الشعراوي س الزمر من الاية رقم 1. الي الاية 31.
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١ -الزمر
خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي
فَرْق بين تنزيل وإنزال ونزول؛ النزول هو الحدث الذي يأتي بشيء من أعلى إلى أدنى، والإنزال يدل على أن الذي أنزل أعلى من المُنزل إليه، أما التنزيل فيدل على النزول على فترات بحسب الأحوال.
فقوله تعالى: { { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] يعني: أنزلناه جملةً واحدة في أول رسالة محمد، ليباشر القرآنُ مهمته في الوجود، ثم نُزِّل بعد ذلك مُنجَّماً حَسْب الحاجة.
قال تعالى: { { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [الإسراء: 105].
يعني: أنزلناه بالحق بداية، وظلَّ على الحق لم يستطع أحد أنْ يُغيِّره أو يُفسده؛ لأنه حقٌّ.
وهذه المادة نزل أو نزَّل أو أنزل، تدل كلها على عُلُو المنزِّل ودُنُو المنزل إليه، وتدل على أن شرف المنزَّل من شرف مَنْ أنزله، وتدل أيضاً على أن مَنْ أنزل المنهج القويم للمخلوق يريد أنْ يكرمه وأنْ يعلوَ به. إذن: دَلَّ الإنزال على شرف المنزِّل وعلو مكانته، وعلى شرف ما أُنزل وعلى شرف مَن اختاره الله، وجعله أهلاً لأنْ يُوجه إليه هذا الخير.
ومن ذلك قوله تعالى في أمة محمد: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110].
ولما تتبعنا مادة (نزل) في القرآن الكريم وجدناها كلها تدل على العُلو، إلا في عدة مواضع لم يكُن الإنزالُ فيها من العلو، وهو قوله تعالى في سورة الحديد: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] فالحديد لا ينزل من عُلو إنمَا يُستخرج من الأرض، فلماذا قال الله: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [الحديد: 25]؟
قالوا: نعم الحديد من الأرض، لكن مَنْ جعله فيها؟ الخالق سبحانه، إذن: فهو أيضاً إنزال أي: جعل له في الأرض، فلا تنظر إلى جهة الإنزال، إنما إلى مَنْ أنزل.
ثم إن إنزال الحديد تتميمٌ لرسالات الرسل لهداية الخلق إلى منهج السماء، لأن الله تعالى قال بعدها: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } [الحديد: 25] فمن الحديد سنصنع السيوف والرماح وعُدَّة الحرب.
كذلك في: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ .. } [الزمر: 6] وقوله: { { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف: 26].
وفي مسألة الإنزال هذه نلحظ لفتة جميلة في أسلوب القرآن الكريم، في استخدام حرف الجر المتعلق بالفعل أنزل، وكيف أنه يأتي مناسباً للمعنى المراد من الإنزال، ففي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول له رَبُّه عز وجل: { { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ } [آل عمران: 3] قال (عليك) مع أن الكتاب نزل للناس جميعاً { { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ص: 29].
لكن رُوعي هنا المخاطب المستقبل المبلَّغ عن الله، لكن لما يتكلم على النعم التي ينتفع الناس بها مباشرة يقول (عليكم) ثم نلحظ دقة التعبير في استخدام حرف الجر، قال: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ } [الزمر: 6] وفي اللباس قال: { { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ } [الأعراف: 26] قالوا: لأن اللباس الساتر للبدن يكون على الجسم يلفه ويستره، فناسبه الحرف (على). أما الأنعام فهي شيء مستقل منفصل عن الإنسان.
الحق سبحانه وتعالى يعطي من علو، ولكن الذي يعطي له هو من صنعته أيضاً، فعلو في خَلْق آدم الخليفة، وعُلو في المنهج الذي يصونه، حتى أن بعضهم قال: إن الإنسان خليفة لله في الأرض، بمعنى أنه مُفَوَّض من الله بالقيام بما أراده الله، بدليل لو كان هناك محتاج ضَنَّ الناس عليه يقول الله لهم: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245].
فسمَّى هذا الإعطاء للفقير قرضاً، مع أنه سبحانه المعطي الواهب لهذا المال، لكن لما كان الحق سبحانه هو الخالق، وهو الذي استدعى الإنسان للوجود وتكفَّل له برزقه، فاعتبر المال ماله وحقه، فإنْ بذله فهو قرض لله.
ومثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: حين تعطي ولدك مصروفه فيجعله في حصالة مثلاً، ومرَّتْ بك ظروف احتجتَ لما في حصالة الولد فقلت له: سلّفني ما في حصالتك لحين ميسرة. مع أنك صاحب هذا المال.
فكأن الحق سبحانه يحترم ملكية العبد، مع أنها من فضله، فإنْ طلبها منه طلبها على سبيل القرض.
و (الكتاب) أي: القرآن. فمرة يقول: الكتاب. ومرة: القرآن، دليل على أنه سيأخذ الوَصْفين معاً، فهو كتاب بمعنى مسجل ومكتوب يعني لا يُنكر، وهو قرآن بمعنى مقروء، فهو مُسجَّل في السطور ومحفوظ في الصدور، وهذه ستكون حجة علينا.
وقد علمنا الدقة التي اتبعها الصحابة في جمع القرآن من صدور الحفظة، فكانوا لا يكتبون آية إلا إذا قرأها اثنان من الحفظة واتفقا على صحتها، كذلك يشهد على صحتها اثنان بعد الكتابة، فدَلَّت هذه الدقة على حيثيات قوله تعالى: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وكلمة (الكتاب) هكذا بأل التعريفية تدل على أنه الكتاب الكامل في الكتب، ولا تنصرف هذه الكلمة إلا إلى القرآن الكريم.
وقوله تعالى: { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] دل على أن التنزيل من أعلى لأدنى، لكن لماذا قال { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] ولم يقُل: من الرب؟ لأن هذا الكتاب جاء بمنهج للتربية، والرب هو المتولي للخَلْق وللتربية. قالوا: لأن الربوبية عطاء يشمل الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فالرب خلق الجميع الخَلْق المادي وأمدَّ الجميع، فالكل في عطاء الربوبية سواء.
أما المنهج الذي نزل به الكتاب، فهو منهج إيماني وخُلُقي وتعبُّدي من عطاء الألوهية، لا من عطاء الربوبية، لذلك قال في الكتاب: { مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1].
والله عَلَم على واجب الوجود، أما الأسماء الحسنى فهي أوصاف بلغت العظمة؛ لأنها لله تعالى وغلبتْ عليه، فصارت أسماء قال تعالى: { { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] والجامع لها كلها لفظ الجلالة الله، فحين تقول الله كأنك ناديتَ الله بجميع أسمائه الحسنى؛ لذلك أمرنا أنْ نبدأ العمل بقول باسم الله، والعمل يحتاج إلى قوة وإلى علم وإلى حكمة وإلى عزة .. إلخ.
فلو كنتَ مُقبلاً على عمل يحتاج إلى عشرين صفة مثلاً فهل تقول: باسم القوي، باسم العليم، باسم الحكيم .. لا لأن في وُسْعك أن تجمع كلَّ هذه الصفات في قولك باسم الله؛ لأن لفظ الجلالة هي الكلمة الجامعة لكل صفات الكمال، وتناسب كل ما يحتاجه العمل، وكل ما يتعلق بالفعل، مما تعرفه أنت ومما لا تعرفه.
لذلك قالوا: إياك أنْ تدعَ هذه الكلمة في بداية العمل، حتى لو كنتَ عاصياً فلا تَخْزَ من ربك ولا تخجل أنْ تقولها، ولا تستبعد أنَّ الله يعاونك حتى وأنت عاصيه، لأن ربك الذي تدعوه وتبدأ عملك باسمه رحمن رحيم، وهو الذي أمرك أنْ تقولها.
إذن: قال سبحانه: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] لأن الكتاب نزل بمنهج وقيَم، ولم يقل: من الرب لأن الربَّ وصفٌ خاص بالمادة وبالقالب.
وقوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الزمر: 1] العزيز هو: الغني عن الخَلْق الذي لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، وجاء هذا الوصف بعد { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [الزمر: 1] لمناسبة، فكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني متطوع بهذا المنهج الذي أنزلته عليكم، وأريد به سعادتكم في الدنيا ونعيمكم في الآخرة، أما طاعتكم لمنهجي فلا تزيد في ملكي شيئاً، لأنني الغني عنكم، فأنا العزيز عن خَلْقي.
لذلك في مسألة الشرك بالله قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48].
وقال في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك به معي غيره تركته وشركه" .
يعني: أنا متنازل لهذا الشريك عن العمل كله، لأني عزيز عن خَلْقي، لا مصلحة لي من طاعتهم، إنما المصلحة تعود عليهم هم. إذن: فربُّك خلقك وأنزل عليك ما يصلحك، فإن أطعْتَهُ أثابك، لأن لله تعالى صفات، وهذه الصفات تحتاج إلى متعلقات، فحين تؤدي هذه المتعلقات لله يجازيك عليها.
إذن: قُلْ باسم الله واعلم أنه عزيز عن هذه، وتذكَّر قوله سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيتُها له ما نقص ذلك من مُلكي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ في البحر، ذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقولَ له: كُنْ فيكون" .
فالحق سبحانه هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغلب، وهو سبحانه يخلع من هذه الصفة على مَنْ يؤمن به، فللمؤمن عزة من عزة الله، أما غير المؤمن فيبحث عن عزة بالإثم استكباراً بلا رصيد، ومن ذلك قول المنافقين. { { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ .. } [المنافقون: 8] قال الله لهم: صدقتم في هذه المقولة: ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، لكن مَن الأعز؟ ومن الأذل؟ ثم حكم الحق سبحانه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين: { { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8].
إذن: أنتم الأذل، وأنتم الذين ستخرجون من المدينة لا رسول الله، وقد تم ذلك لرسول الله، وقد كان.
والحق سبحانه مع أنه { ٱلْعَزِيزِ .. } [الزمر: 1] الذي يغلب ولا يُغلب، فهو سبحانه { ٱلْحَكِيمِ } [الزمر: 1] أي: الذي يضع الشيء في موضعه. ومن هذه الحكمة أنه سبحانه لا يطبع المؤمنَ على العزة الدائمة، ولا على الذِّلة الدائمة، كذلك لا يطبعه على الرحمة الدائمة، ولا على الشدة الدائمة، بل ينفعل للأحداث الإيمانية، كما قال سبحانه: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29] وقال: { { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54].
ومع أن هذه طباع في النفس إلا أنها مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها، فإنْ كان الموقف يحتاج إلى رحمة فالمؤمن رحيم، وإنْ كان الموقف يحتاج إلى شدة. فالمؤمن شديد. إذن: هذا مظهر من مظاهر حكمة الخالق سبحانه، فإنْ قلتَ: هذه طباع، نعم طباع لكن مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها.
والحكمة مأخوذة من شيء حسِّيٍّ، مأخوذة من الحَكَمة التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها اللجام، وهو الأداة التي بها نتحكَّم في حركة الفرس، وفي سرعته واتجاه سَيْره، وبها نكبح جماحه إنْ جمح.
========2==========================
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ
٣ -الزمر
خواطر محمد متولي الشعراوي
الحق هو الأمر الثابت الذي لا تأتي أغيار الزمن فتنقضه، وما دام الحق ثابتاً لا يتغير فلا يغرنك عُلُوُّ الباطل إنْ علا يوماً من الأيام؛ لأن عُلُو الباطل من ثبات الحق، فالباطل حين يعلو يعضُّ الناسَ، ويشقى به الخَلْقُ، ويكتوون بناره، وعندها يتطلعون للحق ويتشوَّقون إليه.
فكأن الباطل جندي من جنود الحق، والكفر جندي من جنود الإيمان. فالله تعالى لا يسلم الحق أبداً، ولكن يتركه فترة حتى يعلوَ الباطلُ عليه ليبلوَ غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه.
{ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ } [الزمر: 2] يعني: ما دُمْنا قد أنزلنا إليك الكتاب بالحق فانظر ماذا في الكتاب، فيه منهج افعل كذا ولا تفعل كذا، فيه تكليفٌ للجوارح، ولابُدَّ أنْ يسبق العمل بالتكليف اقتناعُ القلب بالمكلف والإيمان به.
فأنت حين تقف أمام قضية صعبة تعجز عن التفكير فيها، أو أخذ قرار تذهب إلى مَنْ شُهِد له بالحكمة أو العلم والرأي ليفكر لك ويُعينك على أمرك، فمثل هذا الرجل تأتمنه وتسلم له زمام أمرك؛ لأن رأيه يصلحك.
إذن: لا بُدَّ قبل العمل بافعل ولا تفعل أنْ تثقَ وتتيقن بمن كلَّفك، وهذا هو الإيمان الذي ينبغي أنْ يسبق العملَ. لذلك نقول: لا ينفع إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، واقرأ قول الله تعالى: { { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14].
لذلك قال تعالى: { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] فشرْطُ العبادة الإخلاص، والعبادة تعني طاعة العابد لأمر معبوده ونَهيه، وهذا التحديد لمعنى العبادة يُبطل عبادةَ كلِّ ما سِوَى الله تعالى، فالذين عبدوا غير الله من شمس أو قمر أو نجوم أو أشجار أو أحجار عبدوا آلهة - كما يزعمون - بلا منهج وبلا تكاليف.
إذن: فكلمة العبادة هنا خطأ وهي باطلة، فماذا قالت لهم هذه الآلهة؟ بِمَ أمرتْهُمْ وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها؟ وماذا أعدت لمن كفر بها؟ فأول ما يُبطل عبادة غير الله أنها آلهة بلا منهج وبلا تكاليف.
أما الذين قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] فالله سبحانه نهى عن هذه الزُّلْفى، ونهى أنْ يكون بينه وبين عباده واسطة أو وسيلة.
ثم إن الحق سبحانه أراد أنْ ينبه الخَلْقَ إلى بديع صُنْعه، وإلى هذا الكون المكتمل، وهذه الهندسة الدقيقة في كل جزئياته، وأن هذا الكون فيه كل مُقوِّمات الحياة وكل الأنواع الواهبة للخير، فهل ادعاه أحد لنفسه؟
هل قال أحد: إني خلقتُ هذا الكون مع كثرة الملحدين والمنكرين لوجود الله؟ لم يحدث أبداً شيء من هذا. إذن: الدعوة تثبت لمدعيها طالما لم يقم لها معارض، فالله تعالى هو الخالق وحده، وهو المستحق للعبادة وحده، وما دونه ضلال وباطل.
لذلك قال سبحانه: { { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] يعني: ذهبوا إليه ليناقشوه كيف أخذ الخَلْق منهم؟ وكيف ادعاه لنفسه؟
ومعنى { مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] يعني: اجعل الدينَ خالصاً لوجه الله، وامنع الرياء لأن الذي ترائيه لا يملك لك من ثواب العمل شيئاً، فالمرائي الذي يرائي مثلاً في صدقته ينفع المحتاج بالصدقة، وهو لا ينتفع بها؛ لأن الله تركه يأخذ أجره مِمَّن يرائيه، والعبد مثلك لا يملك لك شيئاً.
وفَرْق في المعنى بين مُخْلِص بالكسر، ومُخْلَص بالفتح: المخلَص هو مَنْ يسبق عطاء الله لَه بالإخلاص فيخلص، أما المخلص فيصل بعطاء إخلاصه إلى عطاء الله. قلنا زمان: من الناس مَنْ يَصل بطاعة الله إلى كرامة الله يعني: ألحَّ في الطاعة وداوم طَرْق الباب حتى فُتِح له.
وآخر يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، يعني: ربه يختاره للطاعة ويخطفه من الخلق أو من المعصية إلى الطاعة، مثل كثيرين من المتصوفة، ومثال ذلك القاضي عياضرحمه الله ، فقد كان في بداية أمره قاطعَ طريق، وفي يوم خرج كعادته يقطع الطريق على الناس، فسمعهم يقولون: لا تمروا من هنا فعياض على هذا الطريق، نزلت هذه الكلمات على عياض نزولَ الصاعقة، فكيف يهابه الناس ويخافونه لهذه الدرجة، فأخذ يُؤنِّب نفسه وعزم على التوبة، وقال: ياربّ تُبْ عليَّ حتى يأمنَ هؤلاء. فتاب الله عليه.
فلما استقام سأله الناس الذين يعرفون حقيقته: ما جرى لك يا عياض، يعني: كيف صِرْتَ من الأولياء، بعد أن كنتَ قاطع طريق؟.
قال: والله إني لأعرف سببها، لقد مررتُ يوماً بسوق البطيخ - أظن في بغداد - فوجدت ورقة من المصحف ملقاةً على الأرض يدوسها الناس فأخذتها ونظفتُ ما بها من الأذى، ثم طيَّبتها بدرهم لم يكُنْ معي غيره، ثم وضعتها في شق عال، قال: والذي نفسي بيده لقد سمعتُ بعدها منادياً ينادي: لأطيبنَّ اسمك كما طيبتَ اسمي وكانت هذه الحادثة أول عهد عياض بالولاية.
لذلك ورد أن النبي صلى الله قال: "إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث: أخفى رضاه في طاعته فلا تحقرن طاعةً أبداً، واعلم أن الله غفر لرجل لأنه سقى كلباً يلهث من العطش، وهذا العمل يدل على محبة طاعة الله وإلا فماذا يأخذ الرجل من الكلب؟ أم تراه ينافقه؟ إذن: ليس إلا حب الطاعة.
وأخفى غضبه في معصيته فلا تحقِرنَّ معصية أبداً، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
وأخفى أسراره في خلقه كما أخفى أمر عياض وتاب عليه" .
ثم يقول سبحانه: { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3] بعد أنْ خاطب الحق سبحانه نبيه بقوله: { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] أراد سبحانه أنْ ينبه الأذهان إلى أهمية الإخلاص لله تعالى، فجاء بهذا الحرف الدال على الاستفتاح (ألا).
وهذا الأسلوب يتبعه العربي في كلامه، لأن المتكلم أمير نفسه يتكلم في أيِّ وقت شاء، وهو يعي ما يقول وله خيار فيما يقول أمَّا السامع فليس له خيار فربما كان مشغولاً عن المتكلم فيفوته بعض الكلام؛ لذلك على المتكلم أنْ ينبهه من غفلته، وأنْ يُهيِّئه لأنْ يسمع، لا سيما إنْ كان الكلام مهماً أو نفيساً لا ينبغي أن يفوتك منه شيء؛ لذلك قال سبحانه: { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3].
ونلحظ أيضاً هنا أسلوبَ القصر في تقديم الجار والمجرور { لِلَّهِ } [الزمر: 3] على المبتدأ الدين الخالص، فلم يَقُلْ سبحانه الدين الخالص لله، لأنها تحتمل أن نقول: ولغيره، أمَّا قوله { لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3] أي: له وحده، فقصرت إخلاص الدين على الله تعالى دون غيره، تقول: هذا المال لزيد. ولزيد هذا المال.
لكن، لماذا لله الدين الخالص؟ قالوا: لأن الدينَ شرعُ الله هو الذي شرعه، وهو سبحانه الذي يُجازي عليه، فاحذر إذن أنْ يكون عملك بمنهج الله مقصوداً به غير الله؛ لأن غير الله لم يشرع لك، ولا يستطيع أنْ يعطيك أجر العمل. فكأن الله تعالى يريد أنْ يُحَصِّن حركة الإنسان في كل شيء، بحيث تعود عليه كل حركاته بالخير؛ لذلك دَلَّهُ على الطريق الذي يؤدي به إلى الخير، وهو طريق إخلاص العبادة لله وحده.
ثم يذكر سبحانه مقابل إخلاص العبادة لله، فيقول: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الزمر: 3] قائلين ومبررين موقفهم حين تبيَّن لهم كذبهم في عبادة ما دون الله، وحين تقول لهم إن هذه الآلهة لا ترى ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وحين تضيق عليهم الخناق يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3].
والذي يُقرِّبك إلى الله لا بُدَّ أنْ يكون مشهوداً بالتبعية لله تعالى، وهذه الآلهة التي تعبدونها ليست مشهودة بالتبعية لله تعالى، بل هي من صُنْعكم أنتم ومن نَحْت أيديكم، وإذا أطاحت به الريح أقمتموه في مكانه، وإذا كسر ذراعه أصلحتموه.
إذن: فعبادتكم لها باطلة، وأنتم كاذبون في هذه العبادة { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر: 3] كلمة الحكم لله كلمة ترهب، لأن حكمَ الله هو الحق الذي لا يُحابي أحداً، فالمؤمن حين يسمع هذه الكلمة يطمئن، لأنه سيأتي يوم لا يكون الحكم فيه إلا لله كما قال سبحانه: (إن الحكم إلا لله) أي: لله وحده لا لغيره، لذلك أنت لا تقول لخصمك: أنا حكَّمت الله بيني وبينك إلا وأنت واثق أن الحق معك.
لذلك يغضب بعض الناس لو قلت لأحدهم: الله وكيل بيني وبينك. ولو كان على الحق لا يخاف شيئاً لقال وأنا رضيتُ هذه الوكالة وقبلتُ بها، لكن كونه يغضب حين نُحكِّم الله فيما بينكما، فهذا دليل على أنه يخاف هذا الحكم لأنه على باطل.
ثم إن حكم الله سيأتي في وقت لا حكمَ فيه إلا لله { { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } [الأنعام: 57].
ثم يقول سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } [الزمر: 3] نعم لا يهديه الله، لأن الكاذب الكفَّار ليس أهلاً لعطاء الهداية؛ لأن الله تعالى هدى الكل هدايةَ الدلالة والإرشاد، فمَنْ آمن منهم زاده هداية المعونة والتوفيق، قال سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17].
وسبق أن ضربنا مثلاً لذلك قلنا: إن رجل المرور الذي يقف على مفترق الطرق ينظم المرور ويرشد الناس، فحين تسأله أين الطريق إلى الأسكندرية مثلاً يقول لك من هنا، فتتوجه إلى حيث أرشدك، وقبل أنْ تفارقه قلت له: جزاك الله خيراً، لقد كدتُ أضلّ الطريق، وأذهب من هنا ومن هنا، لولا أن الله يسَّر لي أنْ أقابلك، فقال لك: والله أنت رجل طيب تستحق كل خير، لكن في هذا الطريق منطقة خطر سأركب معك حتى أساعدك في المرور منها.
إذن: لما أطعتَهُ في الإرشاد الأول زادكَ بالمعونة والمساعدة، كذلك الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يستجيب لهداية الدلالة والإرشاد فيؤمن يزيده هداية أخرى، هي هداية التوفيق والمعونة.
والكاذب الكفَّار هو الشديد الكفر الذي لا ينتفع بإرشاد، ولا هداية.
===========3==========
خواطر محمد متولي الشعراوي
الحق هو الأمر الثابت الذي لا تأتي أغيار الزمن فتنقضه، وما دام الحق ثابتاً لا يتغير فلا يغرنك عُلُوُّ الباطل إنْ علا يوماً من الأيام؛ لأن عُلُو الباطل من ثبات الحق، فالباطل حين يعلو يعضُّ الناسَ، ويشقى به الخَلْقُ، ويكتوون بناره، وعندها يتطلعون للحق ويتشوَّقون إليه.
فكأن الباطل جندي من جنود الحق، والكفر جندي من جنود الإيمان. فالله تعالى لا يسلم الحق أبداً، ولكن يتركه فترة حتى يعلوَ الباطلُ عليه ليبلوَ غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه.
{ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ } [الزمر: 2] يعني: ما دُمْنا قد أنزلنا إليك الكتاب بالحق فانظر ماذا في الكتاب، فيه منهج افعل كذا ولا تفعل كذا، فيه تكليفٌ للجوارح، ولابُدَّ أنْ يسبق العمل بالتكليف اقتناعُ القلب بالمكلف والإيمان به.
فأنت حين تقف أمام قضية صعبة تعجز عن التفكير فيها، أو أخذ قرار تذهب إلى مَنْ شُهِد له بالحكمة أو العلم والرأي ليفكر لك ويُعينك على أمرك، فمثل هذا الرجل تأتمنه وتسلم له زمام أمرك؛ لأن رأيه يصلحك.
إذن: لا بُدَّ قبل العمل بافعل ولا تفعل أنْ تثقَ وتتيقن بمن كلَّفك، وهذا هو الإيمان الذي ينبغي أنْ يسبق العملَ. لذلك نقول: لا ينفع إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، واقرأ قول الله تعالى: { { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14].
لذلك قال تعالى: { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] فشرْطُ العبادة الإخلاص، والعبادة تعني طاعة العابد لأمر معبوده ونَهيه، وهذا التحديد لمعنى العبادة يُبطل عبادةَ كلِّ ما سِوَى الله تعالى، فالذين عبدوا غير الله من شمس أو قمر أو نجوم أو أشجار أو أحجار عبدوا آلهة - كما يزعمون - بلا منهج وبلا تكاليف.
إذن: فكلمة العبادة هنا خطأ وهي باطلة، فماذا قالت لهم هذه الآلهة؟ بِمَ أمرتْهُمْ وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها؟ وماذا أعدت لمن كفر بها؟ فأول ما يُبطل عبادة غير الله أنها آلهة بلا منهج وبلا تكاليف.
================4.
خواطر محمد متولي الشعراوي
قوله سبحانه: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [الزمر: 5] أي: لم يخلقهما عبثاً إنما خلقهما بالحق، والحق كما قلنا: هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، كما قال سبحانه في آية أخرى: { { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } [الدخان: 38].
بل خلقهما الله بالحق وبالحكمة وبحساب دقيق وهندسة بديعة لتؤدي مهمتها التي أرادها الخالق سبحانه، بدليل أنها لا تزال منذ خلقها الله تؤدي مهمتها دون عَطَب فيها، أو خلاف بين أجزائها.
وقوله تعالى: { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [الزمر: 5] تقول: كوَّرْتُ العمامة يعني لَففتها على رأسي، فصارت مثل الكرة مكورة، وفي لَفِّ العمامة تغطي اللفَّةُ اللفَّةَ التي تحتها. كذلك الليل والنهار، جزء من الليل يغطي جزءاً من النهار فيزيد الليل، أو جزء من النهار يغطي جزءاً من الليل فيزيد النهار.
هذا هو واقع الليل والنهار، فهل الليل والنهار يقتسمان الأربعة والعشرين ساعةً بالتساوي، كل منهما اثنتا عشرة ساعة؟
لا، بل يزيد الليل فينقص من النهار في فصل الشتاء، ويزيد النهار فينقص من الليل في فصل الصيف.
هذا يدل على أن الكون ليس محكوماً بقوانين ميكانيكية جامدة كما يدَّعُون، بل محكوم بقدرة الخالق سبحانه وحكمته.
ولو تأملتَ طول الليل في الشتاء وقِصَره في الصيف لَوجدتَ أن أمور الكون لا تسير هكذا حسبما اتفق، إنما لكل حركة فيها حكمة، فحين يقصر النهار في الشتاء يحتاج العامل لأنْ يُجهد نفسه لينهي مهمته في هذا الوقت القصير، فيتعب نفسه ويُجهدها.
ومن الحكمة أن نعطيه فترة أطول يستريح فيها من تعب النهار، ولا بدّ أنْ تتناسب فترة الراحة مع فترة الجهد المبذول.
أما في فصل الصيف فيطول النهار ويوزع العمل على هذا الوقت الطويل، فيؤدي الإنسان مهمته بأقلّ مجهود، بالإضافة إلى راحته في وقت القيلولة، فلا يحتاج إلى ليل طويل للراحة، لذلك يأتي ليلُ الصيف قصيراً. إذن: فالخالق سبحانه يُكوِّر الليل على النهار، ويُكوِّر النهارَ على الليل لحكمة في حركة الحياة.
وفي موضع آخر عبَّر القرآن عن هذا المعنى بقوله تعالى: { { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [فاطر: 13] يعني: يُدخِل كلاً منهما في الآخر؛ لذلك لا يتساوى الليلُ والنهار إلا في فترة قصيرة من العام تقتضيها الحركةُ بينهما.
ونفهم أيضاً من قوله تعالى (يُكوِّر) أن الأرض كروية، لأن الليل والنهارَ ظاهرةٌ تحدث على سطح الأرض، وقد أثبتَ العلم هذه الحقيقةَ بالصور التي التقطوها للأرض من الفضاء، وصدق الله: { { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
وقوله: { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } [الزمر: 5].
الأجل: هو يوم القيامة، فالحق سبحانه يُطمئن الناسَ أن الشمسَ والقمر آيتان لله تعالى باقيتان خالدتان بقاءَ الدنيا وخلودها، إلى أنْ ينتهيا معها، ومع ذلك فكل منهما قائم بذاته بقدرة خالقه، لا يحتاج إلى وقود، ولا يحتاج إلى صيانة، ولا قطعة عيار .. إلخ.
{ أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } [الزمر: 5] قلنا: (ألا) استفتاحية تفيد تنبيه السامع لما بعدها، فكأن الله تعالى يقول لقد خلقتُ لكم هذا الكونَ المحكمَ البديع، ووفرتُ لكم مقومات حياتكم، وأنا الغني عنكم، العزيز الذي يغلب ولا يُغلب، ولا يحتاج لأحد. لكن ما مناسبة (الغفار) هنا؟
قالوا: لأن الله تفضّل على خَلْقه بهذه الآيات الشمس والقمر والليل والنهار، وأعطاهم مُقوِّمات حياتهم، ومع ذلك لا ينظر إلى ذنوبهم وتقصيرهم في حقه تعالى لأنه الغفار، ويعفو عن كثير.
وهذا المعنى أوضحه الحق سبحانه في موضع آخر، حين نتأمله نجد فيه عجباً، إنه قول الله تعالى { { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] ورد هذا اللفظ في موضعين بصدر واحد وعَجُز مختلف، فواحدة { { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34].
والأخرى: { { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18].
أولاً: يُلفت أنظارنا هنا في مسألة عَدِّ نعمة الله استخدام (إن) الدالة على الشك، لأن عَدَّ نعمة الله مسألة لن تكون ولن تحدث؛ لأن الإقبال على عَدِّ الشيء ناتج عن إمكانية ذلك والقدرة عليه، أما نعمة الله فمع تقدم علم الإحصاء ودخوله في شتى المجالات، إلا أن نعمة الله فوق مظنة العَدِّ لكثرتها، كما أننا لا نفكر أبداً في عَدِّ رمال الصحراء مثلاً.
فمعنى { { وَإِن تَعُدُّواْ } [إبراهيم: 34] يعني: على فرض أنكم ستُقبِلون على عَدِّها { { لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34].
ثانياً: كلمة (نعمة) جاءت هكذا بصيغة المفرد، والعَدُّ لا يكون إلا للجمع الذي له أجزاء تعدّ: واحد، اثنان، ثلاث، أربع .. إلخ فكيف تُعَد النعمة وهي واحدة؟ قالوا: نعم هي في ظاهرها نعمة واحدة لكن مطمور فيها حين تتأملها نِعَم كثيرة، فالتفاحة مثلاً ترى في الظاهر أنها نعمة واحدة، لكن حين تُحللها تجد فيها لوناً وشكلاً وطَعْماً ومذاقاً وعناصر مكونة ومواد غذائية متعددة، كلها نِعْم من الله.
ثالثاً: حين تتأمل عَجُزَ الآيتين - وهو مرادنا من الكلام - تجد في الآية الأولى { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34] أي: جاحد لنعمة الله، منكر لها، غافل عنها، مُقصِّر في شُكرها. فهي إذن تتحدث عن حال المنعم من المنعَم عليه، وكيف أنه قابل النعمة بالكفران، ولو جازاه المنعم بما يستحق لحرمه النعمة، لكن يأتي عَجُزُ الآية الأخرى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18] يعني: يغفر لكم جحودكم للنعمة ونكرانكم للجميل؛ ثم بعد المغفرة الرحمة.
===========================
6.
خواطر محمد متولي الشعراوي
تبين الآيةُ طبيعة خَلْق الإنسان الذي أراده خليفة في الأرض، فقال: { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [الزمر: 6] هو آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الزمر: 6] أي: حواء، ومنهما كانت الذرية وجاء التناسل.
وما دام الله تعالى خلق هذا المخلوق ليكون خليفةً يعمر الأرض فلا بُدَّ أنْ يكونوا من جنس واحد ليتم لهم الإلْف والانسجام وتجمعهم حركة الحياة.
وإلا لو كان هذا الخليفة من أجناس متعددة، فمجموعة مثلاً من الإنس، وأخرى من الجن، وأخرى من الحيوان ما استقامتْ بهم الحياة، ولا تساندتْ حركتهم. إذن: الجنس الواحد تتوفر فيه المودة والإلْف والمحبة والانسجام بين عناصره لأن لكل جنس قانونَهُ ونظامه والتقاءاته ومعاشرته، ولو أن الإنسان خُلِق من أجناس مختلفة لتعذَّر عليه الائتلاف واتحاد الحركة والأنس في المعيشة.
وأيضاً، فإن الخالق سبحانه خلق الإنسان من جنس واحد ليثبت التساوي في الأصل، فلا يكون لأحد مَزيّة على أحد، لأنه خلق من جنس أعلى، وإنما ليكون التفاضل والمزية بمقدار توافق هذا المخلوق مع منهج الله، وهذه القضية أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى" .
والحق سبحانه يقول: { { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13] يعني: لا فضلَ لأحدكم على الآخر إلا بحسنه فيما يستقبل عن ربه. وإنما تأتي الألوان والأشكال مختلفة لتناسب بيئة المعيشة، فالبيئات الحارة مثلاً يميل أهلها إلى السواد، والبيئات الباردة إلى البياض، كذلك الحال في اختلاف الألسنة بحسب البيئات أيضاً. أما الأصل فنحن جميعاً نُرَدُّ إلى آدم، وآدم خُلِق من تراب، وذريته خُلِقَتْ من بعده بالتكاثر.
حتى في الرسالة قال الله تعالى: { { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] يعني: ليس غريباً عنكم، وليس من جنس غير جنسكم، فلم يكُنْ من الملائكة مثلاً مع أنها أعلى درجة إلا أن الرسول الملَك لا تتحقق فيه القدوة والأسوة المرادة من الرسول، كذلك لم يأْتِ فارسياً ولا رومياً يختلف لسانه عن لسانكم، إنما جاء عربياً من أوسطكم، ومن أعظم قبائلكم.
================7============
إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧ -الزمر
بعد أنْ حَنَّنَ الحق سبحانه الخَلْق بذكر الربوبية التي خلقت وربتْ، وأمرتْ، وبذكر الألوهية التي ضمنتْ صلاح البلاد والعباد، بيَّن سبحانه أنه الغني عن خَلْقه، فقال تعالى: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر: 7] يعني: غني عن إيمانكم ولا تنفعه طاعاتكم.
فهو سبحانه جعل التكاليف لصلاح حالكم لا لمنفعة تعود عليه سبحانه، فأنتم خَلْقه وصَنْعته، والصانع يريد أنْ يرى صنعته على أحسن حال، يرى العبد المؤمن في المجتمع المؤمن الذي تتساند حركته لا تتعاند، وتتفق توجهاته لا تتضارب، الخالق سبحانه لا يحب أنْ يرى خَلْقه يتصارعون، واحد يبني والآخر يهدم.
إذن: هذا هو الهدف من الخَلْق ومن المنهج؛ لأن الله تعالى بصفات الكمال فيه خلق الخَلْق، ولم يُزدْه الخَلْق صفة واحدة لم تكُن له من قبل، إذن: لا حاجة له إليكم. إنما أنتم صنعته ويريد لكم الخير؛ لذلك لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أنْ يحملْنها وأشفقْنَ منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جَهُولاً.
وإباء السماوات والأرض والجبال ليس امتناعاً على الله، ولا اعتراضاً إنما تسليم؛ لأن الله خيَّرهم فاختاروا أنْ يكونوا مُسيَّرين.
لكن الإنسان قَبِلها فحكم الله عليه بأنه كان ظلوماً وجهولاً، لكن كيف يُوصَف مَنْ قَبِلَ كلام الله بأنه ظلوم وجهول؟
قالوا: لأنه ظلم نفسه وجهل ما يكون منه، لأنه مخلوق مختار له أنْ يؤمن، وله أنْ يكفر، وله أنْ يطيعَ وأنْ يعصي، ولما عُرِضَتْ عليه الأمانة قبلها؛ لأن الله هو الذي خيَّره. ووثق بنفسه وقدرته على الأداء، لكنه جهل ما يطرأ عليه وما يجدّ من أحداث وأهواء، فظلم نفسه عند التحمُّل وجهل بوقت الأداء، وأسرع في وقت الرضا والقبول، وكان ينبغي عليه أنْ يحسب حسابَ الإنجاز والأداء.
وفَرْق بين التحمُّل والأداء في مسألة الأمانة، لأن الأمانة موكولة إلى ذمة المؤتمن، ولو كتب بها (إيصالاً) أو كان عليها شهود ما سُمِّيتْ أمانة، والإنسان عادة يُقبل على تحمُّل الأمانة وفي نيته أداؤها، كما لو أنك أعطيتَ صديقاً لك مبلغاً من المال يحفظه لك، لحين عودتك من السفر مثلاً، فتراه يرحب ويقبل لكن تعِنّ له ظروف، وتمتد يده إلى هذا المال، وربما جئت فلم تجده، وعندها إما ينكر أو يماطل.
==========8======
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ
٨ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي
(الضُّر) هو ما يُخرِج الإنسان عن سلامته في نفسه، أو فيمَنْ يعول أو فيما يملك، والإنسان حينما يصيبه الضُّر يُفقِده ركيزة التعالي، و (العنطزة)؛ لأنه لا يسلِّم نفسه بلا ثمن، ويعرف أنه لا أحدَ يرفع عنه ضُرَّه إلا الله، فيتوجه إليه وحده ولا يغشَّ نفسه.
وقد أوضحنا هذه المسألة بحلاق الصحة زمان، وكان يقوم بدور الطبيب في البلدة، فلما انتشر التعليم وتخرَّج بعض الأطباء من كلية الطب خاف صاحبنا على (أكل عيشه)، وخاف أنْ يسحب هؤلاء البساطَ من تحت قدميه؛ فراح الحلاق يُهوِّن من شأن الطبيب الجديد الذي عُيِّن في البلدة يقول: إنه لا يعرف شيئاً وو، يريد أنْ يصرف الناسَ عنه، لكن لما مرض ولده ماذا فعل؟ هل غَشّ نفسه؟
لا بل (لفَّ) الولد بالليل، وأخذه إلى الطبيب الذي طالما تكلم في حقه وقلَّل من قدراته أمام الناس، أما الآن والمريض ولده فإنه يعود إلى الحق ولا يخدع نفسه.
كذلك الإنسان إذا مسَّه الضر وعزَّتْ عليه أسبابه لا يلجأ إلا إلى ربه بعد أنْ انهدَّتْ فيه حيثية { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7] وبعد أنْ سقط عنه قناع التعالي والغطرسة.
وقلنا: إن هذه القضية يستطيع كلٌّ منّا أن يلمسها في نفسه فأنت مثلاً تعطي ولدك مصروفه كل يوم عندما يذهب إلى المدرسة، وفي يوم ما نسيت تعطيه المصروف، ماذا يفعل؟ يتعرَّض هو لك ويحاول أنْ يمر من أمامك وكأنه يُذكِّرك بما نسيته، فيسلم عليك أو يقول: أنا رايح المدرسة يا بابا، ولو أنك تعطيه مصروفه كل شهر ما فعل ذلك طوال التسعة وعشرين يوماً، نعم { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
فالإنسان ساعةَ يصيبه الضر، وهو يعلم أن الضر لا يرفعه إلا الله، ولا يصرفه إلا خالق السماوات والأرض، فإنه لا يتوجه إلا إليه، لمن تعتقد مواجيده أنه قادر على رَفْع هذا الضر، حتى لو كان كافراً بالله، غيرَ مؤمن به فإنه إذا مسَّه الضر يقول: يا رب، والعجيب أن الله يقبله ويغيثه ولا يرده { { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } [النمل: 62].
ويكفيك أنك لم تجد إلا أنا ولا تقول إلا يا رب. لذلك قال سبحانه: { { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67] يعني: إنْ دعوتَ غير الله لا يستطيع الوصول، ويضل الطريق إليك، ولا يجيبك إلا الله.
ومعنى { مُنِيباً إِلَيْهِ } [الزمر: 8] راجعاً إليه { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } [الزمر: 8] يعني: أعطاه { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } [الزمر: 8] أثار العلماءُ ضجة ومعركة حول الاسم الموصول (ما) هنا وقالوا: لماذا لم يقل نسي مَنْ لأن مَنْ تدل على العاقل، أما (مَا) فلغير العاقل، على معنى أن (مَا) هنا تعود إلى الله تعالى.
ونقول: القرآن يسير على غير هذا، واقرأ: { { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [الكافرون: 1-3] فـ (ما) أطلقت على الله تعالى. إذن: (ما) هنا في معناها الصحيح، وإنْ غابت عنكم حكمة ذلك، نعم مَنْ للعاقل، وما لغير العاقل، لكن الحق سبحانه لم يصف نفسه بالعقل؛ لأن العقل صفتك أنت، فجاء بالصفة التي لا تمنع عدم وجود العقل، ولو قال مَنْ لأدخل الحق سبحانه فيمن يعقل، وهو سبحانه لم يصِف نفسه بأنه عاقل، إنما عالم وعلاَّم.
ويمكن تفادي هذا الإشكال لو وجَّهنا (ما) توجيهاً آخر، فيكون المعنى: نسي الضر الذي كان سبباً في رجوعه إلى الله، لا نسي مَنْ أنقذه، وكشف عنه ضُرَّه، وتكون مَا بمعناها اللغوي لغير العاقل.
وقوله: { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } [الزمر: 8] أنداد: جمع ند، وهو الشبيه أو المثيل والنظير، وهؤلاء الكفار رجعوا لله تعالى أنداداً مع علمهم أنه الإله الحق سبحانه، ومع علمهم أنه ضَلَّ مَنْ تدعون إلا إياه، ليرضوا في أنفسهم مواجيد الفطرة الإيمانية، فالواحد منهم يريد أنْ يكون له إله يعبده، لكن إله على هواه، إله ليس له تكاليف، وليس في عبادته مشقة على النفس، إله بلا منهج: لا افعل، ولا لا تفعل.
وقوله { لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } [الزمر: 8] البعض قرأها بالفتح (ليَضل) ونقول: هو لم يفعل ذلك إلا لأنه ضَالٌّ في نفسه، فالأقرب بالضم (ليُضل) أي: يُضل غيره.
ثم يقول سبحانه (قُل) أي: رُدَّ يا محمد. وقُلْ: { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } [الزمر: 8] لكن ما وجه التمتُّع بالكفر؟ قلنا: أن يعبدَ إلهاً بلا منهج وبلا تكاليف، إلهاً لا يمنعه من شُرْب الخمر ولا يقيد شهوات نفسه إلهاً لا يأمره بالصدق ولا بالأمانة .. إلخ بل يتركه يربع في الكون يتمتع به كما يشاء.
وقال: { قَلِيلاً } [الزمر: 8] لأن التمتُّع هنا موقوت بالدنيا ومدة بقائه فيها، وقلنا: إن الدنيا بالنسبة للإنسان هي مدة بقائه فيها لا مدتها منذ خَلْق آدم إلى قيام الساعة.
وكلمة { مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } [الزمر: 8] الصحبة هنا تدل على التعارف والمودة الحميمة بين النار وأهلها؛ لذلك يقول تعالى في خطاب النار: { { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ق: 30] يعني: هاتوا أحبابي وأصحابي، وإليَّ بالمزيد منهم.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ ... }.
9-
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة (أم) تفيد التخيير بين أمرين، تقول هذا أم هذا، فلا بُدّ أن يكون لها مقابل، فما مقابل { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ .. } [الزمر: 9] المقابل لذلك في قوله تعالى قبلها: { { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ .. } [الزمر: 8].
فالمعنى أيهما أحسن من صفته إذا مسَّه الضر يضرع إلى الله، فإذا كشف عنه الضر جعل لله أنداداً، أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
ومعنى: { قَانِتٌ .. } [الزمر: 9] دائم الخضوع والعبادة (آنَاءَ) جمع (إنْو) مثل حِمْل وأحمال، فكلمة (إنْو) أي: جزء من الليل، وهي من حيث التصريف أأْناو وقُلِبتْ الهمزة إلى مَدٍّ والواو إلى همزة لأنها وقعتْ بعد الألف الزائدة، فصارت (آناء).
وقوله: { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [الزمر: 9] يعني: يخاف منها ومن القهر فيها { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] لأن رحمته سبقت غضبه، لم يقل يأمن مقابل يحذر إنما ذكر أولاً ما يُخوِّف من الآخرة إنْ عصى، والمراد يحذر النار في الآخرة، لكن لما تكلَّم عن رحمة الله جعلها مباشرة، فقال { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] ولم يقل: ويرجو الجنة.
والمؤمن حين يرجو لا يرجو عمله وسَعْيه في الدنيا، إنما يرجو وينتظر رحمة الله، لأنه لا ينجو بعمله، لأن أيَّ إنسان مهما كان صالحاً حين تحاسبه حساباً دقيقاً لا بُدَّ أنْ يخرج بذنوب وإدانة.
إذن: فالكفيل فينا جميعاً والذي يسعنا رحمة الله، كما جاء في الحديث الشريف: "لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يتغمدني الله برحمته" .
فإياك إذن أنْ تغترَّ بعملك، لأن التكاليف كلها لصالحك أنت، ولا يعود على الله منها شيء، فحين يجازيك عليها في الآخرة فهو تفضُّل من الله ونعمة.
ثم يقول سبحانه: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ا
=================\
10.
قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي التقوى أنْ تحترز من المعاصي، وأنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، فالله جبار قهار ذو انتقام، فاجعل بينك وبين هذه الصفات وقاية تحميك.
وقوله { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [الزمر: 10] للعقائد { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } [الزمر: 10] أي: في التكاليف { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [الزمر: 10] أي: حسنة في الآخرة، فلم يقل: للذين أحسنوا حسنةً في هذه الدنيا؛ لأن الكفار يتمتعون في الدنيا بحسنات كثيرة من المال والجاه والعلم .. الخ.
فإنْ فسَّرنا الحسنة على أنها النعيم، فالنعيم الذي يكون سبباً في صَرْف الإنسان عن ربه لا يُعَدُّ حسنة إنما سيئة، إذن: فالحسنة المرادة هنا في الآخرة { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } [الزمر: 10] لكن ما علاقة { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ .. } [الزمر: 10] بقوله { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } [الزمر: 10].
قالوا: يعني: إنْ صادفتَ متاعبَ في أرضك التي تعيش فيها، فإنَّ أرضَ الله واسعةٌ، فالتمس حمايةَ نفسك ودينك في أرض أخرى، كما قال سبحانه: { { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } [النساء: 100].
وقال في نفس المعنى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا .. } [النساء: 97].
إذن: حين تضيق بك أرضك، وحين يضيق عليك الخناق بها، فالتمس أرضاً أخرى تأمن فيها على نفسك وعلى دينك، وعلى تطبيق منهج الله دون معاند، ودون معارض.
ولو تنبهنا إلى آية في سورة الرحمن لوجدنا فيها حلاً لكل مشاكل الدنيا المعاصرة، هي قوله تعالى: { { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [الرحمن: 10].
يعني: جعل الأرض كل الأرض دون تحديد تحت تصرف كل الأنام دون تحديد أيضاً، فكلُّ إنسان له في أرض الله نصيب، فإذا ضاق به مكان فله حَقٌّ في مكان آخر. لكن قوانين البشر ومصالحهم غَيَّرَتْ هذه الصورة، ووضعت العقبات والعراقيل والإجراءات المعقدة في طريق هذه الحرية التي كفلها الخالق
=====================
11.
قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
١١ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٢ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي نلحظ في هذه الآية تكرارَ الفعل أمرت، وهذا يدل على أننا أمام أمرين، كل منهما مستقل عن الآخر، فالأمر الأول { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 11-12] وهذا أمر ليقين الإيمان وليقين العبادة، بحيث نتوجه بها خالصة لله.
والخلوص لله على مراحل، فواحد يعبد الله لانتظار جزائه وطمعاً في جنته، وآخر يعبده خوفاً من ناره، وآخر يعبده لذاته سبحانه، ولأنه يستحق أنْ يُعبد، وأنْ يُحبَّ لذاته.
لذلك قال سبحانه في آخر سورة الكهف: { { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [الكهف: 110] لا جنة ربه ولا جزاء ربه، إنما يريد اللقاء، ويريد الأُنْس بالله، فلا تشغله النعمة، إنما تشغله معية المنعم سبحانه { { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف: 110] والجنة أحد.
إذن: الأمر الأول خاصٌّ بالعقائد، أما الأمر الآخر: { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 12] فهو للتكاليف الإسلامية بافعل ولا تفعل، لكن كيف يقول رسول الله { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 12] أليس هو أولهم بالفعل؟ لأن أول تكليف كان له هو ساعةَ نزل عليه الوحي، وقبل أنْ يُبلِّغه إلى أصحابه، إذن: مرت عليه فترة كان هو صلى الله عليه وسلم أول مَنْ أسلم لله، أول مَنْ أسلم منهجه لله، قبل أنْ يبلغ هذا المنهج، هذا إنْ أردناها حقيقة أولية.
وأيضاً له أولية في تنفيذ الأحكام أمام الناس بعد أنْ يبلغهم المنهج، حتى يعلموا أن الرسالة لم تكُنْ لتدليل الرسل، إنما كانت لإقامة الأُسْوة فيهم، فإذا عمل الرسلُ أنفسهم على منهج الله علّموا الناس جميعاً أن هذا المنهج خير، بدليل أنهم ألزموا أنفسهم به تطبيقاً قبل أنْ يلزموا الناس، كالذي قال: لم آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوة.
شيء آخر: أن الله تعالى سلب الرسول، وسلب أهل بيته ما أعطاه لعامة المسلمين، فالميت يرثه أهله، ورسول الله لا يرثه أحد من أهله، ولعامة فقراء المسلمين أن يأخذوا من أموال الزكاة والصدقة، أما آل البيت فقد حرم عليهم الأخذ منها.
===================
12.
قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
١١ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٢ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي نلحظ في هذه الآية تكرارَ الفعل أمرت، وهذا يدل على أننا أمام أمرين، كل منهما مستقل عن الآخر، فالأمر الأول { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 11-12] وهذا أمر ليقين الإيمان وليقين العبادة، بحيث نتوجه بها خالصة لله.
والخلوص لله على مراحل، فواحد يعبد الله لانتظار جزائه وطمعاً في جنته، وآخر يعبده خوفاً من ناره، وآخر يعبده لذاته سبحانه، ولأنه يستحق أنْ يُعبد، وأنْ يُحبَّ لذاته.
لذلك قال سبحانه في آخر سورة الكهف: { { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [الكهف: 110] لا جنة ربه ولا جزاء ربه، إنما يريد اللقاء، ويريد الأُنْس بالله، فلا تشغله النعمة، إنما تشغله معية المنعم سبحانه { { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف: 110] والجنة أحد.
إذن: الأمر الأول خاصٌّ بالعقائد، أما الأمر الآخر: { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 12] فهو للتكاليف الإسلامية بافعل ولا تفعل، لكن كيف يقول رسول الله { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الزمر: 12] أليس هو أولهم بالفعل؟ لأن أول تكليف كان له هو ساعةَ نزل عليه الوحي، وقبل أنْ يُبلِّغه إلى أصحابه، إذن: مرت عليه فترة كان هو صلى الله عليه وسلم أول مَنْ أسلم لله، أول مَنْ أسلم منهجه لله، قبل أنْ يبلغ هذا المنهج، هذا إنْ أردناها حقيقة أولية.
وأيضاً له أولية في تنفيذ الأحكام أمام الناس بعد أنْ يبلغهم المنهج، حتى يعلموا أن الرسالة لم تكُنْ لتدليل الرسل، إنما كانت لإقامة الأُسْوة فيهم، فإذا عمل الرسلُ أنفسهم على منهج الله علّموا الناس جميعاً أن هذا المنهج خير، بدليل أنهم ألزموا أنفسهم به تطبيقاً قبل أنْ يلزموا الناس، كالذي قال: لم آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوة.
شيء آخر: أن الله تعالى سلب الرسول، وسلب أهل بيته ما أعطاه لعامة المسلمين، فالميت يرثه أهله، ورسول الله لا يرثه أحد من أهله، ولعامة فقراء المسلمين أن يأخذوا من أموال الزكاة والصدقة، أما آل البيت فقد حرم عليهم الأخذ منها.
===============
13.
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي سبحان الله، أيقول رسول الله { إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الزمر: 13] فكأنه يقول: أنا لم آخذ هذه المنزلة حكماً مطلقاً أنني نبي مُكرَّم، بل أنا كعامة الناس إنْ عصيتُ ربي تعرضتُ للعقاب، يعني تقديم الله لي أولاً واصطفاؤه لي لا يشفع لي إنْ حدثتْ مني معصية.
ثم يقول سبحانه على لسان رسوله { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [الزمر: 14] وهذه أيضاً للعقائد وليقين الإيمان، وقد سبق قوله تعالى: { { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 11] وهنا { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فما الفرق بين (الله أعبد) و (أعبد الله)؟
قوله تعالى: { { أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } [الزمر: 11] جاء على الترتيب الطبيعي للجملة: الفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول. والجملة بهذا الترتيب لا تمنع من العطف على المفعول كما تقول: أطع فلاناً، فإنها لا تمنع أن نقول وفلاناً، أما إن قدَّمنا المفعول به على الفعل، كما في قوله سبحانه: { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فإنَّ تقديم المفعول أفاد القصر يعني: قصر العبادة على الله وحده، كما لو قلت: إلى الله أشكو يعني: لا إلى غيره.
فالآية الأولى جاءتْ بالترتيب الطبيعي للجملة، والأخرى جاءت بصيغة القصر، كأنه قال: أنا لا أعبد غير الله، وأنتم اعبدوا ما شئتم { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } [الزمر: 15].
ثم يبيِّن سبحانه عاقبة الشرك فيقول:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15].
نفهم أن هؤلاء المشركين خسروا أنفسهم يوم القيامة، لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر وبالشرك، لكن كيف يخسرون أهليهم أيضاً؟ قالوا: لأن أهليهم هم أولادهم وذريتهم؛ وهؤلاء إما أنْ يؤمنوا، وإما أنْ يظلوا على كفرهم مع الآباء، فإنْ ظلُّوا على كفرهم فهم خاسرون كآبائهم، وإنْ آمنوا فلن يكونوا مع الآباء، وسيحرمون رؤيتهم، لأن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. إذن: الخسارة ملازمة لهم في كلتا الحالتين.
وكلمة الخسارة هنا أكَّدها الحق سبحانه بالمفعول المطلق { ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15] ثم وصف الخسران بأنه مبين أي: بيِّن واضح ومحيط؛ لأن التاجر متى يكون خاسراً؟ إما أنْ يعود إليه رأس ماله دون
==========\
14.
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي سبحان الله، أيقول رسول الله { إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الزمر: 13] فكأنه يقول: أنا لم آخذ هذه المنزلة حكماً مطلقاً أنني نبي مُكرَّم، بل أنا كعامة الناس إنْ عصيتُ ربي تعرضتُ للعقاب، يعني تقديم الله لي أولاً واصطفاؤه لي لا يشفع لي إنْ حدثتْ مني معصية.
ثم يقول سبحانه على لسان رسوله { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [الزمر: 14] وهذه أيضاً للعقائد وليقين الإيمان، وقد سبق قوله تعالى: { { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 11] وهنا { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فما الفرق بين (الله أعبد) و (أعبد الله)؟
قوله تعالى: { { أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } [الزمر: 11] جاء على الترتيب الطبيعي للجملة: الفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول. والجملة بهذا الترتيب لا تمنع من العطف على المفعول كما تقول: أطع فلاناً، فإنها لا تمنع أن نقول وفلاناً، أما إن قدَّمنا المفعول به على الفعل، كما في قوله سبحانه: { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فإنَّ تقديم المفعول أفاد القصر يعني: قصر العبادة على الله وحده، كما لو قلت: إلى الله أشكو يعني: لا إلى غيره.
فالآية الأولى جاءتْ بالترتيب الطبيعي للجملة، والأخرى جاءت بصيغة القصر، كأنه قال: أنا لا أعبد غير الله، وأنتم اعبدوا ما شئتم { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } [الزمر: 15].
ثم يبيِّن سبحانه عاقبة الشرك فيقول:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15].
نفهم أن هؤلاء المشركين خسروا أنفسهم يوم القيامة، لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر وبالشرك، لكن كيف يخسرون أهليهم أيضاً؟ قالوا: لأن أهليهم هم أولادهم وذريتهم؛ وهؤلاء إما أنْ يؤمنوا، وإما أنْ يظلوا على كفرهم مع الآباء، فإنْ ظلُّوا على كفرهم فهم خاسرون كآبائهم، وإنْ آمنوا فلن يكونوا مع الآباء، وسيحرمون رؤيتهم، لأن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. إذن: الخسارة ملازمة لهم في كلتا الحالتين.
وكلمة الخسارة هنا أكَّدها الحق سبحانه بالمفعول المطلق { ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15] ثم وصف الخسران بأنه مبين أي: بيِّن واضح ومحيط؛ لأن التاجر متى يكون خاسراً؟ إما أنْ يعود إليه
===================
15.
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣ قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي سبحان الله، أيقول رسول الله { إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الزمر: 13] فكأنه يقول: أنا لم آخذ هذه المنزلة حكماً مطلقاً أنني نبي مُكرَّم، بل أنا كعامة الناس إنْ عصيتُ ربي تعرضتُ للعقاب، يعني تقديم الله لي أولاً واصطفاؤه لي لا يشفع لي إنْ حدثتْ مني معصية.
ثم يقول سبحانه على لسان رسوله { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [الزمر: 14] وهذه أيضاً للعقائد وليقين الإيمان، وقد سبق قوله تعالى: { { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 11] وهنا { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فما الفرق بين (الله أعبد) و (أعبد الله)؟
قوله تعالى: { { أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } [الزمر: 11] جاء على الترتيب الطبيعي للجملة: الفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول. والجملة بهذا الترتيب لا تمنع من العطف على المفعول كما تقول: أطع فلاناً، فإنها لا تمنع أن نقول وفلاناً، أما إن قدَّمنا المفعول به على الفعل، كما في قوله سبحانه: { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } [الزمر: 14] فإنَّ تقديم المفعول أفاد القصر يعني: قصر العبادة على الله وحده، كما لو قلت: إلى الله أشكو يعني: لا إلى غيره.
فالآية الأولى جاءتْ بالترتيب الطبيعي للجملة، والأخرى جاءت بصيغة القصر، كأنه قال: أنا لا أعبد غير الله، وأنتم اعبدوا ما شئتم { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } [الزمر: 15].
ثم يبيِّن سبحانه عاقبة الشرك فيقول:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15].
نفهم أن هؤلاء المشركين خسروا أنفسهم يوم القيامة، لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر وبالشرك، لكن كيف يخسرون أهليهم أيضاً؟ قالوا: لأن أهليهم هم أولادهم وذريتهم؛ وهؤلاء إما أنْ يؤمنوا، وإما أنْ يظلوا على كفرهم مع الآباء، فإنْ ظلُّوا على كفرهم فهم خاسرون كآبائهم، وإنْ آمنوا فلن يكونوا مع الآباء، وسيحرمون رؤيتهم، لأن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. إذن: الخسارة ملازمة لهم في كلتا الحالتين.
وكلمة الخسارة هنا أكَّدها الحق سبحانه بالمفعول المطلق { ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15] ثم وصف الخسران بأنه مبين أي: بيِّن واضح ومحيط؛ لأن التاجر متى يك
===============
16.
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي يبين سبحانه عاقبة الكافرين، فيقول: { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر: 16] كلمة ظلل جمع ظلة، وهي ما يُظِلُّ الإنسان، ويقيه حرارة الشمس، ففي الظل يلتمس الإنسانُ الراحة وطراوةَ الهواء، أما هؤلاء فعليهم ظُلَل لا ظلة واحدة من النار، والنار لا تكون أبداً ظلة.
إذن: هذا أسلوب تهكم بالكافرين، وليت هذه الظلل من جهة واحدة، إنما من فوقهم، ومن تحتهم، والإنسان عادة حينما يأتيه الشر من جهة ينأى إلى الجهة المقابلة، وفي موضع آخر قال سبحانه: { { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41].
إذن: فالنار محيطة بهم لا مهربَ منها، ولا مفرَّ { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } [الزمر: 16] تأمل رحمة الله بعباده، حتى في مقام ذكر النار والعذاب، فالنار ليس المراد بها تعذيب الخَلْق، إنما تخويفهم وزَجْرهم حتى لا يقفوا هذا الموقف، ولا يتعرضوا لهذا العذاب، وأنت لا تصنع ذلك إلا مع مَنْ تحب، كما تُخوِّف ولدك من الرسوب، وتبين له عاقبة الإهمال، وما سيتعرض له من الذلة والإهانة والاحتقار، إنْ هو فشل في دراسته.
إذن: حظه تعالى من ذكر النار أنْ يُخوّف بها، حتى لا يقع الخَلْق في الأسباب المؤدية إليها، والعاقل ساعة تخوفه يخاف، وساعة تزجره ينزجر ويرتدع، ويُعد هذا التخويف نعمةً من أعظم نعم الله عليه.
وهذه المسألة واضحة في سورة الرحمن، فالذين يحاولون أنْ يستدركوا على كلام الله يقولون: من المناسب للمعنى أنْ تختم الآيات التي تذكر النعم بقوله تعالى: { { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 13].
كما في قوله سبحانه { { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 14-16] لكن، ما النعمة التي لا ينبغي أن نكذب بها في قوله: { { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [الرحمن: 35].
قالوا: هذا العذاب ليس هو الواقع إنما يذكره ليرهب به يعني: إنْ حدث منكما كذا وكذا يُرْسَل عليكما شُوَاظ من نار ونحاس فلا تنتصران، وكونه يرهب ويخوف بالعذاب قبل أنْ يأتي حينه فإنه يحدث عندي مانع ووقاية فلا أقترف أسباب هذا العذاب، بل أُلزم جانب الخوف من الله والتقوى.
لذلك قال بعدها: { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } [
===============
17.
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي
كلمة الطاغوت مبالغة من طاغٍ، والطاغوت هو الظالم الذي يزيده احترام الناس لظلمه، أو خوفهم منه يزيده ظلماً وغطرسة، والطاغوت لا بدّ أنْ يكون له توجيه وتعالٍ، لذلك لا يقال للأصنام طواغيت، لأنها لا تعلو بذاتها، وليس لها توجيهات، إنما يعلو بها عُبَّادها، إذن: الطاغوت لا يكون إلا من البشر، ولو كان حاكمين فقط، وإلا فما وَجْه الطغيان في الأصنام؟ الأصنام لا قالت ولا ظلمت.
وفي المثل الريفي يقولون: (يا فرعون إيه فرعنك؟ قال: ملقيتش حد يردني) إذن: لو وقف الناس في وجهه، ولو ردوا ألوهيته عندما ألَّه نفسه لارتدع عن هذا.
ورحم الله أحمد الزين، ففي عهد الملك أرادوا وحدة وطنية تجمع كل الأحزاب تجتمع بالملك ليفكروا في حَلِّ مشاكل البلد، ودَعَوا لذلك مصطفى النحاس، لكنه لم يذهب، فلما سأله أتباعه: لماذا لم تذهب لهذا الاجتماع؟ قال: لأني سأكون فيه أقلية. يعني: لكثرة الموجودين، فأخذ أحمد الزين هذا الموقف، وقال فيه قصيدة أراد أنْ يغمز فيها الملك، فقال:
كُلُّهم بالهَوَى يُمجِّدُ دِينَهُ أَلْف مُفْتٍ ومالكٌ بالمدينَه
كَمْ رئيس لَوْلاَ القَوانينُ تَحْمِي جَهْلَهُ كانَ طرده قَانُونهْ
ذُو جُنُونٍ وَزَادَ فِيهِ جُنُوناً أنْ يَرىَ عَاقِلاً يُطِيعُ جُنُونَهُ فالطاغوت ما صار طاغوتاً إلا لأن الناسَ خافوه ولم يَرُدُّوا طغيانه، ولم يجابهوه، بل وافقوه وداهنوه، فاستشرى به الطغيان.
البعض يرى أن الطاغوت كل ما عُبد من دون الله، لكن ينبغي أنْ نضيفَ إلى ذلك: وهو رَاضٍ بهذه العبادة، وبناءً على هذا التعريف لا تُعَدُّ الأصنامُ طواغيتَ، ولا يُعَدُّ عيسى - عليه السلام - طاغوتاً، ولا يُعَدُّ أولياءُ الله طواغيتَ كما يدَّعي البعض؛ لأن الناس فُتِنَوا فيهم، ولا ذنب لهم في ذلك.
وقوله: { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ .. } [الزمر: 17] أي: رجعوا إلى عبادته وحده لا شريك له { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } [الزمر: 17] أي: بالجنة لأنهم وقفوا في وجه الطغيان، وردُّوا الظلم ولم يقبلوه، والله تعالى يريد من المجتمع المسلم أنْ يقف في وجه كل طاغية، وأن يُعدِّل سلوك كل منحرف، وأنْ يقاطع أهل الفساد ويعزلهم عن المجتمع وحركة الحياة فيه.
ومثَّلنا لذلك بالفتوة الذي يحمل السلاح ويهدد الناس في نفوسهم وفي أرزاقهم وأعراضهم، بل ومنهم مَنْ يتحدى القانون والسلطة والنظام، إنه ما وصل إلى هذه الدرجة إلا لأن المجتمع تخلى عن دوره في الإصلاح والتصدي لأهل الشر.
قبل أن أبدأ لقائي في هذه الحلقة أذكر أنه وصلني كتاب اليوم من أحد الإخوان يطلب مني أولاً أن أذكر له القصيدة التي قيلت في قنوت الليل، وأنا لا أقول مَنْ قالها، وإنما أحيله إلى رجل حجة في هذا الباب، هو الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة عميد كلية اللغة العربية سابقاً، وحجة رابطة الأدب في مصر.
وسأل أيضاً عن اختلاف العلماء في تحديد الليل والنهار اختلافاً ينفي بعض الليل من النهار، وينفي بعض النهار من الليل، وأقول وبالله التوفيق: إن اختلاف الناس في الليل والنهار اختلاف بين الشرعيين والفلكيين، فالشرعيون يروْنَ أن الليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، والفلكيون يقولون: إن الليل يبدأ من غروب الشمس إلى شروق الشمس.
إذن: فهناك فترة مختلف عليها، وهي من الفجر إلى الشروق، فالذين نظروا إلى أنها ليستْ من الليل هم الشرعيون، وذلك لأن المراد في احتياط الصوم ألاَّ يجور الإنسان على شيء من الليل، يدخل فيه شيئاً من النهار فاحتاطوا لذلك.
ووجه الاحتياط أن الشرعي نظر إلى النور الذي يبدو عند طلوع الفجر، ولم ينظر إلى سبب النور وهو الشمس، فنحن نرى نوراً قبل أن تطلع الشمس.
أما الفلكي فينظر إلى وجود النور، هذا النور يكون من علامة الليل. الشرعي قال: لا ففرقٌ بين النور يظهر وبين المنوِّر، لأن نور الفجر إلى الشروق نور لا نرى فيه الشمس، وهو مرتبط بغروب الشمس وشروقها، والليل يقال فيه: ليل ألْيَل أو ليلة لَيْلاء يعني شديدة الظلمة وهي حينما يكون القمر في المحاق، أو يقال ليلة ليلاء. يعني: فيها تعب ومشقة.
وقد جعل المحِبُّون من الليل مراحاً ومَغْدى لشعرهم، فإن كانوا مع الأحبة تمنَّوْا أنْ يطول الليل، وإنْ فارقوا الأحبة تمنَّوْا أنْ يقصرَ الليلُ.
ومن ذلك قول الشاعر
طَالَ لَيْلِي وَلَمْ أَنَمْ وَنَفَى عَنِّي الكَرَى طَيْفٌ أَلَمّ وقال آخر لما اجتمع شمله بمَنْ يحب:
يَا لَيْلُ طُلْ يَا نوْم زُلْ يَا صُبْح قفْ لاَ تَطْلُعْ والآخر جمع الحالين معاً، أظنه البحتري حين قال:
وَدَّعَ الصّبْرَ مُحِبٌّ ودَّعَكَ ذائعٌ مِنْ سِرِّه مَا اسْتَوْدَعَكْ
يَقْرَعُ السِّنَّ علَى أنْ لَمْ يكُنْ زَادَ فِي تِلْكَ الخُطَى إذْ شيَّعَكْ
يَا أخَا البَدْر سَناءً وَسَنا حفظ اللهُ زَمَاناً أطلعَكْ
إنْ يطُلْ بَعدَكَ لَيْلِي فَلَكَمْ بِتّ أشْكُو قِصَرَ الليْلِ مَعَكْ والليل يقابله النهار، لذلك يقول سبحانه: { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [القصص: 71-72].
فجعل الليل مقابل النهار، وتلحظ هنا دقَّة الأداء القرآني، لأن المتكلم رب والأداء أداء إلهي، فلما تكلم عن الليل ذيَّل الكلام بقوله: { { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [القصص: 71] ولما تكلم عن النهار ذيَّل الكلام بقول: { { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [القصص: 72] ذلك لأن السمع وسيلة الإدراك بالليل حيث لا رؤية، أما في النهار فالبصر.
وقد اضطر العلماء إلى البحث في علاقة اليوم بالليل والنهار، فقالوا: الحق يقول: { { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [سبأ: 18].
فجعل سبحانه اليوم مقابل النهار، لكن يوم الفلكيين غير هذا، فاليوم عندهم لا يُحسب إلا من وقت إلى مثله في القادم، يعني: إنْ بدأت من العصر فاليوم إلى العصر القادم. ويقولون في التوقيت: صباحاً ومساءً، فلو استيقظتُ مثلاً للسحور الساعة الثانية بعد منتصف الليل أقول: تسحرت الساعة الثانية صباحاً، مع أنني ما زلتُ في الليل، وبالعكس أقول في النهار: الساعة الخامسة مساءً، مع أنني ما زلتُ في النهار، هذا كله من اختلاف الفلكيين والشرعيين.
ولكن اليوم اخْتُلف في مدلوله في كثير من المواضع، فالحق سبحانه يقول في كتابه: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } [المائدة: 3] فأطلق اليوم على أيِّ لحظة من لحظاته.
وقال سبحانه: { { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } [إبراهيم: 5] والمراد بأيام الله الأيام التي تُنسب إليها الأحداث، سواء أكانت نعمة أو نقمة، نقول مثلاً يوم بدر، وكان يوم بدر نعمة للمؤمنين ونقمةً على الكافرين. وإلى هنا انتهت الإجابة على سؤال الأخ السائل، ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث عنه من قوله سبحانه: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا .. } [الزمر: 17].
قلنا: الطاغوت هو الذي يطغى، ويبارك الناسُ طغيانه، ولا يصدونه عنه، والطاغوت جاءت هنا مُؤنَّثة بدليل { أَن يَعْبُدُوهَا .. } [الزمر: 17]، وفي موضع آخر جاء بصيغة المذكر في قوله تعالى: { { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ .. } [النساء: 60].
وكلمة الطاغوت من الكلمات التي تُطلق على: المفرد والمثنى والجمع مُذكَّراً ومُؤنَّثا، فنقول: هذا رجل طاغوت، وهذه امرأة طاغوت، وهذان طاغوت، وهؤلاء طاغوت. وهي هنا للجمع، بدليل قوله تعالى: { أَن يَعْبُدُوهَا .. } [الزمر: 17] وهي مثل كلمة سبيل، نقول: هذه سبيل، وهذا سبيل.
والطاغوت - كما قلنا: لا بُدَّ أن تكون له توجيهات، لذلك لا يُطلق إلا على الطاغي من البشر أو من الجن، أما الملائكة فلم ترْضَ أنْ تُعبد من دون الله، كذلك يُسمَّى الظالمُ طاغوتاً.
ونفهم من قوله تعالى: { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ .. } [الزمر: 17] أي: رجعوا إليه، نفهم منها أنهم كانوا مع الله أولاً ثم انحرفوا عنه، كيف؟ قالوا: لأن كلَّ إنسان كان مع الله على فطرة الإيمان الأولى عندما أخذ اللهُ الميثاقَ على الخَلْق جميعاً فقال: { { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ .. } [الأعراف: 172] لكن منهم مَنْ ظلَّ على هذا العهد وعلى هذه الفطرة السليمة، ومنهم مَنْ انحرف عنها ونسيها.
لذلك كثيراً ما يقول القرآن (وذكر) أي: بالعهد الأول، فمعنى { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } [الزمر: 17] يعني: رجعوا إلى الإيمان الفطري وإلى العهد الأول، أو رجعوا إلى الله للجزاء يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } [الزمر: 17] البشرى الخبر السَّار الذي نخبر به قبل أوانه، والبُشْرى تنقسم إلى قسمين: إزالة عطب وألم، أو تحقيق مراد وأمل، فالذين اجتنبوا الطاغوت فلم يعبدوها وأنابوا إلى الله تحقَّق لهم الأمران معاً، لأنهم أولاً برئوا من النار وآلامها، ثم تحقَّق مرادهم بدخول الجنة كما قال سبحانه: { { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ .. } [آل عمران: 185].
لذلك قال بعدها: { فَبَشِّرْ عِبَادِ } [الزمر: 17] أي بهذه البشرى السارة { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر: 18] القول لا بدَّ أنْ يكون من قائل، فإذا استمعوا القول من قائل يتبعون أحسن ما قيل، وأن ما قيل يكون من أحسن قائل، وإذا نظرنا إلى أحسن قائل لا نجد إلا الحق سبحانه وتعالى، فإذا أمر الله بحكم فاتبعوه فقوله أحسن القول، وأمره أنفع أمر.
والحق سبحانه لا يستفيد من أوامره لكم، ولا تضره معصيتكم، فأنتم إذن المنتفعون بالمنهج، المستفيدون من تنفيذه، ثم أنتم خَلْق الله وصَنْعته، ويعز عليه سبحانه أن تنحرف هذه الصنعة أو تعذَّب.
ثم يريد سبحانه من منهجه وشرعه أنْ يُديمَ عليكم عطاءه ونعمه، وأن تكون نعمة الدنيا موصولة لكم بنعمة الآخرة، لذلك قال عنهم في الحديث القدسي: "لو خلقتموهم لرحمتموهم" .
أو: أحسن ما قيل يعني الإسلام، فالإسلام جاء والناس أصناف شتَّى: كفرة لا يؤمنون بإله، ومشركون يؤمنون بإله معه غيره، وأتباع ديانات كان لها كتب ورسل سابقون كاليهود والنصارى. فهؤلاء الذين عاصروا الإسلام إنْ يستمعوا يستمعوا لقول هذا وقول ذاك، يستمعوا للكفار والملاحدة وللمشركين ولأصحاب الكتب السابقة.
فكأن الحق سبحانه يقول: اعرضوا هذه الأقوال على عقولكم، واختاروا أحسنها ولا تتعصبوا لقول دون أنْ تبحثوه وتقارنوه بغيره، فإن فعلتم ذلك وإنْ توفرت لكم هذه الموضوعية فلن تجدوا إلا الإسلام أحسن الأقوال والأَوْلَى بالاتباع، فهو الدين الذي جمع للناس كلَّ خير، ونأى بهم عن كل شر.
وهو الدين الذي جاء مهيمناً على جميع الأديان قبله، وكتابه المهيمن على كل الكتب قبله، وجاء الإسلام ديناً عاماً في الزمان وفي المكان؛ لذلك هو الدين الخاتم الذي لا دينَ بعده، ولا كتابَ بعد كتابه، ولا رسول بعد رسوله.
ودينٌ هذه صفاته لا بدَّ أن يكون قد استوفى كلّ شروط الكمال، كما قال سبحانه: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً .. } [المائدة: 3] فالإسلام إذن أحسن الأديان، وأحسن الأقوال، وأحسن ما نتبعه.
ثم تستمر الآيات في وَصْف المؤمنين الذين اجتنبوا الطاغوت أنْ يعبدوها، والذين أنابوا إلى الله والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 18] هداهم يعني دلَّهم وأرشدهم، فلما اتبعوا دلالته وإرشاده ولم يكُنْ في نفوسهم عناد لهذه الدلالة أعطاهم هدايةَ التوفيق والإيمان فآمنوا.
وقلنا: إن الهداية نوعان: هداية الدلالة، وهداية المعونة. وبيَّنا ذلك كما سبق برجل المرور الذي تجده على مفترق الطرق يدلّ الناس ويُرشدهم، فإن دلَّك على الطريق فأطعْتَه وشكرته على معروفه زادك، وسار معك حتى لا تؤذيك عقبَات الطريق؛ لأنه وجدك أهلاً لأنْ تُعان فأعانك.
كذلك الحق سبحانه يعطي عبده هداية الدلالة والإرشاد، وهذه للمؤمن وللكافر، فمَنْ أطاع في الأولى أخذ الثانية، وهي هداية المعونة، وهذه للمؤمن دون الكافر، فكأن الله تعالى يقول لعبده المؤمن: أنت آمنت بي، وسمعتَ كلامي، وأطعتَ فسوف أعينك على الطاعة، وأخفف أمرها عليك، وأُعسِّر عليك أمر المعصية.
وهذه من أعظم نِعَم الله على العبد أنْ يُيسِّر له أمر الطاعة، ويُعينه على مشقاتها، وفي المقابل يقفل دونه أبواب المعصية ودواعيها. وهذا معنى قوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17].
فمعنى (زادهم هدى) يعني: أعطاهم هداية المعونة على الإيمان.
وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 18] أي: أصحاب العقول المفكرة المعتبرة، لأنهم نشروا أمامهم كل الأقوال، وبحثوها وقارنوا بينها، وأخذوا أحسنها الذي يحقق لهم السعادة والمصلحة والانسجام في حركة الحياة بلا تعاند، بل حركة مستقيمة متساندة تنفي من القلوب: الحقد والغل والحسد، وتمنع الانحراف من: سرقة وغش ورشوة واغتصاب .. إلخ.
فمَنْ يصادم مثل هذا المنهج؟ ومَنْ يرفضه؟ إنه منهج مستقيم لا يملك العقل السليم إلا الإذعان له والسير على هَدْيه، لذلك سمى الله هؤلاء الذين اختاروا هذا المنهج سماهم { أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 18] أي أصحاب العقول، والعقل مهمته أن يعقل الفكر فلا يشطح، بل يعرض المسائل ويختار من البدائل ما يصلحه، لكن آفة الرأي الهوى، فالهوى هو الذي يصرفك عن مقول العقل إلى مقول الهوى.
قول آخر يقول: المراد بقوله تعالى { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر: 18] أنه خاصٌّ بمَنْ يستمعون أقوال الإسلام، فيتبعون أحسن هذه الأقوال؛ لذلك جاء بصيغة التفضيل (أحسن) فكأن في الإسلام (قول حسن) و (أحسن)، فهذا الرأي لا يأخذ المسألة على العموم، إنما يجعلها خاصة بأقوال الإسلام، وهي كلها مُتصفة بالحُسْن، لكن منها حسن وأحسن، وأصحاب العقول المتأملة يختارون منها الأحسن.
ومثال ذلك: شرع الإسلامُ مثلاً القصاصَ من القاتل وشرع الدية عليه، وشرع أيضاً العفو، فقال سبحانه: { { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ .. } [البقرة: 178] فمن أخذ بالقصاص أو الدية أخذ بالحسن، ومَنْ تسامى إلى العفو أخذ بالأحسن.
كذلك في قوله تعالى: { { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ .. } [البقرة: 271] فإنْ أبديتَ الصدقة فأنت غير آثم، بل هو أمر حسن، لكن الأحسن منه أنْ تخفيها.
ومثله قوله سبحانه: { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [الشورى: 40].
وفي كل هذه المواضع، نجد الحق سبحانه يُرغّب عباده في التسامح، لكن التسامح يكون في الأمر الذي تتحمل أنت ثمنه، ويعود عليك ضرره إنْ كان هناك ضرر، أما إنْ عاد الضرر على المجتمع عامة فلا تسامح.
والنبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا هذا الدرس، فكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه قط. إنما كان يغضب إذا انتهِكَ أمر الله، إذن: تسامح في الأمر الذي يتعلق بك، أما إنْ تعلق الأمر بعامة المسلمين فليس لأحد الحق أن يتسامح فيه.
والحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى اختيار الأحسن هو أحسن لنا نحن وأفضل، ففي قصة الإفك، قال تعالى: { { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ .. } [النور: 22] يعني: لا تغضب لأنك غفرتَ لمن أساء إليك، لأن الله تعالى سيعاملك بالمثل فيغفر لك إنْ أسأتَ، ومَنْ لا يحب أنْ يغفر الله له؟ فما دُمْتَ تحب أنْ يُغفر لك فاغفر لصاحبك، لكن شريطةَ ألاّ تهيج المجتمع ولا تضره.
18.
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي كلمة الطاغوت مبالغة من طاغٍ، والطاغوت هو الظالم الذي يزيده احترام الناس لظلمه، أو خوفهم منه يزيده ظلماً وغطرسة، والطاغوت لا بدّ أنْ يكون له توجيه وتعالٍ، لذلك لا يقال للأصنام طواغيت، لأنها لا تعلو بذاتها، وليس لها توجيهات، إنما يعلو بها عُبَّادها، إذن: الطاغوت لا يكون إلا من البشر، ولو كان حاكمين فقط، وإلا فما وَجْه الطغيان في الأصنام؟ الأصنام لا قالت ولا ظلمت.
وفي المثل الريفي يقولون: (يا فرعون إيه فرعنك؟ قال: ملقيتش حد يردني) إذن: لو وقف الناس في وجهه، ولو ردوا ألوهيته عندما ألَّه نفسه لارتدع عن هذا.
ورحم الله أحمد الزين، ففي عهد الملك أرادوا وحدة وطنية تجمع كل الأحزاب تجتمع بالملك ليفكروا في حَلِّ مشاكل البلد، ودَعَوا لذلك مصطفى النحاس، لكنه لم يذهب، فلما سأله أتباعه: لماذا لم تذهب لهذا الاجتماع؟ قال: لأني سأكون فيه أقلية. يعني: لكثرة الموجودين، فأخذ أحمد الزين هذا الموقف، وقال فيه قصيدة أراد أنْ يغمز فيها الملك، فقال:
كُلُّهم بالهَوَى يُمجِّدُ دِينَهُ أَلْف مُفْتٍ ومالكٌ بالمدينَه
كَمْ رئيس لَوْلاَ القَوانينُ تَحْمِي جَهْلَهُ كانَ طرده قَانُونهْ
ذُو جُنُونٍ وَزَادَ فِيهِ جُنُوناً أنْ يَرىَ عَاقِلاً يُطِيعُ جُنُونَهُ فالطاغوت ما صار طاغوتاً إلا لأن الناسَ خافوه ولم يَرُدُّوا طغيانه، ولم يجابهوه، بل وافقوه وداهنوه، فاستشرى به الطغيان.
البعض يرى أن الطاغوت كل ما عُبد من دون الله، لكن ينبغي أنْ نضيفَ إلى ذلك: وهو رَاضٍ بهذه العبادة، وبناءً على هذا التعريف لا تُعَدُّ الأصنامُ طواغيتَ، ولا يُعَدُّ عيسى - عليه السلام - طاغوتاً، ولا يُعَدُّ أولياءُ الله طواغيتَ كما يدَّعي البعض؛ لأن الناس فُتِنَوا فيهم، ولا ذنب لهم في ذلك.
19.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي كان النبي صلى الله عليه وسلم مُحباً لأمته، حريصاً على هدايتهم والأخْذ بأيديهم، وكان يؤلمه أنْ يشذ واحد منهم عن منهجه أو يعانده، والقرآن الكريم يعرض لنا هذه المسألة في أكثر من موضع، ففي سورة الشعراء: { { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3].
وفي الكهف: { { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6].
وقال { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ .. } [فاطر: 8].
فالحق سبحانه يُسلِّي رسوله يقول له: يا محمد، لا تحزن على هؤلاء، لأنهم استحقوا العذاب، وحكم الله عليهم أنهم مُعذَّبون { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ .. } [الزمر: 19] حق يعني: ثبت من الله، كما في قوله تعالى: { { حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13].
وما دام قد حقّ عليهم العذاب، فلماذا تحزن { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } [الزمر: 19] وأحقية كلمة العذاب هنا ليست قهْراً للعبد أنْ يفعل، إنما عِلْم أنه سيفعل كذا وكذا، فَعَلِمَ الله بما سيكون منهم وكتبه عليهم، فالأحقية هنا ليست أحقيةً كونية أرادها الخالق سبحانه، إنما لأنه سبحانه علم مُسْبقاً ما يختارون.
وسبق أنْ تناولنا هذه المسألة في الكلام عن قوله تعالى: { { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [المسد: 1-3] هذا حُكْم من الله على أبي لهب أنه سيَصْلَى ناراً ذات لهب، وقد جاء هذا الحكم وبلَّغه رسول الله، وسمعه أبو لهب وهو حَيٌّ يُرزق، أكان محمد صلى الله عليه وسلم يأمن أنْ يقف أبو لهب في محفل من القوم، ويقول: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يقولها ولو نفاقاً، ويظهر أمام الناس على أنه مؤمن، وفي هذه الحالة يُكذِّب كلام الله؟
لقد كان أبو لهب كافراً، كما كان خالد وعمرو وعكرمة كافرين، وكان بإمكانه أنْ يؤمن كما آمنوا، لكن علم الله أنه لن يؤمن حتى بعد أن بلغه هذا المصير في قرآن معجز يحفظه مَنْ قاله ويُتْلَى إلى يوم القيامة، إذن: دلَّتْ هذه الآية على أن الله تعالى علم مُسْبقاً أنه لن يؤمن، ولم يقهره على ألاَّ يؤمن.
فالحق سبحانه يقول لرسوله: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، لأن الله حكم عليهم لعلمه بما سيكون
20
لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ
٢٠ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي قلنا: إن من سمات الأسلوب القرآني أن يذكر المتقابلات، فالضِّد يُظهر حُسْنه الضد، كما في قوله سبحانه: { { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14].
وهنا بعد أنْ ذكر الحق سبحانه الكافرين الذين حقَّتْ عليهم كلمة العذاب يذكر المقابل لهم، وهم المتقون { لَـٰكِنِ } استدراك على ما تقدم { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [الزمر: 20] وهذه المقابلة تهيء النفس لتفظيع المقابل الأسوأ، وتجميل المقابل الأعلى.
والغُرَف جمع غُرْفة، وهي المكان الخاص المقتضب من البيت، وهي مأخوذة من غرفة الماء { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ .. } [الزمر: 20] ثم وصف التي فوق بأنها { مَّبْنِيَّةٌ .. } [الزمر: 20] لأن العادة في الغرفة السفلية أن يُعتنى بها في الأساس، الذي يحمل باقي الأدوار، فأراد أنْ يلفت أنظارنا إلى أن الغرف الفوقية هي أيضاً مبنية مُعْتنىً بها، لا تقل ميزةً عن الغرف السفلية، فكل الغرف من الأدنى إلى الأعلى مميزة.
ثم تأمل الإعجاز في قوله تعالى: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الزمر: 20] من تحت أيُّهما؟ من تحت الاثنين، فإنْ قلتَ كيف؟ نقول: اقرأ قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة: "فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر" .
وفي موضع آخر قال سبحانه: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [التوبة: 72] وفَرْق بين تحتها ومن تحتها، لو قُلْنا تجري تحتها الأنهار، فالمعنى أن الأنهار تأتي من مكان آخر وتمرُّ بها، فيمكن للأعلى أنْ يحجب الماء عن الأدنى.
أما { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الزمر: 20] فنبع الماء يجري من تحت هذه الغرف، فماؤها ذاتيّ فيها، ليس لها مَدَدٌ من خارجها، إذن: فالمياه فيها ذاتية.
فأنت تتعجب لأنك تقيس المسائل بهندستك أنت، ولربك سبحانه هندسة أخرى، تأتي على غير ما تتصوَّر؛ لأن الشيء الذي لم تره العين ولم تسمعه الأذنُ، ولم يخطر على القلب
=================
21.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي الحق سبحانه وتعالى حينما يُخبر عن خيره سواء أكان هذا الخير يتعلق بمقوِّمات الحياة في الدنيا أو بمُعدَّات النعيم في الآخرة، يتكلم عنه على أنه إنزال، وكلمة أنزل تدل على جهة العلو، وأن هذا العطاء من أعلى، وإنْ خرج من باطن الأرض كما في قوله سبحانه: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25].
فالنعمة من الأعلى وليست من مُسَاوٍ، وأنت في تصريف حياتك عندما تكون لديك مسألة لا تَقْوى إمكانياتك عليها، ولا يَقْوى عقلك على التفكير فيها تذهب لمَنْ هو أعلى منك في هذا المجال ولمَنْ تثق فيه وفي فكره، ليساعدك على حَلِّها، تفعل ذلك وأنت راضٍ، لأنك أسلمتَ الأمر لمن تثق في قدراته.
فالحق سبحانه ح
=======
22.ينما يقول: أنزلنا. يعني: خدوا أحكامي على أنها من أعلى، وعلى أنها الأفضل لكم، لأنها من خالقكم الذي يعلم ما يصلحكم.
يقول تعالى هنا: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ .. } [الزمر: 21] معنى (من السماء) أي: من جهة السماء، وإلا فمخازن الماء في الأرض، في البحار، وهي مُعدَّة إعداداً كيمياوياً بحيث تحفظ الماء فلا يتغير ولا يأسن، ولا تعيش به الطفيليات.
لذلك نجد الماء المالح في البحار تصونه نسبةُ الملوحة في الماء، ويُلقي فيه بالقاذورات والجيف، فينفيها الموج ويبقى الماء على صلاحه، ومن ماء البحار تتم عملية البخر التي تكوِّن السحاب والمطر الذي يسقي الإنسان والحيوان والنبات.
وماء المطر هو أنقى ما يمكن الحصول عليه من الماء، فعملية البخر مثل عملية تقطير الماء التي نجريها في المعامل للحصول على الماء النقي، وتأمل كم تكلفة تقطير زجاجة ماء واحدة، فما بالك بماء المطر الذي ينهمر من السماء؟
لذلك، من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وجعل اليابسة الربع، ذلك لتتسع مساحة البخر ويكفي المطر حاجة الأرض من الماء العذب، وسبق أن بينّا الفرق بيم الماء الذي له عمق، والماء الذي له سطح مُتسع، فالبخر يعتمد على اتساع سطح الماء، فكلما اتسع السطح زاد البخر، ومثّلنا لذلك بكوب الماء تتركه شهراً وتعود فتجده كما هو لم ينقص منه إلا القليل، لكن إنْ سكبْتَه في أرض الغرفة، فإنه يجفّ قبل أن تغادرها.
==============
22.
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢ -الزمر
خواطر محمد متولي الشعراوي التقدير هنا { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ .. } [الزمر: 22] كمن ضاق صدره عن الإسلام، إذن: لا بُدَّ أنْ نذكر هذا المقابل لأنهما لا يستويان { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 22] تدل على أننا أخذنا الضيق من القسوة، فالذي ضاق صدره عن الإسلام ضاق صدره لقسوة قلبه.
وهذه مثل قوله تعالى: { { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] والمعنى: أهذا كمَنْ لم يقنت؟ وعليك أنت أنْ تجيب: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كمَنْ قسا قلبُه وضاق صدره عن دين الله وهداية الله؟
ومعنى { شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ .. } [الزمر: 22] أي: جعل الضيق واسعاً، وتقول لصاحبك: وسّع صدرك يعني: اجعله مُتسعاً لمناقشة كل القضايا، ومن معاني سعة الصدر ألاَّ تشغله بالخزعبلات، وألاَّ تزحمه بالباطل، حتى يكون لك أُنْس به، وعندها يطرد الباطل الحق كما قلنا في مسألة الحيز.
فالحيز الواحد لا يتسع إلى لشيء واحد، فالماء مثلاً يطرد الهواء حين تملأ زجاجة بالماء.
ومن شَرْح الصدر أن يكون لديك عدالة اختيار حين تختار بين البدائل، عليك أن تصفي قلبك، وأن تُخرج منه كل ما يشغله، ثم تبحث القضايا المعروضة عليك، فما وجدته مناسباً تُدخِله قلبك ليستقر فيه حتى يصير عقيدةً راسخة لا تقبل المناقشة مرة أخرى، لأن الله تعالى خلق لنا حواسَّ تدرك: عينٌ ترى، وأذنٌ تسمع، ولسان ينطق.
وبهذا الحواس نأخذ المعلومات. ثم نعرضها على العقل ليختار منها ويبحث فيها، فما وجده صالحاً أسقطه في القلب، وهذه هي العقيدة التي تستقر في القلب، ولا تطفو لتُبحث من جديد.
لذلك احذر الران الذي يترسب على القلب حتى يغلقه، فلا يكون فيه مكان للحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذه المسألة في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
===========
23.
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي يقول الله تعالى: ما دُمتم ستتبعون الأحسن وتختارونه فأنا مُنزِلٌ عليكم أحسن الحديث، نعم هو أحسن الحديث لأنه كلامُ الله وكلام الله صفته، وهو كامل الكمال المطلق، وقد جعله الله مُعْجزاً، وتولى سبحانه حفظه بنفسه ولم يكل حفظه للخلق.
وفي عُرْف البشر أن الإنسان لا يحفظ إلا ما كان حجة له ولا يحفظ الحجة عليه، أما الحق سبحانه فيحفظ القرآن وهو حجة عليه سبحانه لخَلْقه، فكل ما أتى في القرآن ضمن الحق سبحانه حدوثه، كما أخبرنا الله به لأنه هو منزله وهو حافظه.
والمراد بأحسن الحديث القرآن الكريم، ومعنى { مُّتَشَابِهاً } [الزمر: 23] أي: يشبه بعضُه بعضاً في الحُسْن أو في البلاغة أو في الموضوع، فإياك أن تقول: هذه الآية أبلغ من هذه، لأن كل آية بليغة في موضوعها.
فلو أخذنا مثلاً التشابه في الموضوع نقرأ في قصة سيدنا موسى عليه السلام: { { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً .. } [القصص: 8].
وفي موضع آخر قال: { { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39].
فظن البعض هنا تكراراً، لكن المتأمل في معنى الآيتين يجد أن كل أية تؤدي لقطة لا تؤديها الأخرى، فمعنى { { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] العداوة هنا من موسى لآل فرعون إنما في. { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ .. } [طه: 39] العداوة من جانب فرعون لموسى، والمعركة لا يحمى وطيسها إذا كانت العداوة من جانب واحد، لأن الجانب الآخر ربما يتساهل أو يتنازل لعدوه، فإنْ كانت العداوة من الطرفين حميتْ المعركة.
وسبق أنْ قلنا: إن المستشرقين وقفوا أمام قوله تعالى: { { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17] وقوله: { { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43].
وقالوا: أيهما أبلغ من الأخرى؟ وإنْ كانت إحداهما بليغة فالأخرى إذن غير بليغة.
=======
24.
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي الاستفهام في (أفمن) مثل سابقه في قوله تعالى: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ .. } [الزمر: 22] لذلك لا بدّ أن نقدر هنا المقابل، فالمعنى: { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 24] أي: كمن لا يعذب، ويمكن أنْ نرقي المسألة فنقول: كمن يُنعّم؟ ولك أنت أن تحكم.
ومعنى { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الزمر: 24] أي: العذاب الشديد السيئ، وتأمل { يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الزمر: 24] معلوم أن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، وبه تتميز سمات الخلق؛ لذلك يقول سبحانه: { { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [الفتح: 29].
ولولا سمات الوجوه لتساوت الأبدان وتشابهت بعضها ببعض، لذلك يهتم الإنسان بوجهه ويدافع عنه ويحميه أولاً، ومثّلنا لذلك برجل يسير في الطريق، فمرّت بجواره سيارة مثلاً نثرت عليه وعلى ملابسه الطين، بالله ما أول شيء يحرص على نظافته وإزالة الأذى عنه؟ إنه يمسح أول ما يمسح وجهه، ثم يلتفت إلى ملابسه، لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وأشهرها وأكرمها، وهو المُحَافَظ عليه قبل كل الجوارح.
إذن: ما بالك بعذاب لا يجد الإنسان ما يتقيه به إلا وجهه؟ نعم يتقي العذاب بوجهه، لأن يديه مغلولة، وقدمه مُكبلة، فلا مهربَ له ولا خلاصَ، فلا يملك إلا أنْ يتقي العذاب ويدفعه عن نفسه بأعزّ ما يملك، وبأشرف أعضائه وهو الوجه.
{ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [الزمر: 24] قوله في العذاب (ذُوقُوا) تهكم بهم، واختار الذوق وهو جارحة من الجوارح التي تؤدي مهمة في جسم الإنسان مثل العين والأذن، إنما اختار الذوق خاصة، لأن الذوقَ هو الحاسة الملازمة للإنسان، وبه قوام الحياة، حيث بالتذوق ندخل الطعام والشراب، ونتمتع به ونجد له لذة تفوق الملاذّ الأخرى.
أما العين والأذن مثلاً، فقد ترَى أو تسمع ما لا يعجبك، أما في التذوق فإنك تختار ما يعجبك وتجد له لذة، وهنا يريد الحق سبحانه أن يعمم الذوق في الجسم كله، فجميع البدن يذوق العذاب.
وقلنا: إن اللسان هو جارحة التذوق بمراحله وما حوله يذوق ويُميِّز الطعوم، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقة فلا يشعر الإنسان له بأيِّ مذاق، ولذلك رأينا صناع الدواء يُغلفون الدواء المرّ بمادة مُستساغة م
============25.
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي قوله سبحانه: { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. } [الزمر: 25] أي: من الأمم السابقة { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ .. } [الزمر: 25] أي: عذاب الدنيا بهزيمتهم ونُصْرة الدين الذي كانوا يحاربونه ويصادمونه، وهذه أيضاً هي التي حدثتْ للكافرين، حيث نصر الله الإسلام، وأظهر مبادئه وقضاياه على مبادئ الكفر، وهذا في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب في الدنيا، فإذا ما عادوا إلى الله في الآخرة كان لهم عذاب آخر أشدّ وأنكى.
إذن: فهم يشبهون من سبقهم من المكذِّبين؛ لذلك قال في موضع آخر: { { كَدَأْبِ .. } [آل عمران: 11].
لذلك قوله تعالى: (كَذَّبَ) هنا وقوله (كَدَأبِ) هناك يتبين لنا قضية نفسية في القرآن الكريم، هي أن حفاظ القرآن يجب ألاّ يكونوا من العلماء، خاصةً علماء اللغة والفصاحة، لأن العالم إذا وقف في القرآن أمام لفظ أمكنه أنْ يتصرَّف فيه ويكمل قراءته، فيقول مثلاً: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يقول: فتثبتوا أو فتحققوا، ويمكن أنْ يستقيم المعنى، لكن الحق سبحانه يريد لفظاً بعينه لا يجوز أنْ نتعداه إلى غيره، أما الذي تخصص في حفظ القرآن، وليست لديْه ملكَة التصرف هذه، فإذا نسي أو وقف في لفظ وقف (بالأربعة) يعني: لا يمكن له التصرف فيه، وهذا هو المطلوب في حَفَظة كلام الله، وهذه من عظمة القرآن.
لذلك قلنا: إن كمال القرآن لا يتعدَّى، كيف؟ فمثلاً لو أردنا لإنسان أنْ يرقِّق أسلوبه ويُقوِّيه في الأداء الإنشائي ننصحه بأنْ يقرأ كتب الأدب عند المنفلوطي والرافعي وغيرهما، فلما يُكثر من هذه القراءات نلاحظ تحسُّناً في أسلوبه وأدائه.
ثم إن حافظ القرآن المتمكن منه حتى لو حفظه بالعشرة وقِيل له اكتب خطاباً تجده لا يستطيع أن يكتبه فصيحاً أبداً لماذا؟ لأن كمال القرآن لا يتعدَّى إلى غيره، إنما بلاغة البشر تتعدى إلى البشر.
وقوله: { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [الزمر: 25] أي: من حيث لا يُقدِّرون ولا يحتسبون، حيث يداهمهم من العذاب ما لم يكُنْ في حسبانهم، ولم يخطر لهم ببال، كما في قوله سبحانه: { { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] أي: فوجئ به، فوجئ بحسبان آخر غير ما كان ينتظر، لأنه كذَّب في الدنيا بالبعث وبالحسا
============
2==
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي قوله سبحانه: { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. } [الزمر: 25] أي: من الأمم السابقة { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ .. } [الزمر: 25] أي: عذاب الدنيا بهزيمتهم ونُصْرة الدين الذي كانوا يحاربونه ويصادمونه، وهذه أيضاً هي التي حدثتْ للكافرين، حيث نصر الله الإسلام، وأظهر مبادئه وقضاياه على مبادئ الكفر، وهذا في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب في الدنيا، فإذا ما عادوا إلى الله في الآخرة كان لهم عذاب آخر أشدّ وأنكى.
إذن: فهم يشبهون من سبقهم من المكذِّبين؛ لذلك قال في موضع آخر: { { كَدَأْبِ .. } [آل عمران: 11].
لذلك قوله تعالى: (كَذَّبَ) هنا وقوله (كَدَأبِ) هناك يتبين لنا قضية نفسية في القرآن الكريم، هي أن حفاظ القرآن يجب ألاّ يكونوا من العلماء، خاصةً علماء اللغة والفصاحة، لأن العالم إذا وقف في القرآن أمام لفظ أمكنه أنْ يتصرَّف فيه ويكمل قراءته، فيقول مثلاً: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يقول: فتثبتوا أو فتحققوا، ويمكن أنْ يستقيم المعنى، لكن الحق سبحانه يريد لفظاً بعينه لا يجوز أنْ نتعداه إلى غيره، أما الذي تخصص في حفظ القرآن، وليست لديْه ملكَة التصرف هذه، فإذا نسي أو وقف في لفظ وقف (بالأربعة) يعني: لا يمكن له التصرف فيه، وهذا هو المطلوب في حَفَظة كلام الله، وهذه من عظمة القرآن.
لذلك قلنا: إن كمال القرآن لا يتعدَّى، كيف؟ فمثلاً لو أردنا لإنسان أنْ يرقِّق أسلوبه ويُقوِّيه في الأداء الإنشائي ننصحه بأنْ يقرأ كتب الأدب عند المنفلوطي والرافعي وغيرهما، فلما يُكثر من هذه القراءات نلاحظ تحسُّناً في أسلوبه وأدائه.
ثم إن حافظ القرآن المتمكن منه حتى لو حفظه بالعشرة وقِيل له اكتب خطاباً تجده لا يستطيع أن يكتبه فصيحاً أبداً لماذا؟ لأن كمال القرآن لا يتعدَّى إلى غيره، إنما بلاغة البشر تتعدى إلى البشر.
وقوله: { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [الزمر: 25] أي: من حيث لا يُقدِّرون ولا يحتسبون، حيث يداهمهم من العذاب ما لم يكُنْ في حسبانهم، ولم يخطر لهم ببال، كما في قوله سبحانه: { { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] أي: فوجئ به، فوجئ بحسبان آخر غير ما كان ينتظر، لأنه كذَّب في الدنيا بالبعث وبالحساب، والآن يُفاجئه الحساب الذي كذَّب به.
ثم يقول سبحانه: { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الزمر: 26] هنا نقل الإذاقة الحسية إلى الإذاقات المعنوية، والخزي والذلة نوع من العذاب، ولها إيلام يفوق الإيلام الحِسِّيَّ، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الضرب، إنما تؤلمه كلمة جارحة تخدش عِزَّته وكرامته.
لكن لماذا أذاقهم اللهُ الخزيَ في الدنيا قبل عذاب الآخر؟ أذاقهم الخزي لأنهم تكبَّروا على الحق وتجبَّروا، وجاءوا بقَضِّهم وقضيضهم في بدر لمحاربة الإسلام، وظنوا أنهم (العناتر) والجولة جولتهم، المراد إذن صناديد قريش ورؤوس الكفر أمثال عتبة وشيبة والوليد وغيرهم، جاءوا بالعدد والعُدة، وما خرج المسلمون لقتال إنما خرجوا للعير، ومع ذلك أعزَّ اللهُ جنده وأخزى عدوه، فقتل منهم مَنْ قتل، وأسر مَنْ أسر وذلّوا، وكان الخزي لهؤلاء أنكَى من القتل.
إذن: كان لهم الخزي في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب: { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 26] نعم، عذاب الآخرة أكبر من خزي الدنيا وأشدّ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 26] لأن الذين علموا هذه الحقيقة انتهوا وآمنوا، أما هؤلاء فعاندوا وكابروا وكذَّبوا.
================
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥ فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي قوله سبحانه: { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. } [الزمر: 25] أي: من الأمم السابقة { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ .. } [الزمر: 25] أي: عذاب الدنيا بهزيمتهم ونُصْرة الدين الذي كانوا يحاربونه ويصادمونه، وهذه أيضاً هي التي حدثتْ للكافرين، حيث نصر الله الإسلام، وأظهر مبادئه وقضاياه على مبادئ الكفر، وهذا في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب في الدنيا، فإذا ما عادوا إلى الله في الآخرة كان لهم عذاب آخر أشدّ وأنكى.
إذن: فهم يشبهون من سبقهم من المكذِّبين؛ لذلك قال في موضع آخر: { { كَدَأْبِ .. } [آل عمران: 11].
لذلك قوله تعالى: (كَذَّبَ) هنا وقوله (كَدَأبِ) هناك يتبين لنا قضية نفسية في القرآن الكريم، هي أن حفاظ القرآن يجب ألاّ يكونوا من العلماء، خاصةً علماء اللغة والفصاحة، لأن العالم إذا وقف في القرآن أمام لفظ أمكنه أنْ يتصرَّف فيه ويكمل قراءته، فيقول مثلاً: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يقول: فتثبتوا أو فتحققوا، ويمكن أنْ يستقيم المعنى، لكن الحق سبحانه يريد لفظاً بعينه لا يجوز أنْ نتعداه إلى غيره، أما الذي تخصص في حفظ القرآن، وليست لديْه ملكَة التصرف هذه، فإذا نسي أو وقف في لفظ وقف (بالأربعة) يعني: لا يمكن له التصرف فيه، وهذا هو المطلوب في حَفَظة كلام الله، وهذه من عظمة القرآن.
لذلك قلنا: إن كمال القرآن لا يتعدَّى، كيف؟ فمثلاً لو أردنا لإنسان أنْ يرقِّق أسلوبه ويُقوِّيه في الأداء الإنشائي ننصحه بأنْ يقرأ كتب الأدب عند المنفلوطي والرافعي وغيرهما، فلما يُكثر من هذه القراءات نلاحظ تحسُّناً في أسلوبه وأدائه.
ثم إن حافظ القرآن المتمكن منه حتى لو حفظه بالعشرة وقِيل له اكتب خطاباً تجده لا يستطيع أن يكتبه فصيحاً أبداً لماذا؟ لأن كمال القرآن لا يتعدَّى إلى غيره، إنما بلاغة البشر تتعدى إلى البشر.
وقوله: { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [الزمر: 25] أي: من حيث لا يُقدِّرون ولا يحتسبون، حيث يداهمهم من العذاب ما لم يكُنْ في حسبانهم، ولم يخطر لهم ببال، كما في قوله سبحانه: { { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] أي: فوجئ به، فوجئ بحسبان آخر غير ما كان ينتظر، لأنه كذَّب في الدنيا بالبعث وبالحساب، والآن يُفاجئه الحساب الذي كذَّب به.
===================
27.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي حينما نتتبع لفظ (مَثَل) في القرآن الكريم نجده مرة بصيغة (مِثْل)، وهي تفيد تشبيه شيء بشيء مفرد كما تقول: زيد في شجاعته مثل الأسد، الرجل في كرمه مثل الغيث، ومن ذلك قوله تعالى: { { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ .. } [البقرة: 23] وهي تفيد تشبيه صورة مُنتزعة أو مُكوَّنة من عدة أشياء بصورة أخرى مُكوَّنة من عدة أشياء يعني: تشبيه حالة بحالة.
ومن المثل في القرآن مَثَلُ الحياة الدنيا في قوله تعالى: { { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45].
فالحياة الدنيا ليست تشبه الماء وحده، إنما ماء نزل من السماء واختلط بتراب الأرض فأخرج النبات لكن سرعان ما يهيج ثم يصفر ثم يجف ويتفتت، حتى يصير هشيماً تذروه الرياح، كذلك حياة الإنسان في الدنيا، تزهو لك الحياة ثم تنتهي بالموت، هذه صورة تمثيلية مُكوَّنة من عدة أمور تشبه عدة أمور أخرى، وما دامت الدنيا على هذه الصورة فاحذروها، ولا تركنوا إليها ولا تغترُّوا بها.
ومن الصور التمثيلية في القرآن أيضاً قوله تعالى في الذين حُمِّلوا التوراة، ثم لم يستفيدوا منها: { { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً .. } [الجمعة: 5].
فهؤلاء ليسوا كالحمار وحده، بل كالحمار الذي يحمل الكتب، ولكنه لا يفهمها، والحمار ليست مهمته أنْ يفهم إنما مهمته أنْ يحمل، أما هؤلاء فمهمتهم أنْ يحملوا وأنْ يفهموا ما حملوه، وبذلك تميّز الحمار عنهم.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ .. } [الفتح: 29].
====================
28.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي حينما نتتبع لفظ (مَثَل) في القرآن الكريم نجده مرة بصيغة (مِثْل)، وهي تفيد تشبيه شيء بشيء مفرد كما تقول: زيد في شجاعته مثل الأسد، الرجل في كرمه مثل الغيث، ومن ذلك قوله تعالى: { { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ .. } [البقرة: 23] وهي تفيد تشبيه صورة مُنتزعة أو مُكوَّنة من عدة أشياء بصورة أخرى مُكوَّنة من عدة أشياء يعني: تشبيه حالة بحالة.
ومن المثل في القرآن مَثَلُ الحياة الدنيا في قوله تعالى: { { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45].
فالحياة الدنيا ليست تشبه الماء وحده، إنما ماء نزل من السماء واختلط بتراب الأرض فأخرج النبات لكن سرعان ما يهيج ثم يصفر ثم يجف ويتفتت، حتى يصير هشيماً تذروه الرياح، كذلك حياة الإنسان في الدنيا، تزهو لك الحياة ثم تنتهي بالموت، هذه صورة تمثيلية مُكوَّنة من عدة أمور تشبه عدة أمور أخرى، وما دامت الدنيا على هذه الصورة فاحذروها، ولا تركنوا إليها ولا تغترُّوا بها.
ومن الصور التمثيلية في القرآن أيضاً قوله تعالى في الذين حُمِّلوا التوراة، ثم لم يستفيدوا منها: { { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً .. } [الجمعة: 5].
فهؤلاء ليسوا كالحمار وحده، بل كالحمار الذي يحمل الكتب، ولكنه لا يفهمها، والحمار ليست مهمته أنْ يفهم إنما مهمته أنْ يحمل، أما هؤلاء فمهمتهم أنْ يحملوا وأنْ يفهموا ما حملوه، وبذلك تميّز الحمار عنهم.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ .. } [الفتح: 29].
تأمل هذا المثَل،
===================
29.
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي هذا مَثَل ضربه الله لبيان قضية التوحيد، ويوضح من خلاله الفرق بين عبد لسيد واحد، وعبد لعدة أسياد، وهذه صورة مكوَّنة من عدة عناصر، فالرجل مملوك لشركاء، وليْتهم متفقون على شيء، إنما متشاكسون مختلفون، كل منهم يأمر بشيء، فإنْ أرضى هذا أغضب ذاك، وإنْ أطاع سيداً عصى الآخر.
إذن: كيف يبدد نفسه؟ وكيف له أن يستريح فهو دائما في حيرة من أمره؟ أما الآخر، فعبدٌ لسيد واحد، أمره واحد، وهو مرتبط بسيده، قاصرٌ خدمته عليه.
{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً .. } [الزمر: 29] ويترك الحق سبحانه لك أنْ تجيب أنت على هذا التساؤل { هَلْ يَسْتَوِيَانِ .. } [الزمر: 29] لا نملك إلا أنْ نقول: لا يستويان أبداً، ونُقِر نحن بهذه الحقيقة، وهذا هو مقصد القرآن أنْ نُقِر نحن بها، لا أن تُلقى إلينا كخبر من الله تعالى، وهذا الذي نحكم به يقوله كلُّ عاقل، ولا يردّه أحد.
فالعبد المملوك لسيِّد واحد، كمَنْ آمن بالله تعالى وأخلص له العبادة وحده سبحانه، والعبد المملوك لشركاء متشاكسين مثال للعبد الذي أشرك مع الله في العبادة، وعليك أنت أنْ تعتبر.
وقوله سبحانه: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ .. } [الزمر: 29] أي: الحمد لله على أنْ ضرب لنا الأمثال، وأوضح لنا الأمورَ لنأخذ المعقول المعنوي بالمُحَسِّ المادي، فالذي يعبد الله وحده لا شريك له يعيش مرتاحَ البال، هادئ النفس، مطمئن القلب، على خلاف مَنْ يعبد آلهةً متعددة، فهو مشتّتُ النفس، غير مستقر البال، إنْ أرضى سيداً أغضب الآخر، وليس لديه القوة التي تعينه على إرضاء الجميع، فهو أشبه بالخادم الذي يقول (أناح أقطع نفسي؟)
فالحمد لله الذي نزَّل القرآن عربياً، لا عِوَجَ فيه، والحمد لله الذي ضرب لنا فيه الأمثال التوضيحية التي تُقَرِّب ما تقف فيه العقول بالذي تتفق فيه العقول.
===========30. 31.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
٣١ -الزمر
أضف للمقارنة
خواطر محمد متولي الشعراوي
كان كفار مكة إذا أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء أو وعكة صحية، أو نزلتْ به شدة كما حدث في أُحُد يفرحون لذلك، فما بالك لو مات رسول الله؟ لذلك يقرر القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] فعلامَ يفرحون وهذه نهاية الجميع، كما قال في موضع آخر: { { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34].
لكن المسألة لن تنتهي عند هذا الحدِّ، إنما بعد الموت حياةٌ أخرى، فيها حساب وجزاء ووقوف بين يدي الله تعالى، وساعتها سيكون النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مقام، أما أنتم فسيكون موقفكم موقفَ المخالفين لله، فماذا تقولون؟ هذا معنى قوله سبحانه { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31].
ومعنى { إِنَّكَ مَيِّتٌ .. } [الزمر: 30] هكذا بالتشديد. أي: ذاهب مُنْتهٍ إلى الموت ففرْق بين ميّت بتشديد الياء وميْت بسكونها، ميّت يعني من سيموت ويؤول إلى الموت، ولو كان حيّاً، لأن الله خاطب رسوله وهو ما يزال حياً. أما ميْت فمَنْ مات بالفعل.
ومن ذلك قول الشاعر:
وكُلُّ أَنَامِ اللهِ فِي النَّاسِ مَيِّتٌ وَمَا الميْتُ إلاَّ مَنْ إِلَى القَبْرِ يُحْمَلُ وقوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] فيه تطمينٌ وتأسية لرسول الله، كما خاطبه سبحانه بقوله: { { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77] وهنا قال: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31].
يعني: إما أنْ ترى انتقام الله منهم في الدنيا وإلا ففي الآخرة، إذن: من مصلحتك أنت أنْ تنتقل إلى الرفيق الأعلى لنختصر المسافة، وترى بعينك مصارع الكافرين المعاندين، فلا تضعف ولا تذل؛ لأن لك مآلاً عند الله تأخذ فيه جزاءك، ويأخذون جزاءهم.
والحق - سبحانه وتعالى - لما تكلَّم عن الموت في سورة تبارك، قال: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ .. } [الملك: 1-2].
فتأمل { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ .. } [الملك: 2] وجعل الموت أولاً مع أنه بعد الحياة، ذلك لأن الحياة ستعطيك نوعاً من الغرور، حين ترى جوارحك تستجيب لك، والأسباب تستجيب لك والدنيا تعطيك فلا بُدَّ أن يدخلك الغرور، فأراد الحق سبحانه ألاّ نستقبلَ الحياة بالغرور، بل نستقبلها أولاً بهذه الحقيقة التي تناقض الحياة وهي الموت.
إذن: فالعاقل يفهم أنه صائر إلى الموت، ويقضي رحلة حياته وهو على ذكْر لهذه النهاية.
وقوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31] وستكون أول خصومة بين الأنبياء ومَنْ كفروا بهم هي مسألة البلاغ حين يشهد الرسل أنهم بلَّغوا أقوامهم رسالة الله، فإذا بهم يتعللون، يقولون: اعتقدناه سحراً، اعتقدناه كذباً، اعتقدناه تخييلاً، لكنهم ما فطنوا إلى أن الله أكّد هذا بقوله { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. } [البقرة: 143].
إذن: فضّل الله أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم بأنها حملتْ رسالة رسولها، وهذه مسألة لم تحدث مع الرسل السابقين؛ لذلك قال تعالى: { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ .. } [آل عمران: 110] والدليل على حَمْل الأمة لهذه الرسالة أنه لم يأتِ رسول بعد رسول الله، فكأن الله تعالى أَمِن أمة محمد على رسالته، والنبي صلى الله عليه وسلم شهد أنه بلَّغ أمته، وعليهم هم أنْ يشهدوا أنهم بلَّغوا الناس.
وهذا المعنى من معاني الوسطية التي قال الله فيها: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً .. } [البقرة: 143].
وإنْ كانت تتسع لغير ذلك فلأنها وسط في كل شيء، فقد رأينا في غير هذه الأمة مَنْ أنكر الإله، ومنهم مَنْ أثبت آلهة متعددة، وكلاهما تطرف، فجاء الإسلام وقال بعبادة إله واحد لا شريك له، فاختار الوسطية والاعتدال وحَلّ هذا النزاع.
لذلك خاطبنا ربنا بقوله: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً .. } [البقرة: 143] أي: فيكم نواحي الاعتدال، فإذا سمعتم مَنْ يقول بالشيوعية، ومَنْ يقول بالرأسمالية، وإذا رأيتم مَنْ يتعصّب لمذهبه فقولوا: نحن أمة وسطا تركنا للرأسمالية أن تثمِّر طموحها، لأنه ليس للجميع لديه طموح، وحين تثمِّر الرأسمالية طموحها لا بُدَّ أنْ تخدم المجتمع، وانظر كم من العمال يعمل، وكم من البيوت تُفتح.
كذلك الشيوعية فرضنا لهم ما لم يدفعوا إلى غير القادر، إذن: أخذنا ميزة هؤلاء وميزة هؤلاء، بدليل أن النظامين اللذين سيطرا على العالم طوال مدة من الزمن بدأتْ شراستهم تقل، فالرأسماليون أخذوا في التخفيف من حِدَّة الرأسمالية، ونظروا إلى العمال فأعطوْهم حقوقهم وميَّزوهم، وجعلوا لهم نقابات ... إلخ، وكذلك الشيوعية قالوا: لا بُدَّ أنْ يوجد في المجتمع طبقة تقدر أنْ تزِنَ الأمور بطموحاتها، ويجعلوا للعمال فرصاً يعملون بها، وأخيراً انتهت الشيوعية والحمد لله عن آخرها.
إذن: فأمة الإسلام أمة الوسطية أخذت خَيْر النظامين.
نقول: سيكون في الآخرة الاختصام الأول بين الأنبياء ومن كذَّب بهم، واختصام بين أئمة الكفر ومَنْ تبعهم ممَّنْ أضلوهم وأغوْوهم، بين القوم الذين أثروا في السفهاء، وجعلوهم تابعين لهم في الكفر.
وقد صَوَّر القرآن هذه الخصومة في هذا الموقف، فقال: { { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 166-167].
لذلك يقول سبحانه وتعالى: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
إذن: لا بدّ أنْ يختلفوا الآن، ويلعنَ بعضهم بعضاً، ويُلقي كلّ منهم التبعية على الآخر؛ لذلك يقول تعالى: { { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الصافات: 24-29].
هكذا يختصم التابع والمتبوع، وتتفرّق جماعتهم ولا يتناصرون كما تناصروا على كفرهم في الدنيا.
ويُصوِّر القرآن موقفاً آخر للكافرين، حيث سبق قادتهم ورؤساؤهم إلى النار، فجاء التابعون فوجدوا السادة قد سبقوهم، يقول تعالى: { { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ * هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [ص: 55-60].
وكوْنُ القادة يسبقون أتباعهم إلى النار يدلُّ على أنهم أعظم جُرْماً من التابعين لهم؛ لأنهم ضلُّوا في أنفسهم وأضلُّوا غيرهم، وفيه أيضاً قطْعٌ لأمل التابعين في النجاة والخلاص من النار، ومَنْ يخلصهم وقد رأوا سادتهم وقادتهم قد سبقوهم إليها؟
وفي المقابل يعرض الحق سبحانه هذا الحوار بين المؤمنين في الجنة: { { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } [الصافات: 51] أي: صاحب من أهل الكفر { { يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 52-55].
يعني: نظر من السور فإذا بقرينه في سواء الجحيم، يعني: في وسطها. فقال: { { تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [الصافات: 56] تهلكني معك { { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } [الصافات: 57].
وقد يكون حواراً بلا خصام، كما في قوله تعالى: { {
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ
وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ
وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [الأحزاب: 66-68].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق