثنا بشر بن الفضل قال خرجنا حجاجاً فمررنا بمياه من مياه العرب فوصف لنا فيه ثلاثة أخوات بالجمال وقيل لنا إنهن يتطببن ويعالجن فأحببنا أن نراهن فعمدنا إلى صاحب لنا فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه ثم رفعناه على أيدينا وقلنا هذا سليم فهل من راق فخرجت أصغرهن فإذا جارية كالشمس الطالعة فجاءت حتى وقفت عليه فقالت ليس سليم قلنا وكيف قالت لأنه خدشه عود بالت عليه حية ذكر والدليل أنه إذا طلعت عليه الشمس مات فلما طلعت الشمس مات فعجبنا من ذلك. شكا رجل إلى طبيب وجع بطنه فقال ما الذي أكلت قال أكلت رغيفاً محترقاً فدعا الطبيب ليكحله بذور فقال الرجل إنما اشتكى وجع بطني لا عيني قال قد عرفت ولكن أكحلك لتبصر المحترق فلا تأكله.


باب في ذكر فضل العقل أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد والقزاز قالا أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال أنا محمد بن أحمد بن رزق قال حدثنا جعفر بن محمد الخلدي قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا داود بن المجبر قال حدثنا عباد بن كثير عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أنه دخل على عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده على عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إليك قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني عنه فقال أحسنهما عقلا، قلت يا رسول الله أسألك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنما يسئلان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال أنبأنا أبو بكر الخطيب قال أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب قال أخبرنا أبو أحمد الحسين بن علي النيسابوري قال حدثنا محمد بن المسيب قال حدثنا موسى بن سليمان قال حدثنا بقية قال حدثنا عبد الله ابن عمرو عن اسحق بن عبد الله بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجبوا بإسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله. أخبرنا محمد بن أبي منصور قال أخبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف قال أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الملك بن بشر قال أخبرنا علي بن عمر الدار قطنى قال حدثنا القاضي أبو طاهر محمد بن أحمد بن نصر قال حدثنا جعفر الفيريابي قال حدثنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق قال حدثنا الحسن بن يحيى الخشني عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النور وهي الدواة ثم قال هل أكتب قال وما أكتب قال اكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق العقل وقال وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت. أخبرنا محمد بن أبي منصور قال أخبرنا ابن المبارك بن عبد الجبار قال أخبرنا أحمد بن الحرث قال حدثنا جدي محمد بن عبد الكريم قال حدثنا الهيثم ابن عدي قال حدثنا الأعمش عن عمر وبن مرة عن عبد الرحمن بن سابط عن ابن عباس قال لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل قال وعزتي ما خلقت خلقاً قط أحسن منك فبك أعطي وبك آخذ وبك أعاقب. أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال أنبأنا أحمد بن أحمد الحداد قال أنبأنا أبو نعمي أحمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن أحمد بن علي قال حدثنا الرث عن أبي أسامة قال حدثنا داود بن المجبر قال حدثنا عباد كثير عن إدريس عن وهب بن منبه قال إني وجدت فيما انزل الله على أنبيائه أن الشيطان لم يكابد شيئاً أشد عليه من مؤمن عاقل وأنه يكابد مائة جاهل فيستجرهم حتى يركب رقابهم فينقادون له حيث شاء ويكابد المؤمن العاقل فيتصعب عليه حتى لا ينال منه شيئاً من حاجته وقال وهب لإزالة الجبل صخرة صخرة وحجراً حجراً أيسر على الشيطان من مكايدة المؤمن العاقل لأنه إذا كان مؤمناً عاقلاً ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال وأصعب من الحديد وأنه ليزاوله بكل حيلة فإذا لم يقدر أن يستنزله قال يا ويله ماله ولهذا لا طاقة له بهذا ويرفضه ويتحول إلى الجاهل فيستأتسره ويتمكن من قياده حتى يسلمه إلى الفضائح التي يتعجلها في عاجل الدنيا كالجلد والرجم والحلق وتسخيم الوجوه والقطع والصلب وإن الرجلين ليستويان في أعمال البر ويكون بينهما كما بين المشرق والمغرب أو أبعد إذا كان أحدهما أعقل من الآخر. أنبأنا يحيى بن ثابت عن بندار قال أخبرنا أبي قال أخبرنا أبي على بن دوما قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرنا الحسن بن علي القطان قال أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال أنبأنا اسحق بن بشر القرشي قال أخبرنا إدريس عن جده وهب بن منبه أن لقمان عليه السلام قال لابنه يا بني اعقل عن الله عز وجل فإن أعقل الناس عن الله عز وجل أحسنهم عملاً وإن الشيطان ليفر من العاقل وما يستطيع أن يكابده يا بني ما عبد الله بشيء أفضل من العقل. أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال أخبرنا أحمد بن أحمد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ قال حدثنا عبدي الله بن محمد العيشي قال حدثنا وهيب قال أخبرنا الجريري عن أبي العلاء عن طرف أنه قال ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من العقل. أخبرنا محمد قال أخبرنا أحمد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا علي قال حدثنا محمد بن الحسن بن الطفيل قال حدثنا محمد بن أبي السرى قال حدثنا داود عن خليد بن دعلج قال سمعت معاوية بن قرة يقول إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم. أخبرنا أبو المعمر الأنصاري قال أخبرنا صاعد بن سيار قال أخبرنا أحمد بن سهل الفروجي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحفاظ إجازة قال أخبرنا الحسن بن أحمد الفقيه قال أخبرنا عبد الله بن ضريس عن أبي زكريا قال إن الرجل ليتلذذ في الجنة بقدر عقله.


باب في ذكر ماهية العقل ومحله نقل إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل أنه قال العقل غريزة ومثله عن الحرب المحاسبي. وروى عن المحاسبي أيضاً أنه قال هو نور وقال آخرون هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات وقال قوم هو نوع من العلوم الضرورية وهو العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وقال آخرون هو جوهر بسيط وقال آخرون هو جسم شفاف وسئل إعرابي عن العقل فقال لب اغتنمته بتجريب واعلم أن التحقيق في هذا أن يقال هنا الاسم أعنى العقل ينطلق بالاشتراك على أربعة معان أحدها الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم وهو الذي استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده من قال غريزة وكأنه نور يقذف في القلب يستعذبه لإدراك الأشياء والثاني ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات والثالث علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلاً والرابع أن منتهى قوته الغريزية إلى أن نقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة والناس يتفاوتون في هذه الأحوال إلا في القسم الثاني الذي هو العلم الضروري وقد شرحنا هذا وذكرنا فضائل العقل في كتابنا المسمى بمنهاج القاصدين وهذه الإشارة تكفي ههنا فصل وما اشتقاق هذا الاسم أعني العقل فقال ثعلب أصله الامتناع يقال عقلت الناقة إذا منعتها من السير وعقل بطن الرجل إذا حبس فصل وأما محله فنقل الفضل بن زياد عن أحمد أن محله الدماغ وهو قول أبي حنيفة وذهب جماعة من أصحابنا إلى أنه في القلب كما يروى عن الشافعي واستدلوا بقوله تعالى فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله تعالى لمن كان له قلب أي عقل فعبر بالقلب عنه لأنه محله. باب في ذكر العلامات التي يستدل بها على عقل العاقل في ذكر العلامات التي يستدل بها على عقل العاقل وذكاء الذكي قال مؤلف الكتاب هذه العلامات تنقسم قسمين أحدها من حيث الصورة والثاني من حيث المعنى والأحوال والأفعال. ذكر القسم الأول قال الحكماء الخلق المعتدل والبنية المتناسبة دليل على قوة العقل وجودة الفطنة وإذا غلظت الرقبة دلت على قوة الدماغ ووفوره ومن كانت عينه تتحرك بسرعة وحدة فهو مكار محتال لص وأحمد العيون الشهل وإذا لم تكن الشهلاء شديدة البريق ولا يظهر عليها صفرة ولا حمرة دلت على طبع جيد وإذا كانت العين صغيرة غائرة فصاحبها مكار حسود ومن كان نحيف الوجه فهو فهم مهتم بالأمور واللطف في التحاف القصار أظهر و المعتدلون في الطول صالحوا الحال. أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال أخبرنا أحمد بن أحمد قال أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا الحسين بن علي بن نصر قال حدثنا محمد بن عبد الكريم قال حدثنا الهيثم بن عدي قال حدثنا ابن عياش قال حدثنا الشعبي قال حدثني عجلاً قال لي زياد أدخلت على رجلاً عاقلاً قلت أتاه برجل حسن الوجه مديد القامة فصيح اللسان قلت ادخل فدخل فقال زياد يا هذا إني قد أردت مشاورتك في أمر فما عندك قال أني حاقن ولا رأي لحاقن قال يا عجلان أدخله المتوضأ فلما خرج قال إني جائع ولا رأي لجائع قال يا عجلان أئته بالطعام فأتى به فطعم ثم قال سل عما بدا لك فما سأله عن شيء إلا وجد عنده بعض ما يريد أخبرنا المحمد أن ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا أخبرنا حمد بن أحمد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ قال حدثنا عثمان بن محمد قال أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى قال سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت ذا النون يقول من وجدت فيه خمس خصال رجيت له السعادة ولو قبل موته بساعتين قيل ما هي قال استواء الخلق وخفة الروح وغزارة العقل وصفاء التوحيد وطيب المولد. ذكر القسم الثاني وهو الاستدلال على عقل العاقل بالأفعال والأقوال قال المؤلف يستدل على عقل العاقل بسكوته وسكونه وخفض بصره وحركاته في أماكنها اللائقة بها ومراقبته للعواقب فلا تستفزه شهوة عاجلة عقباها ضرر وتراه ينظر في الفضاء فيتخير الأعلى والأحمد عاقبة من مطعم ومشرب وملبس وقول وفعل ويترك ما يخاف ضرره ويستعد لما يجوز وقوعه. أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال أخبرنا أبي قال أخبرنا الحسن بن الحسين دوماً قال أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال أخبرنا أبو حذيفة إسحاق ابن بشر القرشي قال أخبرنا جعفر بن الحرث عن شهر بن حوشب قال. قال أبو الدرداء أبو حذيفة أنبئكم بعلامة العاقل يتواضع لمن فوقه ولا يزدري من دونه يمسك الفضل من منطقة يخالق الناس بأخلاقهم ويحتجر الإيمان فيما بينه وبين ربه عز وجل فهو يمشي في الدنيا بالتقية والكتمان. قال القرشي وأخبرني إدريس عن جده وهب بن منبه أن لقمان قال لابنه يا بني ما يتم عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال الكبر منه مأمون والرشد فيه مأمول يصيب من الدنيا القوت وفضل ماله مبذول، التواضع أحب إليه من الشرف والذل، أحب إليه من العز لا يسام من طلب الفقه طول دهره ولا يتبرم من طلب الحوائج من قبله يستكثر قليل المعروف من غيرها ويستقل كثير المعروف من نفسه والخصلة العاشرة التي بها مجده وأعلى ذكره أن يرى جميع أهل الدنيا خيراً منه وأنه شرهم وإن رأى خيراً منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به وأن رأى شراً منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا فهنالك حين استكمل العقل قال القرشي وأخبرني عثمان بن عبد الرحمن عن مكحول أن لقمان قال لأبنه غاية الشرف والسؤدد حسن العقل ومن حسن عقله غطى ذلك جميع ذنوبه واصلح ذلك مساويه ورضى عنه مولاه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الدربندي قال أخبرنا محمد بن بكر الوراق قال حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي قال حدثنا شهاب بن الحسن العكبري قال سمعت الأصمعي يقول سمعت إبان بن جرير يقول قال الملهب بن أبي صفرة يعجبني أن أرى عقل الكريم زائداً على لسانه ولا يعجبني أن أرى لسانه زائداً على عقله.



باب في سياق المنقول من ذلك عن الأنبياء في سياق المنقول من ذلك عن الأنبياء المتقدمين مما يدل على قوة الفطنة معلوم أن فطن الأنبياء فوق الفطن ولكنا أحببنا أن لا نخلى كتابنا هذا من شيء عنهم فمن المنقول عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أنبأنا محمد بن عبد الملك قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا أبو الحسين بن زرقويه قال أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال أخبرنا الحسن بن علي القطان قال أخبرنا إسماعيل بن عيسى قال أخبرنا أبو حذيفة اسحق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال لما رأت سارة إبراهيم قد شغف بأم إسماعيل غارت غيرة شديدة وحلفت لتقطعن عضوا من أعضاء هاجر فبلغ ذلك هاجر فلبست درعا وجرت ذيلها فهي أول نساء العالمين جرت الذيل وإنما فعلت ذلك لتعفى أثرها في الطريق على سارة فقال إبراهيم هل لك في خير أن فعلت ذلك لتعفى عنها وترضى بقضاء الله عز وجل قالت وكيف لي بما قد حلفت قال اخفضيها فتكون سنة النساء وتبر يمينك قالت افعل فخفضتها فمضت السنة للنساء بالخفض منها أخبرنا عبد الله قال أنبأنا الداوودي قال أخبرنا ابن أعين قال حدثنا الفريري قال حدثنا البخاري قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس لما شب إسماعيل تزوج امرأة فقالت خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم فقالت نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه فقال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء فأخبرته قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحق بأهلك. قال المؤلف وهذا الحديث يدل على فطنة إسماعيل أيضاً ومن المنقول عن سليمان عليه الصلاة والسلام أخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا الحسن بن علي بن المذهب قال أخبرنا أبو بكر بن مالك قال أخبرنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا يونس قال حدثنا ليث عن محمد بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال خرجت امرأتان ومعهما صبيان فعدا الذئب على أحدهما فأخذتا يختصمان في الصبي الباقي فاختصما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى منهما فمرتا على سليمان عليه السلام فقال ما أمركما فقصتا عليه القصة فقال ائتوني بالسكين اشق الغلام بينكما فقالت الصغرى اشتقه قال نعم قالت لا تفعل حظي منه لها فقال هو ابنك فقضى به لها أخرجاه في الصحيحين. أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال أخبرنا أحمد بن أحمد الحداد قال أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال حدثنا الحسن بن محمد بن علي قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس قال حدثنا أحمد بن سنان قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول بعث سليمان عليه السلام إلى ما روى من مردة الجن فأتى به وراء الحائط فوقع بين يدي سليمان أخذ عودا فذرعه بذراعه ورمى به وراء الحائط فوقع بني يدي سليمان فقال ما هذا فأخبر بما صنع المارد قال أتدرون ما أراد قالوا لا قال يقول اصنع ما شئت فإنك تصير إلى مثل هذا من الأرض. أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا أحمد بن أحمد قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي قال حدثنا سعيد بن داود عليه السلام يسعى في موكبه إذ مر بامرأة تصيح بابنها يالدين فوقف سليمان وقال إن دين الله ظاهر فأرسل إلى المرأة فسألها فقالت أن زوجها سافر وله شريك فزعم شريكه أنه مات وأوى أن ولدت غلاماً أن اسميه يالدين فأرسل إلى الشريك فاعترف أنه قتله فقتله سليمان عليه السلام. حدثنا محمد بن كعب القرظي قال جاء رجل إلى سليمان النبي صلى الله عليه وسلّم فقال يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي فنادى الصلاة جامعة ثم خطبهم فقال في خطبته وأحدكم يسرق أوز جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه فمسح رجل برأسه فقال سليمان خذوه فإنه صاحبكم ومن المنقول عن عيسى عليه السلام أن إبليس جاء إليه فقال له الست تزعم أنه لا يصيبك إلا ما كتب الله لك قال بلى قال فارم بنفسك من هذا الجبل فإنه إن قدر لك السلامة تسلم فقال له يا معلون إن الله عز وجل إن يختبر عباده وليس للعبد أن يختبر ربه عز وجل.



باب في سياق المنقول من ذلك عن الأمم السالفة فمن المنقول عن لقمان حدثنا مكحول أن لقمان الحكيم كان عبداً نوبياً أسود وكان قد أعطاه لله تعالى الحكمة وكان لرجل من بني إسرائيل اشتراه بثلاثين مثقالاً ونش يعنى نصف مثقال وكان يعمل له وكان مولاه يعلب بالنرد يقامر عليه وكان على بابه نهر جار فلعب يوماً بالنرد على أن من قمر صاحبه شرب الماء الذي في النهر كله أو افتدي منه وإن هو قمر صاحبه فعل به مثل ذلك قال فقمر سيد لقمان فقال له القامر أشرب ما في النهر وإلا فافتد منه قال فسلني الفداء قال عينيك أفقؤهما أو جميع ما تملك قال أمهلني يومي هذا قال لك ذلك قال فأمسى كئيباً حزيناً إذ جاءه لقمان وقد حمل حزمة على ظهره فسلم على سيده ثم وضع ما معه ورجع إلى سيديه وكان سيده إذا رآه عبث به ويسمع من الكلمة الحكيمة فيعجب منه فلما جلس إليه قال لسيده ما لي أراك كئيباً حزيناً فاعرض عنه فقال له الثانية مثل ذلك فاعرض عنه ثم قال له الثالثة مثل ذلك فاعرض عنه فقال له أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فقص عليه القصة فقال له لقمان لا تغتم فإن لك عندي فرجاً قال وما هو قال إذا أتاك الرجل فقال لك اشرب ما في النهر فقل له اشرب ما بين ضفتي النهر أو المد فإنه سيقول لك اشرب ما بين الضفتين فإنه لا يستطيع أن يحبس عنك المد وتكون قد خرجت مما ضمنت له فعرف سيده أنه قد صادق فطابت نفسه فلما أصبح جاءه الرجل فقال له فلي بشرطي قال له نعم اشرب ما بين الضفتين أو المد قال لا بل ما بين الضفتين قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع قال فخصمه قال فاعتقه مولاه. حدثنا محمد بن إسحاق قال، قال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره ومن ذلك ما نقل عن عبد الله ابن عامر الأزدي في الاحتيال للسلامة من سيل العمر حدثنا الضحاك عن ابن عباس لقد كان لسبأ في مساكنهم آية قال كانت لا تنقطع عنهم جنتهم شتاء ولا صيفاً فكفروا ما أنعم الله عليهم فأرسل عليهم سبيل العرم فسلط على الردم الذي بنوه على غير شربهم جرذاً له مخاليب وأنياب من حديد فأول من علم بذلك عبد الله بن عامر الأزدي فانطلق نحو الردم فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد ويقرض بأنياب من حديد فانصرف إلى أهله فأخبر امرأته وأراها ذلك وأرسل إلى بنيه فقال هل ترون ما رأينا قالوا نعم قال فإن هذا الأمر ليس لنا إليه سبيل اضمحلت الحيل فيه لأن الأمر لله وقد أذن في هلاكه فأتى بهرة والجرذ يحفر ولا يكترث بالهرة فلما رأت الهرة ذلك ولت هاربة فقال عبد الله احتالوا لأنفسكم قالوا يا أبت كيف نحتال قال إني محتال لكم بحيلة قال فدعا أصغر بنيه ثم قال له إذا جلست اليوم في المجلس وكان الناس يجتمعون إليه وينتهون إلى رأيه فإذا اجتمعوا أمرت أصغركم بأمر فليفعل عنه فإذا شتمته فليهم إلى فليلطمني ولا تتغيروا أنتم عليه فإذا رأى الجلساء أنكم لم تتغيروا على أخيكم لم يجسر أحد منهم أن يتغير عليه فاحلف أنا عند ذلك يميناً لا كفارة لها إن لا أقيم بني أظهر قوم قام إلى أصغر بني فلطمني فلم يتغيروا عليه لذلك قالوا تفعل فلما راح الناس إليه أمر ابنه ببعض أمره فلهى عنه ثم أمره فلهى عنه فشتمه فقام إليه فلطم وجهه فعجبوا من جرأة ابنه فنكسوا رؤوسهم وظنوا أن ولده يتغيرون عليه فلما لم يتغير أحد منهم قال الشيخ فحلف أن يتحول عنهم ويستبدلوا بداره فلا يقيم بين أظهر قوم لم يتغيروا على ابنه فقام القوم معتذرين وقالوا إما كنا ظننا أن ولدك لا يتغيرون فذلك الذي منعنا قال قد سبق منى ما ترون وليس إلى غير التحويل سبيل فعرض ضياعه على البيع وكان الناس يتنافسون فيها واحتمل بثقله وعياله فتحول عنهم فلم يلبث القوم إلا قليلاً حتى أتى الجرذ على الردم فاستأصله فلم يفاجئ القوم ليلة بعدما هدأت العيون إذا هم بالسيل قد اقبل فاحتمل أنعامهم وأموالهم وخرب ديارهم وقد جاءت أخبار عن القدماء ستراها في أبوابها إن شاء الله تعالى.



باب في سياق المنقول من ذلك عن نبينا في سياق المنقول من ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلّم كلمات تدل على قوة الفطنة الفطرية فأما ما حصل له بتلقي الوحي وتثقيفه فذلك كثير وليس هو مرادنا ههنا إنما المراد القسم الأول أخبرنا حارثة بن مضرب عن علي عليه السلام قال لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وجدنا عندها رجلين رجلاً من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط فأما القرشي فأفلت وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له كم القوم فيقول هم والله كثير عددهم شديد باسهم فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كم القوم فقال هم والله كثير عددهم شديد باسهم فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله كم ينحرون من الجزر فقال عشراً لكل يوم فقال رسول الله القوم ألف كل جزور لمائة وتبعها أخبرنا كعب بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يردي غزاة يغزوها الأورى بغيرها أخرجاه في الصحيحين أخبرنا أبو سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس إن الله عز وجل يعرض بالخمر سينزل فيها أمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه فلينتفع به قال فما لبثنا إلا يسيراً حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربه ولا يبيع فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها انفرد بإخراجه مسلم أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف حدثنا أبو هريرة قال، قال رجل يا رسول الله لي جار يؤذيني فقال انطلق واخرج متاعك إلى الطريق فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه فقالوا ما شأنك قال لي جار يؤذيني فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال انطرق واخرج متاعك إلى الطريق فجعلوا يقولون اللهم العنه اللهم أخزه فبلغه فأتاه فقال ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك. حدثنا زيد بن سالم أن رجلاً قال لحذيفة يا حذيفة نشكو إلى الله صحبتكم رسول الله أدركتموه ولم ندركه ورأيتموه ولم نره فقال حذيفة ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه والله ما تدري يا ابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مظلمة مطيرة وقد نزل أبو سفيان وأصحابه بالعرصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم أدخله الله الجنة فما قام منا أحد ثم قال من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة فوالله ما قام منا أحد فقال من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيقي يوم القيامة فوالله ما قام أحد منا فقال أبو بكر يا رسول الله ابعث حذيفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حذيفة فقلت لبيك يا رسول الله بأبي أنت وأمي فقال هل أنت ذاهب فقلت والله ما بي أن أقتل ولكنني أخشى أن أوسر فقال إنك لت تؤسر فقلت مرني يا رسول الله بما شئت فقال اذهب حتى تدخل بني ظهراني القوم فات قريشاً فقل يا معشر قريش إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا أين قريش أين قادة الناس أين رؤوس الناس فيقدمونكم فتصلون القتال فيكون القتل بكم ثم ائت قيساً قل يا معشر قيس إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا أين أحلاس الخيل أين الفرسان فيقدمونكم فتصلون القتال فيكون القتل بكم فانطلقت حتى دخلت بين ظهراني القوم فجعلت اصطلي معهم على نيرانهم وجعلت أبث ذلك الحديث الذي أمرني به حتى إذا كان وجاء السحر قام أبو سفيان فدعا اللات والعزي وأشرك ثم قال لينظر كل رجل من جليسه ومعي رجل منهم يصطلي على النار فوثبت عليه فأخذت بيده مخافة أن يأخذني فقلت من أنت فقال أنا فلان بن فلان فقلت أولى فلما دنا الصبح نادوا أين قريش أين رؤوس الناس فقالوا هات الذي أتينا به البارحة أين بنو كنانة أين الرماة فقالوا هات الذي أتيتنا به البارحة فتخاذلوا وبعث الله عليهم تلك الليلة الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفاته حتى لقد رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول فجعل يسحبه ولا يستطيع أن يقوم فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أخبره عن أبي سفيان فجعل يضحك حتى بدت نواجذه وجعلت أنظر إلى أنيابه. عن عاصم الأحوال عن الحسن أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد قتل حميماً له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتأخذ الدية قال لا قال أفتعفو قال لا قال اذهب فاقتله فلما جاوزه الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا فتركه وهو يجر نسعه في عنقه قال ابن قتيبة لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مثل في المأثم واستيجاب النار أن قتله وكيف يريد هذا وقد أباح الله عز وجل قتله بالقصاص ولكن كره رسول الله أن يقتص وأحب له العفو فعرض تعريضاً أوهمه به أنه إن قتله كان مثله في الإثم ليعفو عنه وكان مراده أنه يقتل نفساً كما قتل الأول نفساً فهذا قاتل وهذا قاتل فقد استويا في قاتل وقاتل إلا أن الأول ظالم والآخر مقتص قال مؤلف الكتاب وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا كثير خصوصاً في المعاريض فلنقتصر على هذه النبذة.



باب في سياحة المنقول من ذلك عن الخلفاء في سياحة المنقول من ذلك عن الخلفاء رضي الله عنهم قال مؤلف الكتاب قد ذكرنا طرفاً عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي والحسن والحسين ومعاوية وابن الزبير ونحن نذكر طرفا مما نقل إلينا عمن بعدهم من الخلفاء والله الموفق فمن المنقول عن عبد الملك بن مروان أخبرنا ابن أخي الأصمعي عن عمه قال وجه عبد الملك بن مروان عامر الشعبي إلى ملك الروم في بعض الأمر له فاستكثر الشعبي فقال له من أهل بيت الملك أنتَ قال لا فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمله رقعة لطيفة وقال إذا رجعت إلى صاحبك أبلغته جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة فلما صار الشعبي إلى عبد الملك ذكر ما أحتاج إلى ذكره ونهض من عنده فلما خرج ذكر الرقعة فرجع فقال يا أمير المؤمنين أنه حملني إليك رقعة نسيتها حتى خرجت وكانت في آخر ما حملني فدفعها إليه ونهض فقرأها عبد الملك قال فأمر برده فقال أعلمت ما في هذه الرقعة قال فيها عجبت من العرب كيف ملكت غير هذا أفتدري لم كتب إلي بمثل هذا فقال لا فقال حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك فقال الشعبي لو كان رآك يا أمير المؤمنين ما تسكثرني فبلغ ذلك ملك الروم ففكر في عبد الملك فقال لله أبوه والله ما أردت إلا ذلك! ومن المنقول عن هشام بن عبد الملك قال هشام لمؤدب ولده إذا سمعت منه الكلمة العوراء في المجلس بين جماعة فلا تؤنبه لتخجله وعسى أن ينصر خطاه فيكون نصر للخطأ أقبح من ابتدائه به ولكن احفظها عليه فإذا خلا فرده عنها ومن المنقول عن السفاح أخبرنا سعيد الباهلي عن أبيه قال حدثني من حضر مجلس السفاح وهو أحسد ما كان لبني هاشم والشيعة ووجوه الناس فدخل عبد الله بن حسين بن حسن ومعه مصحف فقال يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف فأشفق الناس أن يجعل السفاح بشيء إليه ولا يريدون ذلك في شيخ بنى هاشم أو يعيا لجوابه فيكون ذلك نقصاً عليه وعارا فأقبل إليه غير مغضب ولا منزعج فقال أن جدك علياً كان خيراً مني وأعدل ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيراً منك شيئاً وكان الواجب أن أعطيك مثله فإن كنت فعلت فقد أنصفتك وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك فما رد عبد الله إليه جواباً وانصرف والناس يعجبون من جوابه له. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال أول خطبة خطبها السفاح في قرية يقال لها العباسية فلما صار إلى موضع الشهادة من الخطبة قال رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال أذكرك الله الذي ذكرته إلا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف فقال له ومن ظلمك قال أبو بكر الذي منع فاطمة فدكا قال وهل كان بعده أحد قال نعم من قال عمر قال على ظلمكم قال نعم قال وهل كان بعده أحد قال نعم قال من قال عثمان قال وأقام على ظلمكم قال نعم قال وهل كان بعده أحد قال نعم قال علي قال وأقام على ظلمكم قال فاسكت الرجل وجعل يلتفت إلى ورائه يطلب مخلصاً فقال له والله الذي لا إله إلا هو لولا أنه أول مقام قمته ثم لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل لأخذت الذي فيه يعناك أقعد وأقبل على الخطبة! ومن المنقول عن المنصور قال إسماعيل بن محمد قال دخل ابن هرمة على أبي جعفر فانشده فقال سل حاجتك قال تكتب إلى عاملك بالمدينة متى وجدني سكران لا يحدني قال هذا حد ولا سبيل إلى إبطاله قال مالي حاجة غير ذلك قال أكتب إلى عاملنا بالمدينة من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاجلده ثمانين واجلد الذي جاء به مائة قالة فكان الشرطة يعمرون به وهو سكران فيقول من يشتري ثمانين بمائة فيمرون ويتركونه وبلغنا عن المنصور أنه جلس في إحدى قباب مدينته فرأى رجلاً ملهوفاً مهموماً يجول في الطرقات فأرسل من أتاه به سأله عن حاله فأخبره الرجل أنه خرج في تجارة فأفاد مالاً وأنه رجع بالمال إلى منزله فدفعه إلى أهله فذكرت امرأته أن المال سرق من بيتها ولم تر نقباً ولا تسليقاً فقال له المنصور منذ كم تزوجتها قال منذ سنة قال أفبكروا تزوجتها قال لا قال فلها ولد من سواك قالا قال فشبابة هي أم مسنة قال بل حديثة فدعا له المنصور بقارورة طيب كان تخذه له حاد الرائحة غريب النوع فدفعها إليه وقال له تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب همك فلما خرج الرجل من عند المنصور قال المنصور قال المنصور لأربعة من ثقاته ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم فمن مر بكم فشممتم منه رائحة هذا الطيب وأشمهم منه فليأتني به وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته وقال لها وهبه لي أمير المؤمنين فلما شمته بعثت إلى رجل كانت تحبه وقد كانت دفعت المال إليه فقالت له تطيب من هذا الطيب فإن أمير المؤمنين وهبه لزوجي فتطيب منه الرجل ومن مجتاز ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحة الطيب منه فأخذه مجتازاً ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحة الطيب منه فأخذه فأتى به المنصور فقال له المنصور من أين استفدت هذا الطيب فإن رائحته غريبة معجبة قال اشتريته قال أخبرنا ممن اشتريته فتلجلج الرجل وخلط كلامه فدعا المنصور صاحب شرطته فقال له خذ هذا الرجل إليك فإن أحضر كذا وكذا من الدنانير فخله يذهب حيث شاء وأن امتنع فاضربه ألف سوط من غير مؤامرة فلما خرج من عنده دعا صاحب شرطته فقال هول عليه وجرده ولا تقدمن بضربه حتى تؤامرني فخرج صاحب شرطته فلما جرده وسجنه أذعن برد الدنانير وأحضرها بهيئتها فاعلم المنصور بذلك فدعا صاحب الدنانير فقال له رأيتك إن رددت عليك الدنانير بهيئتها أتحكمني في امرأتك قال نعم قال فهذه دنانيرك وقد طلقت المرأة عليك وخبره خبرها عن يعقوب بن جعفر أنه قال ومما يعرف ويؤثر من ذكاء المنصور أنه دخل مدينة فقال للربيع اطلب لي رجلاً يعرفني دور الناس فإني أحب أن أعرف ذلك فجاء برجل يعرفه إلا أنه لا يبدؤه حتى يسأله المنصور فلما فارقه أمر له بألف درهم فطالب بها الرجل الربيع فقال ما قال لي شيئاً وأنا أهب لك ألفاً من عندي وسيركب فاذكر فركب معه فجعل يعرفه الدور ولا يرى موضعاً للكلام فلما أراد المنصور أن يفارقه قال له الرجل شعر: واراك تفعل ما تقول وبعضم * مدق اللسان يقول ما لا يفعل ثم إنه أراد الإمضاء فضحك وقال يا ربيع أعطه الألف درهم الذي وعدته وألفاً آخر وعن مبارك الطبري قال سمعت أبا عبيد الله تقول خلا أبو جعفر يوماً مع يزيد بن أبي أسيد فقال يا يزيد بن أبي أسيد فقال يا يزيد ما ترى في قتل أبي مسلم فقال أرى أن تقتله وتقرب إلى الله بدنة فوالله لا يصفوا ملكك ولا تهنأ بعيش ما بقي فنفر مني بقرة ظننت أنه سيأتي على ثم قال قطع الله لسانك واشمت بك عدوك أتشير علي بقتل انصر الناس لنا وأثقلهم على عدونا أما والله لولا حفظي لما سلف منك وأن أعدها هفوة من هفواتك لضربت عنقك قم لا أقام الله رجليك قال فقمت وقد أظلم بصري وتمنيت أن تسيخ الأرض بي فلما كان بعد قتله قال لي يا يزيد أتذكر يوم شاورتك قلت نعم قال فوالله لقد كان ذلك رأياً وما لا شك فيه ولكن خشيت أن يظهر منك فتفسد مكيدتي ومن المنقول عن المهدي عن القاسم بن محمد بن خلاد عن علي بن صالح قال كنت عند المهدي ودخل عليه شريك بن عبد الله القاضي فأراد أن يبخره فقال الخادم بالعود الذي يلهى به فوضعه في حجر شريك فقال شريك ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا أخذه صاحب العسس البارحة فأحببت أن يكون كسره على يد القاضي فقال جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين فكسره ثم أفاضوا في حديث حتى نسى الأمر ثم قال المهدي لشريك ما تقول في رجل أمر وكيلاً له أن يأتي بشيء بعينه فأتى بغيره فتلف ذلك الشيء فقال يضمن يا أمير المؤمنين فقال للخادم أضمن ما تلف بقضيته. ومن المنقول عن محمد بن الفضل قال أخبرنا بعض أهل الأدب عن حسن الوصيف قال قعد المهدي قعوداً عاماً للناس فدخل رجل وفي يده نعل ملفوفة في منديل فقال يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك فقال هاتها فدفعها إليه فقبل باطنها ووضعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها فضلاً عن أن يكون لبسها ولو كذبناه قال للناس أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها على وكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره إذا كان من شأن العامة ميلها إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوى وإن كان ظالماً اشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله ورأينا الذي فعلنا انجح وارجح ومن المنقول عن المأمون رحمه الله قال المبرد حدثني عمارة بن عقيل قال ابن أبي حفصة الشاعر أعلمت أن أمير المؤمنين يعنى المأمون لا يبصر الشعر فقلت من ذا يكون أفرس منه وأنا لننشداول البيت فيسبق آخره من غير أن يكون سمعه قال فإني أنشدته بيتا أجدت فيه فلم أره تحرك له وهذا البيت فاسمعه. أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل فقلت له ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها مسبحة فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولاً عنها وهو المطوق لها إلا قلت كما قال عمك جرير لعبد العزيز بن الوليد. فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله قال مؤلف الكتاب وبلغنا أن حسنا اللؤلؤي كان يحدث المأمون والمأمون يومئذ أمير فنعس المأمون فقال له اللؤلؤي نمت أيها الأمير فاستيقظ المأمون وقال سوقى والله يا غلام خذ بيده قال مؤلف الكتاب قلت وإنما قال ذلك لأن هؤلاء إنما يريدون الحديث ليناموا عليه فكان إيقاظه غفلة عما يراد من الحديث وسوء أدب ومن المنقول عن المعتضد بالله عن أبي عبد الله محمد بن حمدون قال لي المعتضد بالله ليلة وقد قدم له عشاء لقمني وكان الذي قدم له فراريج ودراريج فلقمته من صدر فروج فقال لا لقمني من فخذه فلقمته لقماً ثم قال هات من الدراريج فلقمته من أفخاذها فقال ويلك هوذا تتنادر علي هات من صدورها فقلت يا مولاي ركبت القياس فضحك فقلت إلى كم أضحكك ولا تضحكني قال فشل المطرح وخذ ما تحته قال فشلته فإذا دينار واحد فقلت آخذها قال نعم فقلت بالله هو ذا تتنادر أنت الساعة على خليفة يجيز نديمه بدينار فقال ويلك لا أحد لك في بيت المال حقاً أكثر من هذا ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئاً ولكن هو ذا احتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار فقبلت يده فقال إذا كان غد وجاءني القاسم يعني ابن عبيد الله فهو ذا إسارك خبر تقع عيني عليه سراراً طويلاً التفت فيه إليك كالمغضب وأنظر أنت إليه من خلال ذلك كالمتخالس لي نظر المترائي فإذا خرجت خاطبك جميل وأخذك إلى دعوته ويسألك عن حالك فاشك الفقر والخلة وقلة حظك مني وثقل ظهرك بالدين والعيال وخذ ما يعطيك واطلب كل ما تقع عينك عليه فإنه لا يمنعك حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار فإذا أخذتها فيسألك عما جرى بيننا فاصدقه وإياك أن تكذبه وعرفه أن ذاك حيلة مني عليه حتى وصل إليك هذا وحدثه كله بالحديث كله على شرحه وليكن أخبارك إياه بذلك بعد امتناع شديد وإخلاف منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه وبعد أن تخرج من داره كل ما يعطيك إياه تجعله في بيتك فلما كان الغد حضر القاسم فحين رآه ابتدأ يسارني وجرت القصة على ما وضعني عليه فخرجت فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني فقال يا أبا محمد ما هذا الجفاء لا تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة فاعتذرت إليه باتصال الخدمة علي ما يقنعني إلا أن تزورني اليوم وتتفرج فقلت أنا خادم الوزير فأخذني إلى طيارة وجعل يسألني عن حلي وأخباري وأشكو إليه الخلة والإضاقة والدين والبنات وجفاء الخليفة وإمساك يده ويتوجع ويقول يا هذا مالي لك ولن نضيف عليك ما يتسع على أن نجاوزك نعمة حصلت لي لو عرفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك فشكرته وبلغنا داره فصعد ولم ينظر في شيء وقال هذا يوم احتاج أن اختص فيه بالسرور بأبي محمد فلا يقطعني أحد عنه وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال ولها بي في دار الخلوة وجعل يحادثني ويبسطني وقدمت الفاكهة فجعل يلقمني بيده وجاء الطعام فكان هذا سبيله فلما جلس للشرب وقع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت وأحضر ثياباً وطيباً ومركوباً فأخذت ذلك كله وما بين يدي صينية فضة فيها مغسل فضة وخردادي بلوروكوز وقدح بلور فأمر بحمله إلى طيارتي وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً له قيمة وافرة طلبته وحمل إلى فرشا نفسياً وقال هذا للبنات فلما تقوض أهل المجلس خلا بي وقال يا أبا محمد أنت عالم بحقوق أبي عليك ومودتي لك فقلت أنا خادم الوزير فقال أريد أن أسألك عن شيء وتحلف لي أنك تصدقني عنه فقلت السمع والطاعة فأحلفني بالله وبالطلاق والعتاق على الصدق ثم قال لي بأي شيء سارك الخليفة اليوم في أمري فصدقته عن كل ما جرى حرفاً بحرف فقال فرجت عني ولكون هذا هكذا مع سلامة نيته أسهل على فشكرته وانصرفت إلى بيتي فلما كان من الغد باكرت المعتضد بالله فقال هات حديثك فسقته عليه فقال احفظ الدنانير ولا يقع لك أني أعمل مثلها بسرعة. أنبأنا أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي عن القاسم علي بن المحسن عن أبيه قال بلغني أن المعتضد بالله كان يوماً جالساً في بيت يبنى له يشاهد الصناع فرأى في جملتهم غلاماً أسود منكر الخلقة شديد المزح يصعد على السلاليم مرقاتين مرقاتين ويحمل ضعف ما يحملونه فأنكر أمره فأحضره وسأله عن سبب ذلك فلجلج فقال لابن حمدون وكان حاضراً أي شيء يقع لك في أمره فقال ومن هذا حتى صرفت فكرك إليه ولعله لا عيال له فهو خالي القلب قال ويحك قد خمنت في أمره تخميناً ما أحسبه باطلاً إما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها دفعة من غير وجهها أو يكون لصاً يتستر بالعلم في الطين فلاحاه ابن حمدون في ذلك فقال علي بالأسود فأحضر، وقال مقارع فضربه نحو مائة مقرعة وقرره وحلف أن لم يصدقه ضرب عنقه وأحضر السيف والنطع فقال الأسود لي الأمان فقال لك الأمان إلا ما يجب عليك فيه من حد فلم يفهم ما قال له وظن أنه قد أمنه فقال أنا كنت أعمل في اتاتين الآجر سنين وكنت منذ شهور هناك جالساً فاجتاز بي رجل في وسطه هميان فتبعه فجاء إلى بعض الأتاتين فجلس وهو لا يعلم مكاني فحل الهميان وأخرج منه ديناراً فتأملته فإذا كله دنانير فثاورته وكتفته وسددت فاه وأخذت الهميان وحملته على كتفي وطرحته في نقرة الأتون وطينته فلما كان بعد ذلك أخرجت عظامه فطرحتها في دجلة والدنانير معي يقوي بها قلبي فأمر المعتضد من أحضر الدنانير من منزله وإذاً على الهميان مكتوب لفلان بن فلان فنودي في البلدة باسمه فجاءت امرأة قال هذا زوجي ولي منه هذا الطفل خرج في وقت كذا ومعه هميان فيه ألف دينار فغاب إلى الآن فسلم الدنانير إليها وأمرها أن تعتد وضرب عنق الأسود وأمر أن تحمل جثته إلى الأتون. قال المحسن وبلغني أن المعتضد بالله قام في الليل لحاجة فرأى بعض الغلمان المردان قد نهض من ظهر غلام أمرد ودب على أربعته حتى اندس بين الغلمان فجاء المعتضد فجعل يضع يده على فؤاد واحد بعد واحد إلى أن وضع يده على فؤاد ذلك الفاعل فإذا به يخفق خفقاناً شديداً فركزه برجله فقعد واستدعى آلات العقوبة فاقر فقتله قال المحسن وبلغنا عن المعتضد بالله أن خادماً من خدمه جاء يوماً فأخبره أنه كان قائماً على شاطئ الدجلة في دار الخليفة فرأى صياداً وقد طرح شبكته فثقلت بشيء فجذبها فأخرجها فإذا فيها جراب وأنه قدره مالاً فأخذه وفتحه فإذا فيه آجر وبين الآجر كف مخضوبة بحناء قال فأحضر الجراب والكف والأجر فهال المعتضد ذلك وقال قل للصياد يعاود طرح الشبكة فوق الموضع وأسفله وما قاربه قال ففعل فخرج جراب آخر فيه رجل قال فطلبوا فلم يخرج شيء آخر فاغتم المعتضد فقال معي في البلد من يقتل إنساناً ويقطع أعضاؤه ويفرقه ولا أعرف به ما هذا ملك قال وأقام يومه كله ما طعم طعاماً فلما كان من الغد أحضر ثقة له وأعطاه الجراب فارغاً وقال له طف به على كل من يعمل الجرب ببغداد فإن عرفه منهم رجل فسله على من باعه فإذا دلك عليه فسله المشتري من اشتراه منه على خبره أحدا قال فغاب الرجل وجاءه بعد ثلاثة أيام فزعم أنه لم يزل في الدباغين وأصحاب الجرب إلى أن عرف صانعه وسأل عنه فذكر أنه باعه على عطار بسوق يحيى وأنه مضى إلى العطار وعرضه عليه فقال ويحك كيف وقع هذا الجراب في يدك فقلت أو تعرفه فقال نعم اشترى منى فلان الهاشمي منذ ثلاثة أيام عشرة جرب لا أدري لأي شيء أرادها وهذا منها فقلت له ومن فلان الهاشمي فقال رجل من ولد على بن ريطه من ولد المهدي يقال له فلان عظيم إلا أنه شر الناس وأظلمهم وأفسدهم لحرم المسلمين وأشدهم تشوقاً إلى مكايدهم وليس في الدنيا من ينهي خبره إلى المعتضد خوفاً من شره ولفرط تمكنه من الدولة والمال ولم يزل يحدثني وأنا أسمع أحاديث له قبيحة إلى أن قال فحسبك أنه كان يعشق منذ سنين فلانة المغنية جارية فلانة المغنية وكانت كالدينار المنقوش وكالقمر الطالع في غاية حسن الغناء فساوم مولاتها فيها فلم تقاربه فلما كان منذ أيام بلغه أن سيدتها تريد بيعها على مشتر قد حضر بذل فيها ألوف دنانير فوجه إليها لا أقل من أن تنفذيها إلى لتودعني فأنقذتها إليه بعد أن أنفذ إليها حذرها لثلاثة أيام فلما انقضت الأيام الثلاثة غصبها عليها وغيبها عنها فما يعرف لها خبر وادعى أنها هربت من داره وقالت الجيران أنه قتلها وقال قوم لا بل هي عنده وقد أقامت سيدتها عليها المأتم وجاءت وصاحت على بابه وسودت وجهها فلم ينفعها شيء فلما سمع المعتضد سجد شكراً لله تعالى على انكشاف الأمر له وبعث في الحال من كبس على الهاشمي وأحضر المغنية وأخرج اليد والرجل إلى الهاشمي فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف فأمر المعتضد بدفع ثمن الجارية إلى مولاتها من بيت المال وصرفها ثم حبس الهاشمي فيقال أنه قتله ويقال مات في الحبس. قال عبد الله محمد بن أحمد بن حمدون قال كنت قد حلفت وعاهدت الله أن لا أعقد مالا من القمار وأنه لا يقع في يدي منه شيء إلا صرفته في ثمن شمع يحترق أو نبيذ يشرب أو جذر مغنيه فجلست يوماً ألاعب المعتضد فقمرته بسبعين ألف درهم فنهض المعتضد يصلي قبل العصر ركعتان من قبل أن يأمر لي بها فجلست أفكر وأندم على ما حلفت عليه وقلت كم اشترى من هذه السبعين ألف شمعاً وشراباً وكم أجذر وما كانت هذه العجلة في اليمين ولو لم أكن حلفت كنت الآن قد اشتريت بها ضيعة وكانت اليمين بالطلاق والعتاق وصدقة الملك فلما سلم من السجود قال لي في أي شيء تفكرت فقلت خير فقال بحياتي أصدقني فصدقته فقال وعندك أني أريد أن أعطيك سبعين ألفاً من القمار فقلت أفتصغر قال نعم قد صعرت قم ولا تفكر في هذا قال ودخل في صلاة الفرض فلحقني الغم أعظم من الأول وندمت على فوت المال وجعلت ألوم نفسي لم صدقته فلما فرغ من صلاته قال لي يا أبا عبد الله بحياتي أصدقني عن هذا الفكر الثاني فصدقته فقال أما القمار فقد قلت أني صغرت ولكني أهب لك سبعين ألفاً من مالي ولا يكون على إثم في دفعها إليك وعليك إثم في أخذها وتخرج من يمينك فتشتري بها ضيعة حلالاً فقبلت يده وأخذت المال فاعتقدت به ضيعة والله أعلم .


الذين اعتمدوا على عفو الله فضيعوا امره ونهيه وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ اعْتَمَدُوا عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ ، وَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، وَنَسُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانِدِ . قَالَ مَعْرُوفٌ : رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْكَ فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، لَا تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا . وَقِيلَ لِلْحَسَنِ : نَرَاكَ طَوِيلَ الْبُكَاءِ ، فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ وَلَا يُبَالِي . وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ : لِأَنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي ، وَكَذَبَ ، لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ . وَسَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَطُوفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : يَا فُلَانُ : مَا أَصَابَكَ ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَقِيعِ فَقَالَ : أُفٍّ لَكَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي ، قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا إِلَى آلِ فُلَانٍ ، فَغَلَّ نَمِرَةً فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلَهَا مِنْ نَارٍ . [ ص: 29 ] وَفِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ، قَالُوا : خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ ، وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ : مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ ؟ قَالَ : مَا ضَحِكَ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا ، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ ؟ فَيَقُولُونَ : رُوحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ ، فَيُشُيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى[ ص: 30 ] السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، فَقَالَ : فَتُعَادُ رُوحُهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ ، فَيُجْلِسَانِهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينَيَ الْإِسْلَامُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ : فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، قَالَ : وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ ، حَسَنُ الثِّيَابِ ، طَيِّبُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ لَهُ : مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي ، قَالَ : وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، سُودُ الْوُجُوهِ ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ ، قَالَ : فَتَغْرَقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا ، كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، حَتَّى يَجْعَلُونَهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ . فَيَقُولُونَ : رُوحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا ، فَيُسْتَفْتَحُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [ الْأَعْرَافِ : 40 ] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى ، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ، ثُمَّ قَرَأَ : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 31 ] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ عَبْدِي ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ، [ ص: 31 ] وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ . وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَيْضًا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ ، فِي يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ ، لَوْ ضَرَبَ بِهَا جَبَلًا كَانَ تُرَابًا ، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا كَانَ ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ، قَالَ الْبَرَاءُ : ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ وَيُمَدُّ لَهُ مِنْ فِرَاشِ النَّارِ . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْهُ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ ، فَقَالَ : عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَاسْتَقْبَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : أَيْ إِخْوَانِي ، لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ : خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَتَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ ، فَأَبْصَرَ الْعَدُوَّ ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ ، وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ ، أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، وَإِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ ، قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَبُو ذَرٍّ : وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةٍ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ قَعَدَ عَلَى سَاقَيْهِ ، فَجَعَلَ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : يُضْغَطُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ ضَغْطَةً تَزُولُ مِنْهَا حَمَائِلُهُ وَيُمْلَأُ عَلَى الْكَافِرِ نَارًا ، وَالْحَمَائِلُ عُرُوقُ الْأُنْثَيَيْنِ . [ ص: 32 ] وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ تُوُفِّيَ ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ ، وَسُوِّيَ عَلَيْهِ ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَّحْنَا طَوِيلًا ، ثُمَّ كَبَّرَ ، فَكَبَّرْنَا ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ سَبَّحْتَ ، ثُمَّ كَبَّرْتَ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ : قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ ، قَالَتْ : يَا وَيْلَهَا ، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا ؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا ، تَغْلِي مِنْهَا الرُّءُوسُ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ ، يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ . وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ ؟ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : كَيْفَ نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ : مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ ، أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمُصَوِّرِينَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْأَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُقَالُ : هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، ثُمَّ يُذْبَحَ ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ قَالَ : مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ [ ص: 33 ] صَلَاةً مَادَامَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ . وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا فَسُلِبَهَا ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ طِينَةَ الْخَبَالِ ، قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ مَرْفُوعًا مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مَرَّةً لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ : فَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ مَاتَ مُدْمِنًا لِلْخَمْرِ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ ، قِيلَ : وَمَا نَهْرُ الْغُوطَةِ ؟ قَالَ نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ ، أَوْ آخِذٌ بِشِمَالِهِ . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ : فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ، وَضَرَبَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ - مَثَلًا ، كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ، وَعَلَى حَافَّتَيْهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمُ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ الْمُجَرْدَلُ ، ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْحَمَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَاءٍ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ [ ص: 34 ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنْ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَرِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ ، هُوَ عَالِمٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَفِي لَفْظٍ فَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ : كَمَا أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءُ فَشَرُّ النَّاسِ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، فَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُمُ الْعُلَمَاءُ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصِّدِّيقُونَ ، وَالْمُخْلِصُونَ ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ ، فَلْيَسْتَحِلَّهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَأُعْطِيهَا هَذَا ، وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ هَذَا فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، قَالُوا : وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ ، قَالَ : فَإِنَّهَا قَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَوْ حُرِّقْتَ ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا ، فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُحِلُّ سَخَطَ اللَّهِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَا ، فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَامَى عَنْهَا ، وَيُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْمَعَاصِي ، وَيَتَعَلَّقَ بِحُسْنِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ . قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : احْذَرْهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِهِ ، فَإِنَّهُ قَطَعَ الْيَدَ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، وَجَلَدَ الْحَدَّ فِي مِثْلِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنَ الْخَمْرِ ، وَقَدْ دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ، وَاشْتَعَلَتِ الشَّمْلَةُ نَارًا عَلَى مَنْ غَلَّهَا وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا . [ ص: 35 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ يَرْفَعُهُ قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ ، وَدَخَلَ رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ ، قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا ، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ ، فَقَالَ لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ ، قَالُوا قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ ، فَدَخَلَ النَّارَ ، وَقَالُوا لِلْآخَرِ : قَرِّبْ ، فَقَالَ : مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُيَتَكَلَّمُ بِهَا الْعَبْدُ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَرُبَّمَااتَّكَلَ بَعْضُ الْمُغْتَرِّينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَاحْذَرْهُ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُيَسْتَدْرِجُكَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 33 - 35 ] وَقَدْ رَدَّ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ : فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا [ سُورَةُ الْفَجْرِ : 15 - 17 ] أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ نَعَّمْتُهُ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ وَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ ، بَلْ أَبْتَلِي هَذَا بِالنِّعَمِ ، وَأُكْرِمُ هَذَا بِالِابْتِلَاءِ . وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ [ ص: 36 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : رُبَّ مُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، وَرُبَّ مَغْرُورٍ بِسَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، وَرُبَّ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ .



الاغترار بالدنيا الاغترار بالدنيا وَأَعْظَمُ الْخَلْقِ غُرُورًا مَنِ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَعَاجَلَهَا ، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَرَضِيَ بِهَا مِنَ الْآخِرَةِ ، حَتَّى يَقُولَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : الدُّنْيَا نَقْدٌ ، وَالْآخِرَةُ نَسِيئَةٌ ، وَالنَّقْدُ أَحْسَنُ مِنَ النَّسِيئَةِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : ذَرَّةٌ مَنْقُودَةٌ ، وَلَا دُرَّةٌ مَوْعُودَةٌ . وَيَقُولُ آخَرُ مِنْهُمْ : لَذَّاتُ الدُّنْيَا مُتَيَقَّنَةٌ ، وَلَذَّاتُ الْآخِرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، وَلَا أَدَعُ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ ، وَالْبَهَائِمُ الْعُجْمُ أَعْقَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا خَافَتْ مَضَرَّةَ شَيْءٍ لَمْ تُقْدِمْ عَلَيْهِ وَلَوْ ضُرِبَتْ ، وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُ أَحَدُهُمْ عَلَى مَا فِيهِ عَطَبُهُ ، وَهُوَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ . فَهَذَا الضَّرْبُ إِنْ آمَنَ أَحَدُهُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ وَالْجَزَاءِ ، فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً ، لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عِلْمٍ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَبْعَدُ لَهُ . وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ : النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ . جَوَابُهُ أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ فَالنَّقْدُ خَيْرٌ ، وَإِنْ تَفَاوَتَا وَكَانَتِ النَّسِيئَةُ أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ فَهِيَ خَيْرٌ ، فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْآخِرَةِ ؟كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ؟فَإِيثَارُ هَذَا النَّقْدِ عَلَى هَذِهِ النَّسِيئَةِ ، مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ وَأَقْبَحِ الْجَهْلِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نِسْبَةَ الدُّنْيَا بِمَجْمُوعِهَا إِلَى الْآخِرَةِ ، فَمَا مِقْدَارُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ ، فَأَيُّمَا أَوْلَى بِالْعَاقِلِ ؟ إِيثَارُ الْعَاجِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِالْيَسِيرَةِ ، وَحِرْمَانُ الْخَيْرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ ، أَمْ تَرْكُ شَيْءٍ حَقِيرٍ صَغِيرٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ قُرْبٍ ، لِيَأْخُذَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ لَهُ ، وَلَا نِهَايَةَ لِعَدَدِهِ ، وَلَا غَايَةَ لِأَمَدِهِ ؟وَأَمَّا قَوْلُ الْآخَرِ : لَا أَتْرُكُ مُتَيَقَّنًا لِمَشْكُوكٍ فِيهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ ، أَوْ تَكُونَ عَلَى [ ص: 37 ] يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى الْيَقِينِ فَمَا تَرَكْتَ إِلَّا ذَرَّةً عَاجِلَةً مُنْقَطِعَةً فَانِيَةً عَنْ قُرْبٍ ، لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا انْقِطَاعَ لَهُ . وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَكٍّ فَرَاجِعْ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ، وَتَجَرَّدْ وَقُمْ لِلَّهِ نَاظِرًا أَوْ مُنَاظِرًا ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَنَّ خَالِقَ هَذَا الْعَالَمِ وَرَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ وَيَتَنَزَّهُ عَنْ خِلَافِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ شَتَمَهُ وَكَذَّبَهُ ، وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ ، إِذْ مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ ، أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْحَقُّ عَاجِزًا أَوْ جَاهِلًا ، لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَتَكَلَّمُ ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى ، وَلَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ ، وَلَا يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَا يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَا يُرْسِلُ رُسُلَهُ إِلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ وَنَوَاحِيهَا ، وَلَا يَعْتَنِي بِأَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ ، بَلْ يَتْرُكُهُمْ سُدًى وَيُخَلِّيهِمْ هَمَلًا ، وَهَذَا يَقْدَحُ فِي مُلْكِ آحَادِ مُلُوكِ الْبَشَرِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ إِلَيْهِ ؟وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ حَالَهُ مِنْ مَبْدَأِ كَوْنِهِ نُطْفَةً إِلَى حِينِ كَمَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَنْ عُنِيَ بِهِ هَذِهِ الْعِنَايَةَ ، وَنَقَلَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَصَرَّفَهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ ، لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ وَيَتْرُكَهُ سُدًى ، لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ وَلَا يُعَرِّفُهُ بِحُقُوقِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُثِيبُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ ، وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَكَانَ كُلُّ مَا يُبْصِرُهُ وَمَا لَا يُبْصِرُهُ دَلِيلًا لَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ إِيمَانِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [ سُورَةُ الْحَاقَّةِ : 38 - 40 ] وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [ سُورَةُ الذَّارِيَاتِ : 21 ] وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دَلِيلُ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ . فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمُضَيِّعَ مَغْرُورٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : تَقْدِيرِ تَصْدِيقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَتَقْدِيرِ تَكْذِيبِهِ وَشَكِّهِ . كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْيَقِينُ بِالْمَعَادِ ، وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْعَمَلِ ؟فَإِنْ قُلْتَ : كَيْفَ يَجْتَمِعُ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَيَتَخَلَّفُ الْعَمَلُ ؟ وَهَلْ فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ غَدًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ بَعْضِ الْمُلُوكِ [ ص: 38 ] لِيُعَاقِبَهُ أَشَدَّ عُقُوبَةٍ ، أَوْ يُكْرِمَهُ أَتَمَّ كَرَامَةٍ ، وَيَبِيتُ سَاهِيًا غَافِلًا لَا يَتَذَكَّرُ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ ، وَلَا يَسْتَعِدُّ لَهُ ، وَلَا يَأْخُذُ لَهُ أُهْبَتَهُ . قِيلَ : هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ سُؤَالٌ صَحِيحٌ وَارِدٌ عَلَى أَكْثَرِ هَذَا الْخَلْقِ ، فَاجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ :أَحَدُهَا : ضَعْفُ الْعِلْمِ ، وَنُقْصَانُ الْيَقِينِ ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَبْطَلِهَا . وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى عِيَانًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ ، لِيَزْدَادَ طُمَأْنِينَةً ، وَيَصِيرَ الْمَعْلُومُ غَيْبًا شَهَادَةً . وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ عَدَمُ اسْتِحْضَارِهِ ، أَوْ غَيْبَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَقَاضِي الطَّبْعِ ، وَغَلَبَاتُ الْهَوَى ، وَاسْتِيلَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَتَسْوِيلُ النَّفْسِ ، وَغُرُورُ الشَّيْطَانِ ، وَاسْتِبْطَاءُ الْوَعْدِ ، وَطُولُ الْأَمَلِ ، وَرَقْدَةُ الْغَفْلَةِ ، وَحُبُّ الْعَاجِلَةِ ، وَرُخَصُ التَّأْوِيلِ وَإِلْفُ الْعَوَائِدِ ، فَهُنَاكَ لَا يُمْسِكُ الْإِيمَانَ إِلَّا الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ، وَبِهَذَا السَّبَبِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْقَلْبِ . وَجِمَاعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ وَالصَّبْرِ ، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ ، وَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ ، فَقَالَ تَعَالَى : مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ السَّجْدَةِ : 24 ]


الفرق بين حسن الظن والغترار بالدنيا الفرق بين حسن الظن والغرور وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ ، وَأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَحَثَّ عَلَيْهِ ، وَسَاقَ إِلَيْهِ ، فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ دَعَا إِلَى الْبِطَالَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ غُرُورٌ ، وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ ، فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ هَادِيًا لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ ، زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ ، وَمَنْ كَانَتْ بِطَالَتُهُ رَجَاءً ، وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا ، فَهُوَ الْمَغْرُورُ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مَغْلِهَا مَا يَنْفَعُهُ فَأَهْمَلَهَا وَلَمْ يَبْذُرْهَا [ ص: 39 ] وَلَمْ يَحْرُثْهَا ، وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَغْلِهَا مَا يَأْتِي مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ . وَكَذَلِكَ لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحِرْصٍ تَامٍّ عَلَيْهِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 218 ] فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ رَجَاءَهُمْ إِتْيَانَهُمْ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ ؟وَقَالَ الْمُغْتَرُّونَ : إِنَّ الْمُفَرِّطِينَ الْمُضَيِّعِينَ لِحُقُوقِ اللَّهِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَوَامِرِهِ ، الْبَاغِينَ عَلَى عِبَادِهِ ، الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَحَارِمِهِ ، أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ . وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الرَّجَاءَ وَحُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ بِهَا ثُمَّ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ ، وَيَرْجُوهُ أَنْ لَا يَكِلَهُ إِلَيْهَا ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُوصِلَةً إِلَى مَا يَنْفَعُهُ ، وَيَصْرِفَ مَا يُعَارِضُهَا وَيُبْطِلَ أَثَرَهَا .


الرجاء والاماني وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ :أَحَدُهَا : مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ . الثَّانِي : خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ . الثَّالِثُ : سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ . وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ . [ ص: 40 ] وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّالرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 57 - 61 ] وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ : أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَيَزْنُونَ ، وَيَسْرِقُونَ ، فَقَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ الْخَوْفِ ، وَوَصَفَ الْأَشْقِيَاءَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ الْأَمْنِ . خَوْفُ الصَّحَابَةِ مِنَ اللَّهِمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ ، وَنَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ ، بَلِ التَّفْرِيطِ وَالْأَمْنِ ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ . وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَمْسِكُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، وَكَانَ يَبْكِي كَثِيرًا ، وَيَقُولُ : ابْكُوا ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا . وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَأَتَى بِطَائِرٍ فَقَلَبَهُ ثُمَّ قَالَ : مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ ، وَلَا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ ، إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ ، فَلَمَّا احْتَضَرَ ، قَالَ لِعَائِشَةَ : يَا بُنَيَّةُ ، إِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ وَهَذِهِ الْحِلَابَ وَهَذَا الْعَبْدَ ، فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ . وَقَالَ قَتَادَةُ : بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : لَيْتَنِي خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ . وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ إِلَى أَنْ بَلَغَ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [ سُورَةُ الطُّورِ : 77 ] فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ . [ ص: 41 ] وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ : وَيْحَكَ ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ عَسَاهُ أَنْ يَرْحَمَنِي ، ثُمَّ قَالَ : وَيْلُ أُمِّي ، إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي ( ثَلَاثًا ) ، ثُمَّ قُضِيَ . وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ . وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ ، وَفَعَلَ ، فَقَالَ : وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ . وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ يَبْكِي حَتَّى تُبَلَّ لِحْيَتُهُ ، وَقَالَ : لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي ، لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ . وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ : طُولِ الْأَمَلِ ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ، قَالَ : فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدَبِّرَةً ، وَالْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَنُونُ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ . وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ ، قَدْ عَلِمْتَ ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ ؟ وَكَانَ يَقُولُ : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى شَهْوَةٍ ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْفَلُ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ . وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، فَقَالَ : مَا عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا وَحُمُرٌ نَنْقُلُ عَلَيْهَا ، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا ، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ فِيهَا . وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 21 ] جَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ . [ ص: 42 ] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ : وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي ، وَأَكَلُوا لَحْمِي وَحَسُوا مَرَقِي . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ : مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ . وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ : مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ ، فَيَقُولُ : لَا ، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا . فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : لَيْسَ مُرَادُهُ لَا أُبْرِئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفَاقِ ، بَلِ الْمُرَادُ لَا أَفْتَحُ عَلَى نَفْسِي هَذَا الْبَابَ ، فَكُلُّ مَنْ سَأَلَنِي هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُزَكِّيهِ . قُلْتُ : وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ : سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ . وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عُكَاشَةَ وَحْدَهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِمَّنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ دَعَا لَقَامَ آخَرُ وَآخَرُ وَانْفَتَحَ الْبَابُ ، وَرُبَّمَا قَامَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، فَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .



ضرر الذنوب في القلب كضرر السموم في الابدان فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ دَوَاءِ الدَّاءِ الَّذِي إِنِ اسْتَمَرَّ أَفْسَدَ دُنْيَا الْعَبْدِ وَآخِرَتَهُ . فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ، أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ تَضُرُّ ، وَلَا بُدَّ أَنَّ ضَرَرَهَا فِي الْقَلْبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الضَّرَرِ ، وَهَلْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا سَبَبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي ، فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ ، دَارِ اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَصَائِبِ ؟وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ ، وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَةٍ وَأَشْنَعَهَا ، وَبَاطِنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأَشْنَعَ ، وَبُدِّلَ بِالْقُرْبِ بُعْدًا ، وَبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً ، وَبِالْجَمَالِ قُبْحًا ، وَبِالْجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى ، وَبِالْإِيمَانِ كُفْرًا ، وَبِمُوَالَاةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ [ ص: 43 ] أَعْظَمَ عَدَاوَةٍ وَمُشَاقَّةٍ ، وَبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ زَجَلَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْفُحْشِ ، وَبِلِبَاسِ الْإِيمَانِ لِبَاسَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، فَهَانَ عَلَى اللَّهِ غَايَةَ الْهَوَانِ ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ غَايَةَ السُّقُوطِ ، وَحَلَّعَلَيْهِ غَضَبُ الرَّبِّ تَعَالَى فَأَهْوَاهُ ، وَمَقَتَهُ أَكْبَرَ الْمَقْتِ فَأَرْدَاهُ ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فَاسِقٍ وَمُجْرِمٍ ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالسِّيَادَةِ ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ وَارْتِكَابِ نَهْيِكَ . وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ حَتَّى عَلَا الْمَاءُ فَوْقَ رَأْسِ الْجِبَالِ ؟ وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ الْعَقِيمَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ حَتَّى أَلْقَتْهُمْ مَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ ، وَدَمَّرَتْ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ ، حَتَّى صَارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ حَتَّى قَطَعَتْ قُلُوبَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ ؟وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِمْ ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَرَهَا عَلَيْهِمْ ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ غَيْرِهِمْ ، وَلِإِخْوَانِهِمْ أَمْثَالُهَا ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ؟وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحَابَ الْعَذَابِ كَالظُّلَلِ ، فَلَمَّا صَارَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا تَلَظَّى ؟وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ نَقَلَتْ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ ، فَالْأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ ، وَالْأَرْوَاحُ لِلْحَرْقِ ؟وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ ؟وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ ، وَدَمَّرَهَا تَدْمِيرًا ؟وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ صَاحِبِ يس بِالصَّيْحَةِ حَتَّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ ؟وَمَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ ، وَسَبُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ؟وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ ، مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ [ ص: 44 ] الْمُلُوكِ ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 167 ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عُمَرَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا ، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ ، مَا أَهْوَنُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ : أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّمَ - يَقُولُ : إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ ؟ قَالَ : بَلَى ، قُلْتُ : كَيْفَ يُصْنَعُ بِأُولَئِكَ ؟ قَالَ : يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ . وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا ، وَمَا لَمْ يُزَكِّ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا ، وَمَا لَمْ يُهِنْ خِيَارَهَا أَشْرَارُهَا ، فَإِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتُهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَالْعَذَابِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ ، كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمِنَ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تُنْزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ ، قَالُوا وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ . [ ص: 45 ] وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، وَيَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَبِي يَغْتَرُّونَ ؟ وَعَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ ؟ فَبِي حَلَفْتُ ، لَأَبْعَثَنَّ أُولَئِكَ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ عَلَيٌّ : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ ، مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ ، وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى ، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، مِنْهُمْ خَرَجَتِ الْفِتْنَةُ وَفِيهِمْ تَعُودُ . وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَلَاكِهَا . وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ : إِذَا أَظْهَرَ النَّاسُ الْعِلْمَ ، وَضَيَّعُوا الْعَمَلَ ، وَتَحَابُّوا بِالْأَلْسُنِ ، وَتَبَاغَضُوا بِالْقُلُوبِ ، وَتَقَاطَعُوا بِالْأَرْحَامِ ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : كُنْتُ عَاشِرَ عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : مَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أَعْلَنُوا بِهَا إِلَّا ابْتُلُوا بِالطَّوَاعِينِ وَالْأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا ابْتُلُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَا خَفَرَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَعْمَلْ أَئِمَّتُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، كَانَ إِذَا عَمِلَ الْعَامِلُ فِيهِمْ بِالْخَطِيئَةِ جَاءَهُ النَّاهِي تَعْذِيرًا ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَالَسَهُ وَوَاكَلَهُ وَشَارَبَهُ ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ عَلَى خَطِيئَةٍ بِالْأَمْسِ ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ وَالَّذِي نَفْسُ [ ص: 46 ] مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَمْرٍو الصَّنْعَانِيِّ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ : إِنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ ، قَالَ : يَا رَبِّ ، هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ ، فَمَا بَالُالْأَخْيَارِ ؟ قَالَ : لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي ، وَكَانُوا يُؤَاكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ إِلَى قَرْيَةٍ ، أَنْ دَمِّرَاهَا بِمَنْ فِيهَا ، فَوَجَدَا رَجُلًا قَائِمًا يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ ، فَقَالَا : يَا رَبِّ ، إِنَّ فِيهَا عَبْدَكَ فُلَانًا يُصَلِّي ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : دَمِّرَاهَا وَدَمِّرَاهُ مَعَهُمْ ، فَإِنَّهُ مَا تَمَعَّرَ وَجْهُهُ فِيَّ قَطُّ. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : قَالَ : حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مِسْعَرٍ : أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، إِنَّ فِيهَا فُلَانًا الْعَابِدَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَنْ بِهِ فَابْدَأْ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ : لَمَّا أَصَابَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي : قَالَ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ، وَأَلْزَمْتُ عَارَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، قَالَ يَا رَبِّ ، كَيْفَ وَأَنْتَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا ، أَنَا أَعْمَلُ الْخَطِيئَةَ وَتُلْزِمُ عَارَهَا غَيْرِي ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ، إِنَّكَ لَمَّا عَمِلْتَ الْخَطِيئَةَ لَمْ يُعَجِّلُوا عَلَيْكَ بِالْإِنْكَارِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ ، هُوَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ لَهَا الرَّجُلُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنِ الزَّلْزَلَةِ ، فَقَالَتْ : إِذَا اسْتَبَاحُوا الزِّنَا ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ ، وَضَرَبُوا بِالْمَعَازِفِ ، غَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَمَائِهِ ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ تَزَلْزَلِي بِهِمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَنَزَعُوا ، وَإِلَّا هَدَمَهَا عَلَيْهِمْ ، قَالَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَعَذَابًا لَهُمْ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، مَوْعِظَةً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَكَالًا وَعَذَابًا وَسُخْطًا عَلَى الْكَافِرِينَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنِّي بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدِيثًا مُرْسَلًا : إِنَّ الْأَرْضَ تَزَلْزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ : اسْكُنِي ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكِ بَعْدُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكُمْ لَيَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ ، ثُمَّ تَزَلْزَلَتْ بِالنَّاسِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا كَانَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ أَحْدَثْتُمُوهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْفِيهَا أَبَدًا . وَفِي مَنَاقِبِ عُمَرَ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ الْأَرْضَ تَزَلْزَلَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ، فَضَرَبَ يَدَهُ [ ص: 47 ] عَلَيْهَا ، وَقَالَ : مَا لَكِ ؟ مَا لَكِ ؟ أَمَا إِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الْقِيَامَةُ حَدَّثَتْ أَخْبَارَهَا ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ فِيهَا ذِرَاعٌ وَلَا شِبْرٌ إِلَّا وَهُوَ يَنْطِقُ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ ، قَالَتْ : زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا هَذَا ؟ وَمَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ ، لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا . وَقَالَ كَعْبٌ : إِنَّمَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ إِذَا عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي فَتُرْعِدُ فَرَقًا مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْأَمْصَارِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاتِبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْعِبَادَ ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْأَمْصَارِ أَنْ يُخْرِجُوا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [ سُورَةُ الْأَعْلَى : 14 - 15 ] وَقُولُوا كَمَا قَالَ آدَمُ : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 23 ] وَقُولُوا كَمَا قَالَ نُوحٌ : وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ هُودٍ : 47 ] وَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 87 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَتَبِعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً لَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْنَا وَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ . وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَخَذُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ بَلَاءً ، فَلَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ . [ ص: 48 ] وَقَالَ الْحَسَنُ : إِنَّ الْفِتْنَةَ وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ . وَنَظَرَ بَعْضُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى مَا يَصْنَعُ بِهِمْ بُخْتَنَصَّرُ ، فَقَالَ : بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِينَا سَلَّطْتَ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَعْرِفُكَ وَلَا يَرْحَمُنَا . وَقَالَ بُخْتَنَصَّرُ لِدَانْيَالَ : مَا الَّذِي سَلَّطَنِي عَلَى قَوْمِكَ ؟ قَالَ : عِظَمُ خَطِيئَتِكَ وَظُلْمُ قَوْمِي أَنْفُسَهُمْ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِالْعِبَادِ نِقْمَةً أَمَاتَ الْأَطْفَالَ ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ النِّسَاءِ ، فَتَنْزِلُ النِّقْمَةُ ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَرْحُومٌ . وَذَكَرَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : قَرَأْتُ فِي الْحِكْمَةِ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدَيَّ ، فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً ، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً ، فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ ، وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أَعْطِفُهُمْ عَلَيْكُمْ . وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا جَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى حُلَمَائِهِمْ ، وَفَيَّأَهُمْ عِنْدَ سُمَحَائِهِمْ ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا جَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى سُفَهَائِهِمْ ، وَفَيَّأَهُمْ عِنْدَ بُخَلَائِهِمْ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ ، فَمَا عَلَامَةُ غَضَبِكَ مِنْ رِضَاكَ ؟ قَالَ : إِذَا اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ فَهُوَ مِنْ عَلَامَةِ رِضَائِي عَنْكُمْ ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَهُوَ مِنْ عَلَامَةِ سُخْطِي عَلَيْكُمْ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ : إِذَا عَصَانِي مَنْ يَعْرِفُنِي سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُنِي . وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِرَفْعِهِ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ أُمَرَاءَ كَذَبَةً ، وَوُزَرَاءَ فَجَرَةً ، وَأَعْوَانًا خَوَنَةً ، وَعُرَفَاءَ ظَلَمَةً ، وَقُرَّاءَ فَسَقَةً ، سِيمَاهُمْ سِيمَاءُ الرُّهْبَانِ ، وَقُلُوبُهُمْ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيَفِ ، أَهْوَاؤُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ فِتْنَةً غَبْرَاءَ مُظْلِمَةً فَيَتَهَالَكُونَ فِيهَا ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيُنْقَضَنَّ الْإِسْلَامُ عُرْوَةً عُرْوَةً ، حَتَّى لَا يُقَالَ : اللَّهُ اللَّهُ ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَوْ لِيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَشْرَارَكُمْ ، فَيَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ ، وَلَا يُوَقِّرُ كَبِيرَكُمْ . وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا طَفَّفَ قَوْمٌ كَيْلًا ، وَلَا بَخَسُوا مِيزَانًا ، إِلَّا مَنَعَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَطْرَ ، وَمَا ظَهَرَ [ ص: 49 ] فِي قَوْمٍ الزِّنَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ ، وَمَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُنُونَ ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الْقَتْلُ - يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الْخَسْفَ ، وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدٍ بِهِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ أَنْ قَدْ حَفَزَهُ شَيْءٌ ، فَمَا تَكَلَّمَحَتَّى تَوَضَّأَ ، وَخَرَجَ ، فَلَصِقْتُ بِالْحُجْرَةِ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ : فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكُمْ : مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُمْ . وَقَالَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ : إِنَّ مِنْ غَفْلَتِكَ عَنْ نَفْسِكَ ، وَإِعْرَاضِكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ تَرَى مَا يُسْخِطُ اللَّهَ فَتَتَجَاوَزَهُ ، وَلَا تَأْمُرُ فِيهِ ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ ، خَوْفًا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا . وَقَالَ : مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، مَخَافَةً مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، نُزِعَتْ مِنْهُ الطَّاعَةُ ، وَلَوْ أَمَرَ وَلَدَهُ أَوْ بَعْضَ مَوَالِيهِ لَاسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 105 ] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ - وَفِي لَفْظٍ : إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ - أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُاللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ . وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا خَفِيَتِ الْخَطِيئَةُ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا ، وَإِذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُغَيَّرْ ، ضَرَّتِ الْعَامَّةَ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرِّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ ، قِيلَ وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ عَامِرَةٌ ؟ قَالَ : إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَمُنَافِقُوهَا . وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سَيَظْهَرُ شِرَارُ أُمَّتِي عَلَى خِيَارِهَا ، حَتَّى يَسْتَخْفِيَ الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ كَمَا يَسْتَخْفِي الْمُنَافِقُ فِينَا الْيَوْمَ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ : يَأْتِي زَمَانٌ يَذُوبُ فِيهِ قَلْبُ [ ص: 50 ] الْمُؤْمِنِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، قِيلَ : مِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مِمَّا يَرَى مِنَ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ، وَهُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ، فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلَانُ ، مَا شَأْنُكَ ؟ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : كَانَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَغْشَى مَنْزِلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَيَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ، فَرَأَى بَعْضَ بَنِيهِ يَوْمًا يَغْمِزُ النِّسَاءَ ، فَقَالَ : مَهْلًا يَا بُنَيَّ ، مَهْلًا يَا بُنَيَّ فَسَقَطَ مِنْ سَرِيرِهِ ، فَانْقَطَعَ نُخَاعُهُ ، وَأُسْقِطَتِ امْرَأَتُهُ ، وَقُتِلَ بَنُوهُ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ : أَنْ أَخْبِرْ فُلَانًا الْخَبَرَ : أَنِّي لَا أُخْرِجُ مِنْ صُلْبِكَ صِدِّيقًا أَبَدًا ، مَا كَانَ غَضَبُكَ لِي إِلَّا أَنْ قُلْتَ مَهْلًا يَا بُنَيَّ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا ، كَمَثَلِ الْقَوْمِ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا ، وَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ ، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدَّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُوبِقَاتِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَدَخَلَتِ النَّارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا ، وَلَا سَقَتْهَا ، وَلَا تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ . وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ . وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ بَرِيدُ الْجِمَاعِ ، وَالْغِنَاءُ بَرِيدُ الزِّنَا ، وَالنَّظَرُبَرِيدُ الْعِشْقِ ، وَالْمَرَضُ بَرِيدُ الْمَوْتِ . وَفِي الْحِلْيَةِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا تَأْمَنْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ ، وَلَمَا [ ص: 51 ] يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ ، قِلَّةُ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ - وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ - أَعْظَمُمِنَ الذَّنْبِ ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَفَرَحُكَ بِالذَّنْبِ إِذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَحُزْنُكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَيْحَكَ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ فَابْتَلَاهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ؟ اسْتَغَاثَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يُعِنْهُ ، وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَعَنْ ظُلْمِهِ ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ : سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ : لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : بِقَدْرِ مَا يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ . وَقِيلَ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى ، يَا مُوسَى إِنَّ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ خَلْقِي إِبْلِيسُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْأَمْوَاتِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ : 14 ] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ حُذَيْفَةُ : إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالشَّاةِ الرَّيْدَاءِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَإِنَّكُمْ أَهْلٌ لِهَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : عَنْ وَهْبٍ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : إِنِّي إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ، وَلَيْسَ لِبِرَكَتِي نِهَايَةٌ ، وَإِذَا عُصِيتُ غَضِبْتُ ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ " .



من اثار المعاصي [ ص: 52 ] وَلِلْمَعَاصِي مِنَ الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ ، الْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ . فَمِنْهَا : حِرْمَانُ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ . وَلَمَّا جَلَسَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِوَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي * فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِيوَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ * وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِيوَمِنْهَا : حِرْمَانُ الرِّزْقِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ ، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي . وَمِنْهَا : وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا . وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ :إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِوَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَمِنْهَا : الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ. [ ص: 53 ] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ : كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حَامِدَهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا . ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي مِمَّ هَذَا ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ . وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ : أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً . قَدْ لَا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ فِي الْحَالِوَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ فِي أَمْرِ الذَّنْبِ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى ، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ غُبَارُوَسُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ ؟ وَكَمْ أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ ؟ وَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ ؟ وَمَا أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَّالِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ الذَّنْبَ يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ ، وَكَمَا يَنْقَضُّ الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ عَلَى الْغِشِّ وَالدَّغَلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : اعْبُدُوا اللَّهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى ، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُنْسَى . وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ ، فَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهُ ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ وَقِيلَ لَهُ : لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . هَذَا مَعَ أَنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ عَجِبْتُ مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ ، ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ ، قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ . وَقَالَ ذُو النُّونِ : مَنْ خَانَ اللَّهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ . [ ص: 54 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي ، وَامْرَأَتِي . وَمِنْهَا : تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ تَلَقَّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا ، وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ ؟وَمِنْهَا : ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يَحِسُّ بِهَا كَمَا يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، كَأَعْمَى أُخْرِجَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ ، وَتَصِيرُ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَإِنَّلِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ ، أَمَّا وَهْنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ ، بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُهُ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَأَمَّا وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ - فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، كَيْفَ خَانَتْهُمْ ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، وَقَهَرَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ؟وَمِنْهَا : حِرْمَانُ الطَّاعَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ ، وَيَقْطَعَ طَرِيقَ طَاعَةٍ أُخْرَى ، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ، ثُمَّ رَابِعَةٌ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ مِرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتِ أَطْيَبَ مِنْهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .



طول العمر وقصره وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ الْعُمُرَ . وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . [ ص: 55 ] فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : نُقْصَانُ عُمُرِ الْعَاصِي هُوَ ذَهَابُ بَرَكَةِ عُمُرِهِ وَمَحْقُهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا حَقٌّ ، وَهُوَ بَعْضُ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ تُنْقِصُهُ حَقِيقَةً ، كَمَا تُنْقِصُ الرِّزْقَ ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ ، وَلِلْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ أَسْبَابًا تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ . قَالُوا وَلَا تُمْنَعُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِأَسْبَابٍ كَمَا يُنْقَصُ بِأَسْبَابٍ ، فَالْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ ، وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ يَقْضِي مَا يَشَاءُ بِأَسْبَابٍ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا مُقْتَضِيَةً لَهَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : تَأْثِيرُ الْمَعَاصِي فِي مَحْقِ الْعُمُرِ إِنَّمَا هُوَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ حَيٍّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 21 ] فَالْحَيَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَعُمُرُ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إِلَّا أَوْقَاتَ حَيَاتِهِ بِاللَّهِ ، فَتِلْكَ سَاعَاتُ عُمُرِهِ ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةُ تَزِيدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ عُمُرِهِ ، وَلَا عُمُرَ لَهُ سِوَاهَا . وَبِالْجُمْلَةِ ، فَالْعَبْدُ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ : يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [ سُورَةُ الْفَجْرِ : 24 ] فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ تَطَلُّعٌ إِلَى مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ كُلُّهُ ، وَذَهَبَتْ حَيَاتُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ الْعَوَائِقِ ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغَالِهِ بِأَضْدَادِهَا ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُرِهِ . وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عُمُرَ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ وَلَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِإِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ ، وَالتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ وَذِكْرِهِ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ .



توالد المعاصي وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا ، وَتُولِدُ بَعْضَهَا بَعْضًا ، حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا ، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ [ ص: 56 ] الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا ، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا : اعْمَلْنِي أَيْضًا ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَتَضَاعَفُ الرِّبْحُ ، وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ . وَكَذَلِكَ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ أَيْضًا ، حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً ، وَصِفَاتٍ لَازِمَةً ، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً ، فَلَوْ عَطَّلَ الْمُحْسِنُ الطَّاعَةَ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، وَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ، فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ ، وَتَقَرَّ عَيْنُهُ . وَلَوْ عَطَّلَ الْمُجْرِمُ الْمَعْصِيَةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّاعَةِ ؛ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَضَاقَ صَدْرُهُ ، وَأَعْيَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهُ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ لَيُوَاقِعُ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا ، وَلَا دَاعِيَةٍ إِلَيْهَا ، إِلَّا بِمَا يَجِدُ مِنَ الْأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا . كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْقَوْمِ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ حَيْثُ يَقُولُ :وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ * وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَاوَقَالَ الْآخَرُ : فَكَانَتْ دَوَائِي وَهْيَ دَائِي بِعَيْنِهِ * كَمَا يَتَدَاوَى شَارِبُ الْخَمْرِ بِالْخَمْرِوَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يُعَانِي الطَّاعَةَ وَيَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ تَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا ، وَتُحَرِّضُهُ عَلَيْهَا ، وَتُزْعِجُهُ عَنْ فِرَاشِهِ وَمَجْلِسِهِ إِلَيْهَا . وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا ، حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ ، فَتَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا . فَالْأَوَّلُ قَوِيٌّ جَنَّدَ الطَّاعَةَ بِالْمَدَدِ ، فَكَانُوا مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ ، وَهَذَا قَوِيٌّ جَنَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِالْمَدَدِ فَكَانُوا أَعْوَانًا عَلَيْهِ .



المعصية تضعف ارادة الخير وَمِنْهَا : - وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ - أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ ، فَتُقَوِّي إِرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ ، وَتُضْعِفُ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ ، وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ ، مُصِرٌّ عَلَيْهَا ، عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ



الف المعصية : أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا ، فَتَصِيرُ لَهُ عَادَةً ، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ ، وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ . وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ غَايَةُ التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ ، حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَهَا ، فَيَقُولُ : يَا فُلَانُ ، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ ، وَتُغْلَقُ عَنْهُمْ أَبْوَابُهَا فِي الْغَالِبِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا ، فَهَتَكَ نَفْسَهُ ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ . الْمَعَاصِي مَوَارِيثُوَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَهِيَ مِيرَاثٌ عَنْ أُمِّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . فَاللُّوطِيَّةُ : مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ . وَأَخْذُ الْحَقِّ بِالزَّائِدِ وَدَفْعُهُ بِالنَّاقِصِ ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ . وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ . وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ هُودٍ . فَالْعَاصِي لَابِسٌ ثِيَابَ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَمِ ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ : لَا يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي وَلَا يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي ، فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ .


هوان العاصي على ربه [ ص: 58 ] وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] وَإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ ، فَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ . هَوَانُ الْمَعَاصِي عَلَى الْمُصِرِّينَوَمِنْهَا : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ ، فَإِنَّ الذَّنَبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ .


شوم الذنوب وَمِنْهَا : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ ، فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ ، وَتَقُولُ : هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ ، يَقُولُونَ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ . فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ ، حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ .


المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتُضْعِفُ وَقَارَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَلَا بُدَّ ، شَاءَ أَمْ أَبَى ، وَلَوْ تَمَكَّنَ وَقَارُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَمَا تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِيهِ ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّ ، وَقَالَ : إِنَّمَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْمَعَاصِي حُسْنُ الرَّجَاءِ ، وَطَمَعِي فِي عَفْوِهِ ، لَا ضَعْفُ عَظْمَتِهِ فِي قَلْبِي ، وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَةِ النَّفْسِ ؛ فَإِنَّ عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَ حُرُمَاتِهِ ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَكَيْفَيَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ ، أَوْ يُعَظِّمُهُ وَيُكَبِّرُهُ ، وَيَرْجُو وَقَارَهُ وَيُجِلُّهُ ، مَنْ يَهُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ ، وَأَبَيْنِ الْبَاطِلِ ، وَكَفَى بِالْعَاصِي عُقُوبَةً أَنْ يَضْمَحِلَّ مِنْ قَلْبِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ حَقُّهُ . وَمِنْ بَعْضِ عُقُوبَةِ هَذَا : أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَهَابَتَهُ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَيَهُونُ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِهِ ، كَمَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ ، فَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ يُحِبُّهُ النَّاسُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ يَخَافُهُ الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَحُرُمَاتِهِ يُعَظِّمُهُ النَّاسُ ، وَكَيْفَ يَنْتَهِكُ عَبْدٌ حُرُمَاتِ اللَّهِ ، وَيَطْمَعُ أَنْ لَا يَنْتَهِكَ النَّاسُ حُرُمَاتِهِ أَمْ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ وَلَا يُهَوِّنُهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَخِفُّ بِمَعَاصِي اللَّهِ وَلَا يَسْتَخِفُّ بِهِ الْخَلْقُ ؟[ ص: 70 ] وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِهِ عِنْدَ ذِكْرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ ، وَأَنَّهُ أَرْكَسَ أَرْبَابَهَا بِمَا كَسَبُوا ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَنَّهُ نَسِيَهُمْ كَمَا نَسُوهُ ، وَأَهَانَهُمْ كَمَا أَهَانُوا دِينَهُ ، وَضَيَّعَهُمْ كَمَا ضَيَّعُوا أَمْرَهُ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ سُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] فَإِنَّهُمْ لَمَّا هَانَ عَلَيْهِمُ السُّجُودُ لَهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ أَهَانَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ مُكْرِمٍ بَعْدَ أَنْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ ، وَمَنْ ذَا يُكْرِمْ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ ؟ أَوْ يُهِنْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ ؟



العاصي يفوته ثواب المومنين وَمَنْ فَاتَهُ رُفْقَةُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَحُسْنُ دِفَاعِ اللَّهِ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَفَاتَهُ كُلُّ خَيْرٍ رَتَّبَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَهُوَ نَحْوُ مِائَةِ خَصْلَةٍ ، كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا . فَمِنْهَا : الْأَجْرُ الْعَظِيمُ : وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 146 ] وَمِنْهَا : الدَّفْعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْحَجِّ : 38 ] [ ص: 72 ] وَمِنْهَا : اسْتِغْفَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لَهُمُ : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ غَافِرٍ : 7 ] وَمِنْهَا : مُوَالَاةُ اللَّهِ لَهُمْ ، وَلَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 257 ] وَمِنْهَا : أَمْرُهُ مَلَائِكَتَهُ بِتَثْبِيتِهِمْ : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 12 ] وَمِنْهَا : أَنَّ لَهُمُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ . وَمِنْهَا : الْعِزَّةُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] وَمِنْهَا : مَعِيَّةُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ : وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 19 ] وَمِنْهَا : الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ : 11 ] وَمِنْهَا : إِعْطَاؤُهُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِعْطَاؤُهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ وَمَغْفِرَةُ ذُنُوبِهِمْ . وَمِنْهَا : الْوُدُّ الَّذِي يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ . وَمِنْهَا : أَمَانُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ يَوْمَ يَشْتَدُّ الْخَوْفُ : فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 48 ] وَمِنْهَا : أَنَّهُمُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى صِرَاطِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً . وَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ هُدًى لَهُمْ وَشِفَاءٌ : [ ص: 73 ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 44 ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ جَالِبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ الْإِيمَانُ ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ عَدَمُ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ يَهُونُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْتَكِبَ شَيْئًا يُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ ، فَيُخْرِجُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْتُمْ تَخَافُونَ الذُّنُوبَ ، وَأَنَا أَخَافُ الْكُفْرَ .


المعاصي توجب القطيعة بين العبد والرب وَمِنْ أَعْظَمِ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْقَطِيعَةُ انْقَطَعَتْعَنْهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ ، فَأَيُّ فَلَاحٍ ، وَأَيُّ رَجَاءٍ ، وَأَيُّ عَيْشٍ لِمَنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ ، وَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَا غِنَى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا بَدَلَ لَهُ مِنْهُ ، وَلَا عِوَضَ لَهُ عَنْهُ ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ ، وَوَصَلَ مَا بَيْنَهُ [ ص: 83 ] وَبَيْنَ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ : فَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ وَتَخَلَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ ؟ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا فِي هَذَا الِانْقِطَاعِ وَالِاتِّصَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الْآلَامِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : رَأَيْتُ الْعَبْدَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ ، فَإِنْ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] يَقُولُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ : أَنَا أَكْرَمْتُ أَبَاكُمْ ، وَرَفَعْتُ قَدْرَهُ ، وَفَضَّلْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَرْتُ مَلَائِكَتِي كُلَّهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ ، تَكْرِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا ، فَأَطَاعُونِي ، وَأَبَى عَدُوِّي وَعَدُوُّهُ ، فَعَصَى أَمْرِي ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ، فَتُطِيعُونَهُ فِي مَعْصِيَتِي ، وَتُوَالُونَهُ فِي خِلَافِ مَرْضَاتِي وَهُمْ أَعْدَى عَدُوٍّلَكُمْ ؟ فَوَالَيْتُمْ عَدُوِّي وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِمُعَادَاتِهِ ، وَمَنْ وَالَى أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ، كَانَ هُوَ وَأَعْدَاؤُهُ عِنْدَهُ سَوَاءً ، فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالطَّاعَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِمُعَادَاةِ أَعْدَاءِ الْمُطَاعِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَأَمَّا أَنْ تُوَالِيَ أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ثُمَّ تَدَّعِي أَنَّكَ مُوَالٍ لَهُ ، فَهَذَا مُحَالٌ . هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَدُوُّ الْمَلِكِ عَدُوًّا لَكُمْ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ عَدُوَّكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّاةِ وَبَيْنَ الذِّئْبِ ؟ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يُوَالِيَ عَدُوَّهُ عَدُوَّ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُ سِوَاهُ ، وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى قُبْحِ هَذِهِ الْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ : وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى قُبْحِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَدَاوَتَهُ لِرَبِّهِ وَعَدَاوَتَهُ لَنَا ، كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى مُعَادَاتِهِ ، فَمَا هَذِهِ الْمُوَالَاةُ ؟ وَمَا هَذَا الِاسْتِبْدَالُ ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ نَوْعٌ مِنَ الْعِتَابِ لَطِيفٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنِّي عَادَيْتُ إِبْلِيسَ إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأَبِيكُمْ آدَمَ مَعَ مَلَائِكَتِي فَكَانَتْ مُعَادَاتُهُ لِأَجْلِكُمْ ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْمُعَادَاةِ أَنْ عَقَدْتُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَقْدَ الْمُصَالَحَةِ


المعصية تجعل صاحبها من السفلة [ ص: 86 ] وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ السَّفَلَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُهَيَّئًا لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِلْيَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ قِسْمَيْنِ : عِلْيَةً ، وَسَفَلَةً ، وَجَعَلَ عِلِّيِّينَ مُسْتَقَرَّ الْعِلْيَةِ ، وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ مُسْتَقَرَّ السَّفَلَةِ ، وَجَعَلَ أَهْلَ طَاعَتِهِالْأَعْلَيْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الْأَسْفَلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا جَعَلَ أَهْلَ طَاعَتِهِ أَكْرَمَ خَلْقِهِعَلَيْهِ ، وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ أَهْوَنَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ الْعِزَّةَ لِهَؤُلَاءِ ، وَالذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ لِهَؤُلَاءِ ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِيفَكُلَّمَا عَمِلَ الْعَبْدُ مَعْصِيَةً نَزَلَ إِلَى أَسْفَلَ ، دَرَجَةً ، وَلَا يَزَالُ فِي نُزُولٍ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْأَسْفَلِينَ ، وَكُلَّمَا عَمِلَ طَاعَةً ارْتَفَعَ بِهَا دَرَجَةً ، وَلَا يَزَالُ فِي ارْتِفَاعٍ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْأَعْلَيْنَ . وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ الصُّعُودُ مِنْ وَجْهٍ ، وَالنُّزُولُ مِنْ وَجْهٍ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَلَيْسَ مَنْ صَعِدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَنَزَلَ دَرَجَةً وَاحِدَةً ، كَمَنْ كَانَ بِالْعَكْسِ . وَلَكِنْ يَعْرِضُ هَاهُنَا لِلنُّفُوسِ غَلَطٌ عَظِيمٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَنْزِلُ نُزُولًا بَعِيدًا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَمِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَلَا يَفِي صُعُودُهُ أَلْفَ دَرَجَةٍ بِهَذَا النُّزُولِ الْوَاحِدِ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . فَأَيُّ صُعُودٍ يُوَازِنُ هَذِهِ النَّزْلَةَ ؟ وَالنُّزُولُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى غَفْلَةٍ ، فَهَذَا مَتَى اسْتَيْقَظَ مِنْ غَفْلَتِهِ عَادَ إِلَى دَرَجَتِهِ ، أَوْ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهَا بِحَسْبَ يَقَظَتِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مُبَاحٍ لَا يَنْوِي بِهِ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الطَّاعَةِ ، فَهَذَا مَتَى رَجَعَ إِلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا ، وَقَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعُودُ أَعْلَى هِمَّةً مِمَّا كَانَ ، وَقَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ هِمَّةً ، وَقَدْ تَعُودُ هِمَّتُهُ كَمَا كَانَتْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، إِمَّا صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ ، فَهَذَا يَحْتَاجُ فِي عَوْدِهِ إِلَى دَرَجَتِهِ إِلَى تَوْبَةٍ نَصُوحٍ ، وَإِنَابَةٍ صَادِقَةٍ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى دَرَجَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ [ ص: 87 ] تَمْحُو أَثَرَ الذَّنْبِ ، وَتَجْعَلُ وَجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، أَوْ لَا يَعُودُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِالْعُقُوبَةِ ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الَّتِي فَاتَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا . قَالُوا : وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا بِاشْتِغَالِهِ بِالطَّاعَةِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي عَصَى فِيهِ لِصُعُودٍ آخَرَ وَارْتِقَاءٍ تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ السَّالِفَةُ ، بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الرَّجُلِ كُلَّ يَوْمٍ بِجُمْلَةِ مَالِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ ، وَكُلَّمَا تَضَّاعَفَ الْمَالُ تَضَّاعَفَ الرِّبْحُ ، فَقَدْ رَاحَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْمَعْصِيَةِ ارْتِفَاعٌ وَرِبْحٌ تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ اسْتَأْنَفَ صُعُودًا مِنْ نُزُولٍ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاعِدًا مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ . قَالُوا : وَمَثَلُ ذَلِكَ رَجُلَانِ يَرْتَقِيَانِ فِي سُلَّمَيْنِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا ، وَهُمَا سَوَاءٌ ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَسْفَلَ ، وَلَوْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الصُّعُودَ ، فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ يَعْلُو عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ . وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا مَقْبُولًا فَقَالَ :التَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ دَرَجَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ . قُلْتُ : وَهَذَا بِحَسْبِ قُوَّةِ التَّوْبَةِ وَكَمَالِهَا ، وَمَا أَحْدَثَتْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلْعَبْدِ مِنَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ ، وَالْحَذَرِوَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ ، وَالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورُ ، حَتَّى يَعُودَ التَّائِبُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ، وَيَصِيرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ ، فَهَذَا قَدْ تَكُونُ الْخَطِيئَةُ فِي حَقِّهِ رَحْمَةً ، فَإِنَّهَا نَفَتْ عَنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ، وَخَلَّصَتْهُ مِنْ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ وَإِدْلَالِهِ بِأَعْمَالِهِ ، وَوَضَعَتْ خَدَّ ضَرَاعَتِهِ وَذُلَّهُ وَانْكِسَارَهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ ، وَعَرَّفَتْهُ قَدْرَهُ ، وَأَشْهَدَتْهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى حِفْظِ مَوْلَاهُ لَهُ ، وَإِلَى عَفْوِهِ عَنْهُ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُ ، وَأَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ صَوْلَةَ الطَّاعَةِ ، وَكَسَرَتْ أَنْفَهُ مِنْ أَنْ يَشْمَخَ بِهَا أَوْ يَتَكَبَّرَ بِهَا ، أَوْ يَرَى نَفْسَهُ بِهَا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَوْقَفَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مَوْقِفَ الْخَطَّائِينَ الْمُذْنِبِينَ ، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ، مُسْتَحِيًا خَائِفًا مِنْهُ وَجِلًا ، مُحْتَقِرًا لِطَاعَتِهِ مُسْتَعْظِمًا لِمَعْصِيَتِهِ ، عَرَفَ نَفْسَهُ بِالنَّقْصِ وَالذَّمِّ . وَرَبُّهُ مُتَفَرِّدٌ بِالْكَمَالِ وَالْحَمْدِ وَالْوَفَاءِ كَمَا قِيلَ :اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْحَمْدِ * وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَافَأَيُّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ اسْتَكْثَرَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَرَأَى نَفْسَهُ دُونَهَا وَلَمْ يَرَهَا أَهْلًا ، وَأَيُّ نِقْمَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍوَصَلَتْ إِلَيْهِ رَأَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ، وَرَأَى مَوْلَاهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ، إِذْ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ وَلَا شَطْرِهِ ، وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ مِنْهُ . [ ص: 88 ] فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لَا تَحْمِلُهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ ، فَإِنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ صَغُرَ ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، الْكَبِيرِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، الْجَلِيلِ الَّذِي لَا أَجَلَّ مِنْهُ وَلَا أَجْمَلَ ، الْمُنْعِمِ بِجَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ دَقِيقِهَا وَجُلِّهَا - مِنْ أَقْبَحِ الْأُمُورِ وَأَفْظَعِهَا وَأَشْنَعِهَا ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعُظَمَاءِ وَالْأَجِلَّاءِ وَسَادَاتِ النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِحُهُ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ . وَأَرْذَلُ النَّاسِ وَأَسْقَطُهُمْ مُرُوءَةً مَنْ قَابَلَهُمْ بِالرَّذَائِلِ ، فَكَيْفَ بِعَظِيمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَلِكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَهِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَمَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَإِلَّا لَتَدَكْدَكَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ قَابَلَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ مُقَابَلَتُهُ بِهِ ، وَلَوْلَا حِلْمُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لَزُلْزِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ مَعَاصِي الْعِبَادِ ، قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 41 ] فَتَأَمَّلْ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَهُمَا : " الْحَلِيمُ ، وَالْغَفُورُ " كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا حِلْمُهُ عَنِالْجُنَاةِ وَمَغْفِرَتُهُ لِلْعُصَاةِ لَمَا اسْتَقَرَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كُفْرِ بَعْضِ عِبَادِهِ أَنَّهُ : تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 90 ] وَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَاهُ وَخَالَفَا فِيهِ نَهْيَهُ ، وَلَعَنَ إِبْلِيسَ وَطَرَدَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَهُ ، وَنَحْنُ مَعَاشِرُ الْحَمْقَى كَمَا قِيلَ :نَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَنَرْتَجِي * دَرَجَ الْجِنَانِ لِذِي النَّعِيمِ الْخَالِدِوَلَقَدْ عَلِمْنَا أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ * مَلَكُوتِهِ الْأَعْلَى بِذَنْبٍ وَاحِدِوَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَأَرْفَعَ دَرَجَةً ، وَقَدْ تُضْعِفُ الْخَطِيئَةُ هِمَّتَهُ وَتُوهِنُ عَزْمَهُ ، وَتُمْرِضُ قَلْبَهُ ، فَلَا يَقْوَى دَوَاءُ التَّوْبَةِ عَلَى إِعَادَتِهِ إِلَى الصِّحَّةِ الْأَوْلَى ، فَلَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ يَزُولُ الْمَرَضُ بِحَيْثُ تَعُودُ الصِّحَّةُ كَمَا كَانَتْ وَيَعُودُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ ، فَيَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ . هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى أَمْرٍ يَقْدَحُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ ، مِثْلِ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ وَالنِّفَاقِ ، فَذَاكَ نُزُولٌ لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ صُعُودٌ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِسْلَامِهِ .

. الشرك في الافعال والاقوال والارادات والنيات وَيَتْبَعُ هَذَا الشِّرْكَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْأَفْعَالِ ، وَالْأَقْوَالِ ، وَالْإِرَادَاتِ ، وَالنِّيَّاتِ ، فَالشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ ، وَالطَّوَافِ بِغَيْرِ بَيْتِهِ ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا لِغَيْرِهِ ، وَتَقْبِيلِ الْأَحْجَارِ غَيْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، وَتَقْبِيلِ الْقُبُورِ وَاسْتِلَامِهَا ، وَالسُّجُودِ لَهَا ، وَقَدْ لَعَنَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلِّي لِلَّهِ فِيهَا ، فَكَيْفَ بِمَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ أَوْثَانًا يَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ : إِنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ . وَقَالَ : اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . [ ص: 134 ] وَقَالَ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَهَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ فِي مَسْجِدٍ عَلَى قَبْرٍ ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلْقَبْرِ نَفْسِهِ ؟وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ ، وَقَدْ حَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمَ حِمَايَةٍ ، حَتَّى نَهَى عَنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِ الشَّمْسِ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ . وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ بِأَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ ؛ لِاتِّصَالِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ يَسْجُدُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِمَا لِلشَّمْسِ . وَأَمَّا السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ . وَ " لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 92 ] وَقَوْلِهِ : وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [ سُورَةُ يس : 69 ] وَقَوْلِهِ : وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 210 - 211 ] وَقَوْلِهِ : مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 18 ] .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق